آراء

العصبيات آفة تنخر جسد الدَّولة والمجتمع

مسار غازي

هل خسرنا الفرصة في أن نصبح  شعب ومجتمع ودولة؟

كشف انهيار النظام السياسي في العراق 2003 الغطاء عن ما تبقى من جسد متفسخ من تلك الدولة / الامة، أصابت المتأملين بالدوار! فالعنف البربري الذي لم يفارق التاريخ السياسي العراقي الحديث اتخذ طابعا أثنيا، وقبليا  وضعنا في اشكالية التحول التاريخي الذي لن ينجز. ونقصد به تحول من المجتمع التقليدي ذي النسيج المتمثل بالعصبيات على مختلف اشكالها(قبلية/ عشائرية/ طائفية/ إثنية / مناطقية) الى المجتمع الحديث القائم على المؤسسات المدنية. فالعراقيون لازالوا يعيشون في ظل تشابك الأزمنة ما بين قبلي وحديث. وما بين النسيج العصبي وقناع الحداثة.

عند امعان النظر في عراق ما بعد 2003 نتبين أن وراء النظم العلنية الظاهرة، نظما تقليدية هي التي تمثل القوى الفاعلة والمحركة؛ وذلك في مختلف مجالات الحياة والنشاط المجتمعي. حالة من التداخل الفريد ما بين المستوى التقليدي، والمستوى الحداثوي، ينادي المسؤولون بحكم المؤسسات، وحكم القانون، لكنهم يتصرفون انطلاقا من مرجعية العصبيات التقليدية. في كل إدارة عامة هناك هيكل تنظيمي رسمي يتبع الاسس العلمية في ادارته . يصدر على شكل لوائح وقوانين تعمم ليؤخذ بها. إلا إن القوة المحركة لازالت تنبع من المؤسسة العصبية وهيكلياتها التقليدية البائسة. هو ما جعل الدولة العراقية بكل مؤسساتها تعيش حالة من الازدواجية الفعلية ما بين الظاهر الرسمي والخفي الفعلي. ما يحرك هذه المؤسسات هو النظم العصبية على تباين اشكالها.

شكل ضعف الدولة وروح المواطنة بعد 2003 خطرا داهمًا على حاضر العراق ومستقبله، اذ ساعد على تنامي سلطة قبيلة والطائفة على حساب المواطنة ووحدة الهوية، فضلا عن أن طبيعة المجتمع العراقي ولدت جيلا لا يعرف معنى الانتماء الى الوطن والولاء للدولة الحديثة وروح المواطنة وليس من الغريب ان تستفيد القبيلة وتستعيد سلطتها وان تظهر من جديد التحالفات والعصبيات القبلية والطائفية في جميع محافظات العراق وتنظم نفسها للعب دور سياسي كبير بعد سقوط النظام السابق وانهيار الدولة الشمولية بمؤسساتها واجهزتها البيروقراطية. وبعد الاحتلال الامريكي لم تستطع الدولة الضعيفة توليد أشكال من التلاحم والاندماج المديني بين طبقات المجتمع، ومن الطبيعي أن تستغل المكونات الاجتماعية الاثنية والطائفية وغيرها ضعف الدولة وتفكك مؤسساتها والفوضى الهدامة والتسيب الذي عم البلاد لتحقيق مصالحها وتثبيت وجودها، وان تمارس مختلف الطرائق والأساليب الشرعية وغير  الشرعية لإعادة تعريف نفسها وتوكيد هويتها الفرعية على اساس ايديولوجي.

فالقبيلة في الأصل تكوين اجتماعي ما قبل حداثي تقوم اساسا على وحدة الدَّم والقربى ولها نزعة تعصبية تعبر عن الولاء للقبيلة والانتماء إليها وليس للدولة والوطن، وإن اهميتها ودورها الاجتماعي يكمنان في المحافظة على وحدة القبيلة وقيمها وأعرافها وحل المنازعات العشائرية ضمن المجتمع البدويّ/ الرعوي وليس الحضري. ولا يمكن أن تكون بديلا عن قيم الحداثة والتحضر، التي تتناقض مع حقوق الانسان ومؤسسات المجتمع المديني. والمشكلة الاكبر أنها تحولت اليوم الى مشروع سياسي، وتحول دور المضيف الى ما يشبه الحزب السياسي الذي يقوم بعقد تحالفات عشارية وصفقات سياسية، وللعشيرة نزعة تعصبية تجعل الفرد يقدم ولاءه الكلي لقيم وتصورات العشيرة وليس للوطن.

إن استفحال الولاء للقبيلة والانتماء للطائفة إنما يشكل تحديا كبيرا يواجه بناء الدولة الحديثة وروح المواطنة والهوية، اذ ينقسم المجتمع العراقي اليوم على ذاته على قبائل وطوائف ومناطق ومحلات، حولت الصراعات والمنازعات والعصبيات العشائرية الى المدن والاحياء ومؤسسات الدولة والمجتمع المدني. فثمة تحد كبير يواجه بناء الدولة الحديثة وهيبتها اليوم . ولعل هذا مرده في الاساس الى ضعف الدولة وعدم قدرتها على خلق المواطن الذي يكون ولاؤه للوطن والمواطنة التي تجمع الكل في هوية وطنية واحدة تحقق الأمن والاستقرار والتعايش الاجتماعي السلمي.

***

م. د مسار غازي

في المثقف اليوم