آراء

قضية الإعلامي الجزائري: أنيس رحماني تعيد إلى السطح إشكالية المثقف والسلطة

بغض النظر عن الإتهامات الموجهة إليه في قضايا الفساد، والمتهم لا يعتبر متهما حتى تثبت إدانته خاصة وأنيس رحماني لم يحاكم بعد عن التهم الموجهة إليه، وليست هذه الورقة دفاعا عنه فالقانون وحده من يفصل إن كان هذا الرجل مدانا فعلا أو بريئا، ما يراد في هذه الورقة هي تسليط الضوء على فكرة من زاوية إعلامية وجرأة الرجل في الكتابة عن الأحداث التي عاشتها الجزائر في مرحلة اتسمت بالعنف والتطرف، في وقت استعصت على آخرين الخوض فيها وتجنيب اقلامهم في الكتابة عنها، هكذا ارتبط اسم محمد مقدم مدير مجمع النهار المعروف في الوسط الإعلامي باسم أنيس رحماني بهذه الأحداث وأصبح مؤرخها إن جاز التعبير، ولعل جرأته وشجاعته في الكتابة لكونه ينحدر من أسرة ثورية خاضت حربا شرسة ضد اقوى امبراطورية في العالم (فرنسا)، ولعل هذه الصفة مكنته من تسخين قلمه والتأريخ لأحداث قد تعود جذورها إلى ايام الإحتلال الفرنسي في الجزائر، الذي زرع عيونه ونشر عملاءه لضرب الهوية الوطنية ومحاربة الإسلام وفرض الثقافة التغريبية على الجزائريين.

فالفساد لا يتعلق بنهب االمال فقط وإنما له مفاهيم كثيرة ومختلفة، فالسلطة ما فتئت على أن تفرض فكرها على النخبة في إطار ما يسمى بالتبعية الفكرية، ولا تقبل من يجادلها أو يعرض/ يفرض عليها منطقه، فالظروف التي عاشتها البلاد منذ بداية التسعينيات وخروج الحركات الإسلامية إلى العلن ومطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية قلبت الموازين وأخلطت كل الأوراق خاصة وأن الجزائر كانت حديثة الخروج من نظام الحزب الواحد وتبنيها النظام التعددي، وصعب على الحزب العتيد أن يتكيف مع الوضع الجديد الذي اصبحت عليه الجزائر، فحدث ما حدث، وقد تجددت الأحداث مع العودة المسلحة بين المغرب والصحراء الغربية وأحداث أخرى، اثرت على الدبلوماسية الجزائرية خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الجزائرية الفرنسية، وسبقتها مرحلة تميزت بفتح العلبة السوداء التي كانت تخفي حقائق مخيفة عن حالات الفساد التي عششت في مؤسسات الدولة بمختلف قطاعاتها.

 ولولا الحراك الشعبي السلمي الذي انطلق في الجزائر في فيفري 2019 فكان ثورة سلمية حركت مشاعر الجماهير التي التفت حوله وسارت خلف محركيه الذين طالبوا بالتغيير الجذري للنظام، وفصل المؤسسة العسكرية عن السياسة، ومحاربة الفساد وإرجاع الحقوق لأصحابها لما تحركت السلطة في الشروع في المحاكمات مست كبار الشخصيات من وزراء وقيادات عسكرية ورجال أعمال كما مست إعلاميين أيضا ومنهم صاحب الكتاب الأستاذ محمد مقدم الذي كان من أوائل الإعلاميين الذين كانت لهم الجرأة والشجاعة في توثيق أحداث العشرية السوداء ومسيرة الحركات الإسلامية في الجزئر وانخراطها في الحرب مع الأفغان ضد الإتحاد السوفياتي.

فبالرغم من العلاقة التي تربط الجزائر بروسيا التي تعتبر الدولة الشيوعية التي أيدت حركات التحرر ووقفت إلى جانب الجزائر في حربها مع فرنسا، لكن انقلبت الأمور وكانت كفة الجزائر مع الأفغان في حربها مع روسيا قبل أن تعيد المياه إلى مجاريها الطبيعية اليوم في وقوفها مع روسيا ضد الأوكرانيين، وعودة هذه العلاقات شكلت تناقضات وطرحت كثير من الأسئلة لدى الرأي العام، وكما جاء ذكره لا يراد من هذه الورقة التطرق إلى قضية أنيس رحماني المتابع فيها قضائيا بقدر ما يراد منها ارتباط هذا الرجل إعلاميا بقضية الأفغان الجزاريون ودورهم في تحريك الساحة الجزائرية والتأثير في الجماهير لدرجة وقوفهم وجها لوجه أمام النظام الجزائري، بعدما تلقوا تدريبا عسكريا محكما على يد أفغانيين متمرسين عسكريا.

لقد شارك رجال وشباب جزائريون بمختلف أعمارهم ومستوياتهم منهم قادة أحزاب وآخرون أئمة من داخل وخارج الجزائر، كان من الممكن أن يطلع الشباب الجزائري من الجيل الحالي على جهاد الجزائريين في فلسطين، كما اطلع من سبقوه على جهاد الجزائيين في الهند الصينية وجهادهم في حرب أكتوبر 1967 ثم جهادهم في أفغانستان، خاصة وأن البعض من الشباب لا يزال غير مطلع على كتاب انيس رحماني وما جاء فيه من حقائق وأحداث من الصعوبة بمكان هضمها واستيعابها، لأن الأدوار كانت مختلفة ولكنها مضبوطة ومُحَكَّمَة، والشخصيات التي لعبت هذه الأدوار كانت متعددة الأوجه والأسماء، فلكل شخص له أدوار متعددة لأنهم كانوا ينشطون بأسماء مستعارة فنجد شخصا بعشرة أسماء وبالتالي يصعب فرزهم أو تحديدهم والتعرف عليهم إلا إذا كحانت هناك متابعة دقيقة لنشاطاتهم، ما يؤكد أن "الجيش الإسلامي" أكثر تمرسا وخطرا من الجيوش التي عرفتها الشعوب عبر التاريخ.

  البداية كما جاء في كتاب أنيس رحماني انطلقت بمجموعة من الإسلاميين يمثلون شريحة واسعة من الأئمة شكلوا ائتلافا إسلاميا يقودهم إمام فلسطيني اسمه عبد الله عزام وقد وطد هذا الأخير الصلة بين الجزائريين والشخص الثاني هو شاه مسعود أحمد وهو طاجيكي يزعم الجماعة الإسلامية في إقليم بيشاور، وشكلت الجماعة المتحالفة كتيبة الجزائريين تنشط تحت إشراف شاه أحمد مسعود الطاجيكي بدعم من أموال الخليج، وكانت هذه الجماعة قد مهدت الطريق للتيار السلفي والتحاقهم بالجماعات الإسلامية المسلحة، ويلاحظ هنا الدور الذي كانت تلعبه الخليج قي دعم العنف والتطرف، كان عبد الله عزام يروج فكرة الجهاد في أفغانستان عبر الصحف والمجلات ومنها مجلة المجتمع التي كان ينشر فيها فتاوى على أن الجهاد في أفغانستان فرض عين على الأمة الإسلامية، وشجع علماء آخرين ودفعهم إلى تبني فتاويه.

 السؤال الذي يمكن أن نطرحه هنا هل يعقل أن يفتي إمام فلسطيني بشرعية الجهاد في أفغانستان وبلاده فلسطين وابناء جلدته يعيشون تحت تير الإستعمار الإسرائيلي والمسجد الأقصى مهدد؟، المشكلة أن العلماء المسلمين سواء علماء الأزهر أو الزيتونة أو علماء القيروان بما فيهم علماء الجزائر لزم بعضهم الصمت ولا نقول جميعهم، ولم يحركوا ساكنا، بل صادقوا على فتوى عبد الله عزام بأن الجهاد في افغانستان واجب شرعي وكل مسلم ملزم به، ولم يدعوهم إلى الجهاد في فلسطين وكما جاء في الصفحة 23 من الكتاب، من العلماء الذين أيدوا الفتوى الشيخ القرضاوي وابن باز وابن عثيمين وعبد الله ناصع وكان الذهاب إلى أفغانستان عن طريق المملكة السعودية، حسبما جاء في الكتاب فإن عبد الله عزام ارتبطت معه علاقة مع زعيم القاعدة أسامة بن لادن المهووس بنصرة الشعب الأفغاني، لم يكن في المجموعة التي شدت رحالها إلى أفغانستان جزائريون فقط بل من مختلف الجنسيات منهم عراقيون (ابو الجود وشقيقه) وهذه الرواية ذكرها أحد الجزائريين الملقب بـ: عبد الله أنس وهو اسم مستعار أطلقه عليه عبد الله عزام بدلا من اسمه الحقيقي بوجمعة.

من هو الأب الأفغاني للجماعة؟

قد يتفاجأ البعض الذين لا زالوا يجهلون الأحداث بكل تفاصيلها من هو الأب الأفغاني للجماعة أو "عرّابها " إن صحّ القول، ما هو اسمه الحقيقي ومن أي منطقة ينحدر؟، الجواب وكما ورد في كتاب الأفغان الجزئريون إنه المدعو (ق س) (الإسم الحقيقي كاملا مذكور في الكتاب) ابن مدينة قسنطينة المعروفة باسمها القديم سيرتا (700 كلم عن العاصمة الجزائرية) وهو من بين أخطر عناصر "الجماعة الإسلامية المسلحة" ومؤسسها الحقيقي في باكستان سنة 1991، وذلك بمعية الملقب أحمد الود وابو ليث المسيلي وغيرهم، كان (ق.س) متأثر بأفكار الهجرة والتكفير التي أطلقتها الجماعة الإسلامية في مصر، التحق بالقاعدة التي يقودها ابن لادن وأعلن حربه على "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" FIS، بسبب تحزبها (أي تاسيسها حزب سياسي)، لأنه كان يرى أن التحزب كُفْرٌ والديمقراطية كُفْرٌ أيضا، وفي نفس الكتاب نقرأ أن كل الروايات التي ذكرها عبد الله أنس (بوجمعة) تؤكد أن الحرب لم تكن ضد الإتحاد السوفياتي وإنما كانت ضد جماعات التصقت بها تهمة الكفر والخروج عن الإسلام من الأفغانيين أنفسهم، ويبدوا أن الأجهزة الإستخباراتية قد اندست في صفوف الجماعات الإسلامية، وبالتالي كيف لشخص أردني فلسطيني وهو المدعو (م.حمدي) كما جاء في الكتاب يعلن عن تنظيم "جيش محمد" ويدعو الناس للجهاد، ثم يُمْنَحُ له منصب وكيل وزارة (اصفحة 30 من الكتاب) .

الغريب ان هذه الجماعة سرعان ما انقلبت على نفسها ودخلت في صراعات داخلية بسبب قضية التعيينات حيث ظهرت عملية التصفيات بحجة عدم التحكم في التكتيكات العسكرية وبالإضافة إلى المحاكمات التي جرت في بداية سنة 1993 ضد 40 عنصرا من جماعة الهجرة والتكفير بقيادة (ع. عبد النور) الملقب بالأمير نوح والذي يعتبر العقل المدبر والمنفذ لسلسلة العمليات التي عرفتها الجزائر منذ 1989، وأحداث الرعب والقتل والخطف والتفجيرات التي وقعت في كل القطر الوطني لاسيما أحداث قمار وورقلة جنوب البلاد والبليدة وفي كل ولايات الوطن منهم من صدر ضدهم بالإعدام (ص46)، كما تطرق أنيس رحماني بشكل من التفصيل لتحركات الجماعة الإسلامية المسلحة وتنقلات ابن لادن وخلافه مع المدعو جمال زيتوني أمير الجماعة الإسلامية المسلحة، ثم الخلافات التي برزت بين زيتوني وأبو قتادة الفلسطيني.

 قد يرى المطلعون على هذه الأحداث ومتتبعيها بأنها مجرد تحصيل حاصل، لكن الكتاب تطرق إلى كل صغيرة وكبيرة وبالتفصيل كاشفا عن أحداث يجهلها الكثير داخل وخارج الجزائر، خاصة ما تعلق بنشاط الشبكات السرية في العالم فرنسا بريطانيا وفي باقي اوروبا وكيف انتقلت الحرب الى الخارج وحتى في دول المغرب العربي، وهي تحتاج كما يقال إلى إعادة فرز الأوراق من جديد، خاصة ما تعلق بقضية الطائرات الإنتحارية التي هزت الولايات المتحدة الأمريكية يوم 11 سبتمبر 2001 وهي كما جاء في الكتاب (الصفحة 145) فكرة جزائرية، وضم الكتاب روايات عن قضية اغتيال الفنان الأمازيغي معطوب الوناس ومنها رواية حركة الضباط الأحرار التي تضم عددا كبيرا من الضباط السابقين في الجيش الجزائري ورواية سيد علي بن حجر أمير الرابطة الإسلامية للدعوة والقتال وغير ها من الشهادات، حول الأحداث التي وقعت خاصة مقتل الوناس وموقف الجبهة الإسلامية للإنقاد من "الجيا"، حيث كانت الجبهة افسلامية للإنقا رافضة العمل المسلح وممارسة العنف، ليس من السهل طبعا التطرق إلى الأحداث التي وردت في الكتاب لأنه كما أسلفنا كل الشخصيات المذكورة كانت تنشط بأسماء مستعارة ولعبت أدوارا متعددة، فكل نشاط قامت به كان باسم مستعار يختلف عن الأسماء المستعارة الأخرى التي نشطت بها في مختلف المواقع، لاسيما وبعض هذه الشخصيات كانت لها علاقة بحركة الطالبان الجزائرية التي انشقت عن الجماعة الإسلامية المسلحة والتي تضم عدة كتائب منها كتيبة حماة الدعوة السلفية وهي من قدماء الأفغان الجزائريين الذين أسسوا كتيبة الأهوال، وكتيبة الحق، وكان عناصر هذه الكتائب يتجاوز عددهم 300 عنصرا مسلحا، مما دفع بأمير التنظيم المسلح إلى توسيع الكتائب فظهرت كتيبة الطلبة، وهنا يلاحظ كيف تمكنت الجماعة الإسلامية المسلحة من التأثير في الطلبة ثم ظهور جماعة حطاب ..الخ

ما يمكن الإشارة إليه هو أن متابعة أنيس رحماني قضائيا حسب ملاحظين ليس قضية فساد اقتصادي فقط، بل هي مرتبطة بعلاقة المثقف والسلطة، بدليل أن كثير من الإعلاميين في الجزائر توبعوا قضائيا وآخرون اعتقلوا وبعضهم اغتيل ايام العشرية السوداء وبعدها بسبب مواقفهم الجريئة، واستمرت الإعتقالات السياسية أيام الحراك الشعبي في 2019، فنحن إذن أمام إشكالية تتعلق بعلاقة المثقف والسلطة، فكثير من المثقفين من تضعهم مواقفهم تحت رحمة خصومهم في المؤسسة السياسية الحاكمة وما يلاقونه في السجن من ممارسات تعسفية لا ترقى إلى مستوى الإنسانية، فقمع السلطة لأفراد معدودين يبث الرعب في باقي أفراد المجتمع، السبب هو أن هذه الفئة تساهم بشكل كبير جدا في صناعة الرأي العام وفي صناعة القرارات الحاسمة ما يجعلها في تواصل دائم مع الجماهير وقد استطاع المثقفون أن يمارسوا أشكالا متنوعة من السلطة بصفتهم أعضاء في احزابا سياسية موالون للسلطة وآخرون محسويون على حركات تيارية فكرية معارضة، وه الفئة طبعا تقلق السلطة الحاكمة.

***

علجية عيش بتصرف

 

في المثقف اليوم