آراء

أوكرانيا: اللاجئون والعنصريّة والمعايير الغربيّة

كاظم الموسويكيف فضحت المواقف، في تمييز اللاجئين والمعايير المزدوجة والعنصريّة المتأصّلة؟! أسئلةٌ محرجةٌ وأجوبتُها محزنة، بحجمِ مأساتها؛ فالحقائقُ التي تمّت بالصورة والصوت لا يمكن إنكارها أو التهرّب منها؛ فضائحُ لا تشرّفُ أحدًا.

 ما يجري في أوكرانيا من أحداثٍ على صعد الهجرة، النزوح واللجوء، والتمييز العنصريّ وازدواجيّة المعايير، يفضحُ سياسات مديري تنفيذ الرأسماليّة المتوحّشة؛ الغربُ الرأسماليّ بإدارة الولايات المتّحدة الأمريكيّة وذراعها العسكريّ، حلف شمال الأطلسي/الناتو، ومجمّعات صناعتها العسكريّة، والطاقة وأجهزتها السوداء؛ انكشفت هذه القضايا المستترة في تلك الأحداث.

في الوقائع اليوميّة وفي العموم لما حصل له أسبابه التي تنسى، ولا يجري الحديث عنها وتسلّط الأضواء على النتائج والتداعيات دومًا، وحتّى هذه لا تُأخذ مأخذ الجدّ والصراحة والموضوعيّة، على صعيد المواقف ووسائل الإعلام، التي لم تتوقّف يومًا من الردح بهذه المصطلحات ونهج التضليل.

مشاهدُ اللجوء التي تظهرها وسائلُ الإعلام، وتبثّها الفضائيّات بكلّ اللغات، تفضحُ العنصريّة المتأصّلة في الغرب، وتعرّي طبيعة التمييز العنصري، أمامَ أنظار الجميع، كلّ من يرى ويسمع وله بصرٌ وبصيرة، وهي من ثَمَّ خرقٌ عمليٌّ للاتفاقيّات الدوليّة، الموقّعة عليها 170 دولةً في العالم، ومن بينها دولُ أوروبا والولايات المتّحدة، للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، وقد عرفته الأمم المتّحدة بقرارها الذي أخذ به نهايةَ عام 1969 " (يقصد بتعبير التمييز العنصري) أي تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقومُ على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القوميّ أو الإثني، ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريّات الأساسيّة، أو التمتّع بها أو ممارستها على قدم المساواة في الميدان السياسي أو الاقتصاديّ أو الاجتماعيّ أو الثقافيّ أو في أي ميدانٍ آخر من ميادين الحياة العامة".

إضافةً لفشل كلّ هذه الدول في احترام توقيعها والحفاظ على بنود الاتفاقيّة وتعريفها الصريح، قام الإعلام الغربي والمتخادمون معه من باقي اللغات، بازدواجيّةٍ مقيتةٍ في المعايير، خاصّةً في نقل أو التعليق مع ممارسات حرس الحدود الأوروبي والشرطة وممثّلي المنظّمات الموجودة على الحدود الأوكرانيّة مع اللاجئين على أساس العرق واللون والدين. كما كشفت قنواتٌ إخباريّةٌ عدّةٌ، وصحفٌ ومواقعُ إلكترونيّةٌ دوليّةٌ عن عنصريّة القوى المتنفذة في الغرب في تغطية الأحداث في أوكرانيا، بعباراتٍ عنصريّةٍ تمييزيّةٍ بحتة، حيث إنّ اللاجئين هم أكثرُ الفئات التي تعاني من حالات الهجرة واللجوء وترك الديار والأهل والمرابع التي ألفوها... ولا فرق بين لاجئٍ أبيضَ أو أسودِ اللون، ولا فرق بين لونِ بشرةِ لاجئٍ أسيويٍّ أو إفريقيٍّ أو غيرهما من طالبي اللجوء من أركان المعمورة، أو المفروض عليهم ذلك قسرًا... لكن ما حصل على حدود أوكرانيا كشف المستور المتأصّل في أوروبا، وفضح المقياس الذي تعاملت به من تمييزٍ بين اللاجئ الأوروبي الأبيض وبين اللاجئ غير الأوروبي، وهذه الممارسات تفضح العنصريّة ومظاهرها بالدول الغربيّة عمومًا، وتستعيد ماضيًّا غيرَ مشرّفٍ لأصحابه، ويشعر بالخزي منه ومن ارتكاباته على جميع الصعد وعلى مرّ العهود.

كتب عن ازدواجية المعايير الأوروبيّة هذه في التعامل مع اللاجئين، بحسب لون بشرتهم؛ الكاتب دانيال هاودن في مقال رأي نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانيّة، أشار فيه: إلى أنّ اللاجئين غير البيض يتعرّضون لمعاملةٍ عنصريّةٍ منذ بداية الحرب في أوكرانيا، فمثلًا أظهر أحد مقاطع الفيديو تعرّض رجلٍ أسود البشرة للضرب على يد ضباط شرطة الحدود الإسبانيّة، بسبب تسلّقه سياجًا حدوديًّا، كما أنّ إحدى الصور كشفت حشدًا من الرجال البيض يرتدون الزي العسكري يضربون بشراسةٍ رجلًا من ذوي البشرة السوداء، وهو ما لم يقع في الحالة الأوكرانية (!). وذكر الكاتب: أنّ الحرب في أوكرانيا، دفعت أوروبا إلى إعادة اكتشاف مشاعر الشفقة والرحمة لتخلق ازدواجيّةٍ في تعريف "اللاجئ"، بعد فترةٍ مظلمةٍ ومثيرةٍ للانقسام مثّل فيها اللجوء في أوروبا تهديدًا حقيقيًّا! بحسب الكاتب. ولم يتوقّف الكاتب ولا أمثاله الذين اكتشفوا مشاعر الشفقة والرحمة الأوروبيّة، عند آلاف المهاجرين الذين فقدوا حياتهم في البحار والحدود الأوروبيّة.

ما جرى في أوضاع اللجوء هذه، من تمييز اللاجئين الأوكرانيّين وهم يعبرون الحدود إلى بولندا، نموذجًا، واستقبالهم بالأعداد الكبيرة؛ فضيحةٌ ناطقةٌ لتلك الدولة الأوربيّة ذاتها التي تقوم بوضع أسلاكٍ شائكةٍ وبناء جدارٍ على امتداد حدودها مع بيلاروسيا لمنع اللاجئين السوريين والأفغان والعراقيين من الدخول إليها، وأشركت الاتّحاد الأوروبي وحلف الناتو معها في هذه القضيّة.

وسائل الإعلام بكلّ أنواعها، ورغم بعض مراسليها الموزّعين على كلّ الحدود والمدن الحدوديّة وأهداف مموّليها؛ نقلت صورًا مؤلمةً من التمييز ضدّ اللاجئين غير الأوروبيّين الذين فرّوا من أوكرانيا، وكشفت في بعض التقارير المصوّرة والمنقولة مباشرةً عن حالاتٍ تمَّ فيها منع أشخاصٍ من ذوي البشرة الملوّنة من دخول قطارات الإجلاء وعزلهم وإجبارهم على الانتظار لأيّامٍ عند المعابر الحدوديّة، بعد وضعهم في مخيّماتٍ تفتقر إلى أدنى وسائل العيش الكريم، وتم حجزهم بسبب لون بشرتهم وعيونهم، وشعرهم، مع أنهم كانوا يعيشون في أوكرانيا، ويكابدون مع أصحاب البشرة البيضاء والعيون الزرقاء والشعر الأصفر معاناة الحياة اليوميّة، وَفْقَ التوصيفات العنصريّة التي أشاعها أصحابها من سياسيّين وإعلاميّين وإضرابهم؛ لعلَّ أفظعَ مثالٍ على ذلك، اقتراف عددٍ من المعلّقين والمحلّلين السياسيّين ومراسلي شبكات الإعلام الغربي، وحتى بعض الإعلام العربي الناطق بالإنجليزيّة (وهم جزءٌ من نخب الثقافة الغربيّة)، خطاب التمييز بين الأشخاص الذين يحقُّ لهم اللجوء عن غيرهم، واستخدام خطاب تمييزٍ عنصريٍّ صارخ، وطرح مقارنات تنضح بالكراهية والتمييز العنصري، وتفتقد إلى أية مشاعرَ إنسانيّةٍ أو قيم كان يتباهى بها ناطقوها، مما دفع حتّى الأمم المتّحدة إلى انتقاد هذه الموجة العنصريّة الجديدة، والدفاع عن قراراتها بهذا الشأن؛ إذ انتقدت المتحدثة باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين شابيا مانتو، ازدواجيّة المعايير التي تنتهجها بعض الدول الغربيّة تجاهَ اللاجئين، في وقتٍ كشفت الأزمةُ الأوكرانيّةُ والهجرة منها حجم التمييز وازدواجية المعايير في التعامل مع اللاجئين من دولٍ أخرى، واجهت حروبًا أو عواملَ هجرةٍ قسريّة.

وصرحت مانتو، إنّ التصريحاتِ العنصريّةَ العلنيةَ لبعض السياسيين والصحفيين من الدول الغربيّة تثير التمييز بين اللاجئين، وعدّتْ أنّ استخدام عبارات "البيض، الأوروبيّين" للاجئين الأوكرانيّين، وتعبيرات مسيئة للاجئين السوريين والأفغان، أثارت انتباه الكثيرين، وتسبّبت في موجة انتقاداتٍ واسعة. وأضافت مانتو: "لا يهمّ ما هي هويةُ اللاجئين ومن أين أتوا، لنكن أكثرَ إنسانيّةً ورأفة"، وتابعت "لسنا بحاجةٍ لهذا النوع من الخطاب، هذا الوضعُ مأساويٌّ جدًّا للاجئين من أوكرانيا و سوريا وأفغانستان ودول أخرى. لا أحد يرغبُ في أن يكون لاجئًا".

رغمَ أنَّ هذا الموقف إيجابيٌّ للناطقة باسم منظّمةٍ من منظّمات الأمم المتّحدة، وشهادة لها وللتاريخ، إلا أنّ الأمم المتّحدة اشتركت بأشكالٍ أخرى أو بالصمت عن ارتكاباتٍ مماثلةٍ في مناطقَ أخرى، وتدان كما تدان كل المواقف والتصريحات التي ما زالت تستخدم خطابًا عنصريًّا ومفردات الكراهية والتمييز بين البشر والبلدان. لقد عرّت قضية اللاجئين من أوكرانيا قضايا كثيرة، على صعدٍ مختلفة، لكن الحديث عن مفاهيمَ محدّدةٍ لا يغيّر من جوهر التناقض الرئيس بين التوحّش الرأسماليّ ومناهجه في إشعال الحروب، وتوزيع فيض اللاجئين على بلدانه المحتاجة لقوى عاملةٍ جديدةٍ وشغيلة خدمات وعدد سكان معين، يحافظ على بقائها في فلك دائرة النفوذ الأمريكيّ والهيمنة الإمبرياليّة، حيث من المتوقّع أن تصبح أكبرَ موجة هجرة في أوروبا ومن داخلها، وتقدّر تصريحات إعلاميّة هجرة خمسة أو ستة ملايين شخص، وقد يتجاوز هذا الرقم أيضًا، حسب المخطّطات المعدّة لتطوّرات ما يجري على الأرض، ونطقت العنصريّة والتمييز العنصري صارخة في هذه القضايا، وكشفت عن تأصّلها في الغرب، رغمَ كلّ تجاربها ودروس التاريخ فيها، ورغم كلّ التقدّم والتطوّرات الاجتماعيّة - اقتصاديّة والتقنيّة الثوريّة التي عمّت الغرب أساسًا والعالم عمومًا، وفضحت المعايير الغربيّة للمفاهيم التي تتزعمها، وتدّعي قيادتها وريادتها عالميًّا، والمنافية للممارسات الفعليّة التي حصلت على الحدود الأوكرانيّة الأوروبيّة، كما وضح معنى القيم الغربيّة والإنسانيّة التي أصبحت معروفةً الآن، وردّت على ادّعاءاتٍ كثيرةٍ وتصريحاتٍ غيرِ قليلةٍ عن مسائل التكلفة الماليّة ومصادر الإنفاق وبواعث الصراعات الإثنيّة والدينيّة وغيرها، وسيسجّل التاريخ هذه الممارسات وصمة عار على العقل الغربي الذي حكّ جلده، وبانت حقيقة معدنه.

***

كاظم الموسوي

 

في المثقف اليوم