آراء

الهلع من المعارضة.. التقاليد الديمقراطية في السياسة العراقية

ثامر عباسمنذ أن أدركت المجتمعات البشرية ظاهرة السلطة، وهي تتعايش مع حقيقة سوسيوسياسية مضمونها؛ أن ما من سلطة شغلت فضاء العلاقات العامة، وتصدّرت لقياد زمام الشأن السياسي، إلاّ وكانت مقترنة بوجود نمط من أنماط المعارضة؛ سواء أكانت سرية أو علنية، عنيفة أو سلمية، إيديولوجية أو حزبية. لا بل حتى إن مفهوم السلطة لا تستقيم دلالته الوظيفية، إلاّ من خلال ما يوحي بحيازة طرف معين لمقومات القسر والإجبار من جهة، وخضوع الطرف الآخر لشروط الطاعة والامتثال من جهة أخرى. ومن جملة الأمور التي حالت دون تحقيق (المعجزة) الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، ليس فقط ما أشيع عن فساد نظمها السياسية، وتخلف بناها الاجتماعية، وتأخر أنماطها الحضارية، وتكلس أنساقها الثقافية فحسب، إنما – بالدرجة الأساس – غياب معنى الاختلاف في عناصرها السوسيولوجية، وضمور وعي التنوع في مكوناتها الانثروبولوجية، وانعدام إدراك التباين في خلفياتها الرمزية.

ولهذا فان كل من استحوذ على مقاليد السلطة، سواء كان من زعماء الحركات الوطنية، أو من قادة الثكنات العسكرية، تعاملوا مع المجتمع وكأنه وحدة متجانسة، وتعاطوا مع التاريخ وكأنه سيرورة خطية، وفهموا الدين وكأنه عقيدة شاملة، وأدركوا الثقافة وكأنها تصور أوحد، واستوعبوا الهوية وكأنها وعاء جامع، وتصوروا المخيال وكأنه خلفية مشتركة. وهو الأمر الذي أدخل في روعهم إن أي شكل من أشكال المعارضة أو أي نوع من أنواع الممانعة، قمين بإثارة حفيظتهم وإشعال فتيل مخاوفهم، ليس بدافع الحرص على وحدة المجتمع والغيرة على مصالح الوطن، إنما بوازع البقاء في السلطة والتشبث بالنظام والاستمرار بالحكم. بحيث لم تعد تعتبر(المعارضة) حالة خروج عن (الإجماع الوطني) تستدعي الإدانة، أو تطاول على (الشرعية الدستورية) تستأهل القصاص فحسب، بل وكذلك (مرض خطير) ينبغي التخلص منه بأي ثمن، أو(خيانة عظمى) يتوجب استئصالها مهما كانت النتائج. ولأن الممارسة السياسية في عرف الشعوب المتخلفة، هي السبيل السريع والمضمون لبلوغ المآرب الشخصية وتحقيق المصالح الفئوية، فقد بات من المتعذر إن لم يكن المستحيل على من يلج معترك هذا الميدان، قبول فكرة الإقصاء عن المعادلة السلطوية، والموافقة على لعب دور المعارض المزاح عن المكاسب والمبعد عن الامتيازات.

ولذلك فقد كان العنف (المادي والرمزي) بين المتخاصمين هو اللغة الوحيدة المعمول بها والمعول عليها في هذا الإطار. بحيث إن أي فريق يجد نفسه وقد سيق لهذا المأزق الخانق، لا يعدو أن يعيش حالة من الهلع الدائم والرعب المستمر، ليس فقط لأنه فقد زمام المبادرة التي كان من الممكن أن تضع بين يديه خيوط اللعبة، وتمنحه إمكانية التحكم بمداخلها ومخارجها وفقا"لرغبته ومزاجه، إنما خشية بطش السلطة التي استبعد منها وعنف أربابها الذين نافسهم عليها. ومن هذا المنطلق فقد تواضع العراقيين على واقعة؛ إن للسياسة مدخل واحد لا يحتمل التعدد ولا يقبل المشاركة، سمته تجاهل التقيد بالقواعد وعدم الالتزام بالقوانين. فإما أن تزيح خصمك - بكل السبل - لتفوز بالكعكة وتبلغ القمة، وإما أن يطيح بك خصمك - بمختلف الوسائل – لتخسر فرصتك وتهوي إلى الحضيض.

ولهذا فلا عجب والحالة هذه أن يكون طريق السلطة السياسية في العراق معبد بالجثث ومعفر بالدم، طالما إن الصيغ (الصفرية) هي سيد الأحكام في العلاقات والتعاملات. فمنذ أن أبصرت الدولة العراقية نور الممارسة السياسية، وهي ماضية في التهام أبنائها ممن احتسبوا على جبهة الفالق الآخر من المعادلة، ليكونوا معارضين بالاختيار أو مناوئين بالإرادة. ولذلك فمن الخطأ وصمها بأنها دولة طائفية أو عنصرية، إلاّ من باب زيادة تأثيمها ومضاعفة تجريمها ليس إلا. فظواهر العنف التي استوطنت تاريخها، ومظاهر القسوة التي وسمت ممارساتها، لم تكن موجه إلى هذه الطرف أو ذاك بالوصف الطائفي أو العنصري – الذي بات شائعا"هذه الأيام - بقدر ما كان موجها"ضد كل من يعارض (حقها) المطلق في النظام الذي يناسب سياساتها، (وامتيازها) الشرعي  في الحكومة التي تلائم توجهاتها. ونحن إذ نتحدث عن أساليب الدولة العراقية، في مضمار استثمار سلطتها داخل نطاق المجتمع، بغية تفكيكه إلى عناصر وتشطيره إلى مكونات، ومن ثم، تصنيف هذه وتلك حسب درجة ولائها، لا نروم هنا توجيه الاتهام إليها من حيث هي (فكرة) مجردة – كما وصفها الفقيه الفرنسي جورج بوردو – إنما من حيث هي (ممارسة) فعلية قام بها أشخاص واقعيين، عبر شبكة من الأجهزة الفاعلة والمؤسسات الداعمة.

ولهذا فقد ترسخت – مع تكرار التجربة - في وعي المواطن العراقي ظاهرة (التشخصن) للسلطة، لا من حيث هي مفهوم يتحدد بالقوة لفرض النظام وبالعنف لقمع الفوضى وبالإكراه لردع التسيب، وإنما من حيث هي واقع يتجسّد في الأشخاص كأوثان مؤلهة، والرموز كايقونات مبجلة، والخطابات كنصوص مقدسة. فالمرء حين يلج عرين السياسة للانخراط في اتونها، لا يفكر في مثالب الأولى من منطلق كونها القاعدة، بقدر ما يخشى عواقب الثانية من واقع كونها الاستثناء. ذلك لأن (سلطة الدولة – كما جادل المفكر اللبناني ناصيف نصّار- لا تتماهى مع سلطة الحاكم ولا ترتد إليها. وان من أكثر الأخطاء في النظر إلى السلطة السياسية، الخلط بين سلطة الحاكم وسلطة الدولة، بكيفية تؤدي إلى جعل سلطة الحاكم تتماهى مع سلطة الدولة، أو إلى جعل سلطة الدولة ترتد إلى سلطة الحاكم).

وكحصيلة لما تقدم فان أزمة تشكيل الحكومة العراقية الحالية، على سبيل المثال، هي بالواقع أزمة مركبة على أكثر من مستوى وإشكالية معقدة على أكثر من صعيد، ناجمة عن تداخل عوامل كثيرة وتشابك عناصر متعددة ينبغي أن توضع بالحسان، إذا ما أريد فهم حالة الاستعصاء التي تعاني منها؛ فهي أزمة (سياسية) لأنها تتصل بنمط علاقات القوى السائد بين الأطراف المعنية، وما تمخض عنها من حساسيات عنصرية واستقطابات مذهبية وصراعات اجتماعية. وهي أزمة (نفسية) لأنها تتعلق بطبيعة الشخصية العراقية ذاتها، وما تراكم في وعيها من ترسبات تاريخية ومخلفات أسطورية. وهي أزمة (ثقافية) لأنها تتمثل بأنساق القيم وتراتب الأخلاقيات، وما أفرزته من علاقات متنابذة وذهنيات متقاطعة. بحيث أضحى الاتفاق على صيغة تفتح مغاليق الأمور العالقة، وتخفّض مناسيب القضايا الساخنة، وتتيح، من ثم، التقارب البيني وتفضي إلى الحلول أمرا"متعذرا"إن لم يكن مستحيلا".

والطامة الكبرى إن كل يمتهن العمل السياسي في العراق، لا يبرع في شيء قدر براعته في إشهار ولائه للديمقراطية كخطابات وادعاءات، وإضمار ازدرائه لقيمها كممارسات ومؤسسات. ولهذا فهو حين يكون في السلطة، لا يني يتحدث عن مزايا الشراكة السياسية في إدارة الشأن العام، إلاّ انه في واقع الأمر لا يتورع عن إقصاء المخالفين للعقيدة التي يؤمن بها، واستئصال المعارضين للنظام الذي ينعم بسلطانه. ولا يبخل في استعراض مناقب التداول السلمي للسلطة والتنازل عن عرشها طوعا"، إلاّ انه في الحقيقة لن يتردد في اللجوء إلى أبشع أنواع العنف وأقسى صنوف البطش بالمنافسين والطامحين، لأجل أن يحتفظ بكرسي الرئاسة مدى الحياة. ولا يخفي ابتهاجه في حسنات التعدد الحزبي والتنوع الإيديولوجي، فضلا"عن ايجابيات قبول الآخر القومي واستيعاب الغير الديني، إلاّ انه في التجربة لن يألوا جهدا"في التشبث بكل ما من شأنه؛ جعله الأوحد في مكانه، والمطلق في زمانه، والأنبل في سلالته، والأقدس في ديانته.

أما حين يكون ضمن صفوف المعارضين للنظام والخارجين عن طوع السلطة، فانه لا يستثني لفظا"في قاموس الهجاء السياسي، ولا يستبعد مفردة في أرشيف القدح الإيديولوجي، دون أن يستخدمها في حربه ضد السلطة ورموزها والنظام وأربابه. لذلك تجده دائم الشكوى سريع الانفعال كثير التبرّم، يتسقط الهفوات مهما كانت تافهة ويؤشر الهنات مهما كانت بسيطة، معزوفاته المفضلة انعدام الحريات وفقدان الحقوق، فضلا"عن ترسانة مثالب قمع لآراء المخالفة وعيوب ردع الأفكار المغايرة، حتى وان كان هو نفسه يضمر ذات النوازع ويخفي نفس الدوافع، فيما لو أتيحت له فرصة اعتلاء عرش السلطة وامتلاك أعنة النظام. كما إن لازمة الديمقراطية ستكون لديه بمثابة التعويذة، التي يحاول من خلالها إبطال سحر الهيمنة الإيديولوجية بالتمنيات لا بالممارسات، وإسقاط هيبة الدولة الشمولية بالخيال لا بالواقع، وإزاحة سطوة السلطة التعسفية بالأقوال لا بالأفعال.

ففي الوقت الذي تعارض فيه سياسات النظام القائم، بما تحفظه من شعارات ديمقراطية جاهزة، وتناهض إجراءات السلطة الفعلية، بما تحتكم عليه من صيغ ليبرالية مفبركة. ليس في وسع عناصر المعارضة التنازل عما تطالب به الآخرين للتخلي عنه، كما ليس في وارد نيتها العدول عما تدين به الغير للزهد فيه. ذلك لأنها على قناعة تامة وإيمان مطلق، بأنه حالما تتيح لها الظروف الموضوعية والإمكانيات الذاتية، فرصة تبوأ مراكز المسؤولية القيادية في الدولة والمجتمع، فهي لن تقيم وزنا"ولا تضع اعتبارا"لأية معارضة؛ سواء أكانت في حقول السياسات (أحزاب وتكتلات)، أو ميادين الفكريات (نظريات وإيديولوجيات)، أو في مضامير المعتقدات (أديان ومذاهب)، أو في فضاء التمثلات (أساطير وخرافات)، أو في أصول الجماعات (أقوام وسلالات)، غايتها القصوى حينذاك تظهير الدولة باسمها وتجيير النظام لحسابها وتفصيل السلطة على مقاسها. مثلما إن من يحكم قبضته على الدولة ويتبختر بصولجان سلطتها، سوف لن يحيد قيد أنملة عما كانت تمارسه المعارضة وتلجأ إليه، فيما لو فقد مقومات  الاحتفاظ بالهيمنة وخسر شروط الاستمرار بالسيطرة، طوعا"وهو الاستثناء أو كرها"وهو القاعدة.

وهكذا فالتقليد السياسية التي شبّ عليها الإنسان العراقي، واجتاف مثلها عقله الباطن، لم تتح له التعاطي مع حقيقية أساسية وهي أن السلطة بغير معارضة، لا بد أن تتحول إلى طغيان مفجع، مثلما إن المعارضة بدون سلطة لن تفضي إلى الحرمان المدقع، طالما إن جميع الأطراف تعمل وفقا"لمصالح الشعب وثوابت الوطن. ومن ثم ترسيخ القناعة بأن وظيفة السلطة، ما هي إلاّ تكليف دوري وتفويض مشروط، ليس فقط لإدارة دفة السلطة بما يحقق الاستقرار السياسي ويضمن السلم الاجتماعي، أو رعاية المصالح العامة بما يصون التفاعل مع الآخر والتواصل مع الغير فحسب، إنما قبول المعارض في عرين السياسة، والمخالف في رحاب الفكر، والمغاير في ميتافيزيقا المعتقد، والمفارق في هلاوس التاريخ، والمباين في فنتازيا الذاكرة. وفي ضوء هذه المعطيات فان محاولات توطين الفكرة الديمقراطية في الوعي السياسي العراقي، وممارسات تبيئة قيمها في منظوماته العرفية وعلاقاته الاجتماعية، لا تبدو فقط جهود سابقة لأوانها بل وفي غير محلها أيضا"، ما لم تتخلص الجماعات السياسية العراقية من هواجس الاستحواذ على السلطة دون منافسين، وكأنها حق الهي وهبة سلطانية من جهة، ومخاوف الوقوع في مصيدة المعارضين وفخ المناوئين، وكأنها لعنة شؤوم وطالع تهلكة من جهة أخرى.

واللافت في الأمران الأساليب المتبعة من قبل المنخرطين في العمل السياسي، لا تتم في أروقة اللغة كنمط من أنماط الحوار، لتغليب الشأن العام على الشأن الخاص فحسب. ولا في رحاب الفكر كصيغة من صيغ المناقشة لإيثار المصالح العاليا على المصالح الدنيا فحسب. ولا حتى في متاهات الايديولوجيا كوسيلة من وسائل تعظيم الولاء الجمعي على الولاء الفرعي فحسب. إنما تجري على أرضية الإقصاء التام والإبعاد الكلي والاستئصال الجذري والتنكيل الشامل، بحيث يصبح العنف والعنف المضاد، هو اللوثة التي تصيب الكل والجرثومة التي تعدي الجميع. ولذلك تبدو السلطة في أعين البعض الضمانة الوحيدة للبقاء، هذا في حين تبدو المعارضة للبعض الآخر السبيل المؤدي للفناء، وهذا ما يفسر سرّ تمسك البعض الأول بمقاليد السلطة، بصرف النظر عما يحيط هذا الإصرار من دواعي الشك في النوايا والريبة في المواقف. كما إن تطير البعض الثاني من التموضع في خانة المعارضة، قمين له إن يفسر لنا، بالقدر ذاته، سرّ تلك الممانعة المتشددة وخبايا ذلك الهلع المفرط.

ولعل ما يظهر مقدار أميتنا في أبجديات السياسة، ومستوى جهلنا بعلاقات الاجتماع، ودرجة تخلفنا بإرهاصات الوعي، هو إننا لم نتعلم قط من تجارب الآخرين، حين تغلبوا على مزاعم حكمة السلطة المطلقة وعصمة الحاكم الديني، بالرغم من ادعائنا المتواصل أنهم استوعبوا تجاربنا وتمثلوا معطيات حضارتنا. كما لم نتعظ نهائيا"بدروس الغير ونحذو حذوهم وننسج على منوالهم، عندما أدركوا إن وحدة اجتماعهم المدني لا تكمن في بوتقة الصهر القومي والديني، بقدر ما تكمن في تنوعهم الاثني واللغوي والمذهبي. وان قوة اجتماعهم السياسي لا تتحقق عبر احتوائهم التنظيمي والإيديولوجي، بقدر ما تتحقق في تعددهم الحزبي والانتمائي. وان رصانة وعيهم الاجتماعي لا تتجسّد عبر تعليبهم الفكري وتنميطهم الذهني، بقدر ما تتجسّد في تباينهم الثقافي والقيمي والعرفي . وان تطور علومهم وتقنياتهم لا تتمظهر عبر مقدساتهم الدينية ومحرماتهم السردية وتابواتهم الأسطورية، بقدر ما تتمظهر في حريتهم الفكرية والنقدية والتأويلية. وان ثراء إنجازاتهم الحضارية لا تتقوم عبر انعزالهم الجغرافي وانغلاقهم الفكري وتقوقعهم التاريخي، بقدر ما تتقوم في مرونة علاقاتهم وسهولة تواصلهم وبساطة انفتاحهم.

ولهذا لم تعد ظاهرة (المعارضة) في تلك البلدان، بما هي اختلاف في الانتماء السياسي / الحزبي، وتباين في الاعتقاد الديني / المذهبي، وتنوع في الخيار الفكري / الإيديولوجي، وتعدد في المنحدر القومي / الاثني، وتغاير في الأصل الثقافي / اللغوي. حدثا"طارئا"في حياتهم الاجتماعية وواقعة آنية في ممارستهم السياسية، إنما باتت جزء حيوي من تكوينهم كمجتمعات، وعنصر مصيري في تنظيمهم كحكومات، ومطلب أساسي في سيرورتهم كحضارات. بمعنى إن صيغة المعارضة سواء في بعدها السياسي أو الاجتماعي أو الإيديولوجي أو الديني أو المذهبي، لم تعد تحمل دلالات الإقصاء والتهميش والإبعاد والاستئصال والحرمان، بقدر أضحت تعني المشاركة عند بعد عبر المراقبة، والإسهام من خلف الكواليس عبر النقد، والتدخل من وراء الحجاب عبر المساءلة. لاسيما وان ظواهر تأبيد الحاكم الأوحد، وتمجيد الحزب القائد، وتسييد الايديولوجيا الوحيدة، باتت من مخلفات الماضي الغابر وتركات عصر الجهالة من جهة، وان إمكانية الوصول إلى السلطة وامتلاك ناصية النظام وحيازة مقاليد الدولة، أضحت مشرعة أمام من الجميع، لا بناء على اعتبارات القوة العسكرية والجسارة الثورية، إنما وفقا"لمقومات الأهلية والكفاءة والنزاهة والشعور بالمسؤولية، ولا بناء على احتمالات البقاء مدى الحياة باسم الدين أو القومية أو الحزب أو المذهب أو الطائفة، إنما وفقا"لضمانات الشرعية الدستورية والدورة الانتخابية والصلاحية النسبية من جهة أخرى. هذا في حين إن سيكولوجيا الجماعات العراقية المنخرطة في أتون اللعبة السياسية، مبنية على تحيّن الفرص للانقضاض على السلطة، بصرف النظر عما إذا كانت ملكية أم جمهورية، واهتبال الظروف للانتقام من الرموز، بصرف النظر عما إذا كانوا أشرار أم أبرار.

ويكفي أن تستعرض المصير المأساوي الذي آلت إليه تجارب (النظام الملكي) ولا حقا"(النظام الجمهوري)، للدلالة على شذوذ هذا المنحى الدراماتيكي. وهو الأمر الذي كرس عوامل القلق البيني، وعزز مشاعر الخوف المتبادل لدى الأطراف المعنية، على خلفية إن الذي يمسك بمقاليد السلطة، لا يمعن فقط بالاستحواذ على كل مقومات الهيمنة والتحكم بجميع منافذ السيطرة، خشية ردود أفعال خصومه ومنافسيه (= معارضيه) فحسب - التي غالبا"ما تكون تآمرية وعدوانية -  إنما يفرط في حرمانهم من كل وسيلة ممكنة (مادية أو معنوية)، تكون لهم عونا"في صراعهم ضد أشكال تسلطه وأنواع تعسفه. وطالما أن السلطة لم تترك مجالا"أمام قوى (المعارضة)، لإسماع صوتها والتعبير عن نفسها والمطالبة بحقها، وبالتالي التخفيف من احتقانها السياسي والتلطيف من تأزمها النفسي . فان هذه الأخيرة ستكون والحالة هذه، مجبرة على اختيار طريق الإزاحة بالقوة بدلا"من إجراءات التحاور والتناظر، ومضطرة لانتهاج سبيل الإطاحة بالعنف بدلا"من آليات التفاهم والتقاسم. ليس فقط لقلب المعادلة السياسية وتغيير أقطابها والظفر بالسلطة فحسب، وإنما لتكيل الصاع صاعين لمن كان سببا"في حرمانها حقها في السلطة، وعاملا"على إقصائها عن دورها في الحكم، ومن ثم إرغام مستعبديها على الارتشاف من ذات الكأس، التي كانوا قد أذاقوها مرارته ذات يوم. وهكذا وفي ضوء هذه الوضعية المأزقية في السياسة العراقية، ليس هناك من يجرؤ على تخطي إطار هذه الحلقة الجهنمية، التي لم تبرح تذر قرن الخلاف الإشكالي المستديم، بين أطراف الوطن الواحد القضية الواحدة والمصير المشترك.

***

ثامر عباس

في المثقف اليوم