آراء

النهج الاستعماري الاستيطاني في تكوين السياسة البريطانية

مصعب قاسم عزاوينهج الاستعمار الاستيطاني مبتنى على وعي تلفيقي مستقى بشكل بربري من نظرية الاصطفاء الطبيعي في نسق تطور الكائنات الحية لاستخلاص نهج متوحش في الحيز الاجتماعي مفاده بأن «البقاء حصري للأقوى والأكثر فتكاً بينما الاندثار البيولوجي والاجتماعي مصير الضعفاء غير القادرين على اجتراح وجودهم في غابة الحياة الوحشية بمخالبهم وأنيابهم». وذلك النموذج من الوعي متأصل في نهج السياسة الاستعمارية البريطانية تاريخياً، و هو ما وجدت فيه رافعة لصيرورتها الوحشية البربرية المنفلتة من كل عقال أخلاقي بحجج تلفيقية هرائية نشأت في بواكيرها حول «واجب ديني ملفق» يستوجب قمع المؤمنين من أتباع المذهب المسيحي الكاثوليكي لصالح تقوية المؤمنين بالمذهب المسيحي البروتستانتي، وهو في الواقع كان تورية لما كان يقوم به الأقوياء الأثرياء المتنفذون من الفئات الاقتصادية الصاعدة بحق مظلوميهم من المستضعفين المقهورين المنهوبين؛ وهو ما قام به وما زال يقوم به البريطانيون منذ ما يقارب الألف عام في الجزيرة الإيرلندية، وهي الجزيرة التي احتلها البريطانيون منذ النصف الثاني من القرن الثاني عشر بالقوة، ولا زالوا يحتلون الجزء الشمالي منها المعروف بإيرلندا الشمالية بقوة السلاح العاري حتى اللحظة المعاصرة بشكل لا يختلف عن نموذج الاستعمار الاستيطاني الذي كان قائماً في حقبة «نظام الفصل العنصري» في جنوب أفريقيا، أو ذلك النظام القائم راهناً في فلسطين المحتلة. وهو الاحتلال العسكري لإيرلندا الشمالية الذي لا زال قائماً بالقوة لتكريس مفاعيل «التطهير المذهبي والعرقي» الذي قام به الإنجليز بشكل ممنهج على امتداد تاريخ استعمارهم الطويل للجزيرة الإيرلندية، وبشكل خاص بعد تخليق «السبب التلفيقي المذهبي» المتمثل بالصراع على تعريف «المذهب الأكثر طهرانية و نقاءً» بين الإنجليز أتباع البروتستانتية، و السكان الأصليين للجزيرة الإيرلندية من أتباع المذهب الكاثوليكي، و هو الذي لم يكن في الواقع إلا صراعاً اقتصادياً اجتماعياً تمثل في صعود الاقتصادات الأوربية الغربية والشمالية وخاصة في بريطانيا وألمانيا وما يعرف حالياً بهولندا وبلجيكا، و التي تبنت في غالبيتها المذهب البروتستانتي، ولم تعد راغبة بالخضوع لسلطة الكنيسة الكاثوليكية والفئات المهيمنة على مفاتيح الحل والعقد فيها في فرنسا وإسبانيا، و الاستمرار في دفع الخراجات المهولة التي كان تطلبها الكنيسة الكاثوليكية من كل أتباعها. وفيما يخص الجزيرة الإيرلندية فقد وجد الإنجليز منذ منتصف القرن السابع عشر حجة مستحدثة تتمثل في «تهجير من كان برأيهم من غير المؤمنين الأحقاق» من الإيرلنديين الذي كان شعبهم يتبع المذهب الكاثوليكي أسوة بكل شعوب أوربا الأخرى الزراعية، وهو ما أفصح عن نفسه بعملية الإفراغ الوحشي لما يعرف بمنطقة «Ulster» في إيرلندا الشمالية من سكانها الأصليين، وجلب سكان جدد من الإنجليز ومن والاهم من الاسكتلنديين للاستيطان في مكان السكان الأصليين الذين تم دفعهم للهجرة إلى مركز الجزيرة الإيرلندية، ومواضع جغرافية أخرى بشكل لا يختلف كثيراً عن نموذج الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الذي حصل في فلسطين خلال حقبة الانتداب البريطاني عليها، وما تلاه من أهوال «النكبة» وتأسيس دولة الكيان الصهيوني فيها بعد انسحاب الإنجليز منها. والحقيقة الدامغة هو أن الإنجليز قاموا على امتداد تاريخهم الاستعماري الطويل في الجزيرة الإيرلندية بعملية استيلاء منظم على كل الأراضي الصالحة للزراعة في شمال الجزيرة، ومنحها للمستوطنين الإنجليز القادمين من إنجلترا، وبحيث لم يترك للمزارعين الإيرلنديين المهجرين من أرضهم سوى حفنة من الأراضي غير الصالحة للزراعة في بقاع جغرافية أخرى من الجزيرة لم تمتد الأيادي البريطانية للاستيلاء عليها لمعرفتهم المسبقة بأن تلك الأراضي أراض بور غير صالحة لأي عمل إنتاجي فيها.

وذلك الواقع التاريخي المؤلم الذي حدث في الجزيرة الإيرلندية لا يختلف كثيراً عما قام ويقوم به الساسة الصهاينة في فلسطين المحتلة، والتي لا يحتاج أي عاقل حصيف لجهد كبير لإدراك أن الباقين من الفلسطينيين في أرضهم، هم بالفعل محشورون فيما يشبه «سجوناً كبيرة» قائمة على أراضي «بور عطشى» يصعب استدامة حياة أي مجتمع طبيعي عليها.

وذلك النموذج من تداخل الوعي العنصري الفوقي المؤسس على رؤية «داروينية اجتماعية تلفيقية»، مع نهج التطرف المذهبي وقمع الآخرين بقوة الحديد و النار، ودعم المليشيات شبه العسكرية الطائفية الذي مارسه الإنجليز ولا زالوا يمارسونه حتى اللحظة الراهنة في إيرلندا الشمالية، وجد تمظهره العياني الذي يفقأ العين في ذلك التبجح الاستعلائي «بالانتصار للديموقراطية» بعد أن انكشفت أكاذيب المنظر والمؤدلج الأول لغزو العراق في العام 2003 الأفاق رئيس الوزراء البريطاني توني بلير كبير منظري تخرصات «أسلحة الدمار الشامل» و«الصواريخ العراقية التي تنتظر دك العاصمة لندن خلال دقائق»، دون اكتراث بمدى بؤس الإخراج الإعلامي و التلفيقي  لأكاذيبه، إذ أن «الأقوياء» غير معنيين بتبرير أفعالهم أخلاقياً أو منطقياً، عدا عن أي تبرير قانوني لها في نظام عالمي بائس جوهره تحكم الأقوياء ممثلين بالأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي المخولين بحق النقض «الفيتو» على كل ما لا يروقهم اعتباره قانونياً وشرعياً، وهو ما أفضى إلى احتلال العراق احتلالاً استعمارياً مباشراً في العام 2003 بشكل لا يختلف عن احتلال الإنجليز راهناً لشمال الجزيرة الإيرلندية، وتحويله إلى ساحة لتصارع أبناء الشعب الواحد، عبر تقوية فريق مذهبي متطرف على حساب غرمائه من فرق المتطرفين الآخرين في شكل يمثل استمراراً لما دأب عليه البريطانيون في «لعبهم الشيطاني على الأوتار المذهبية» لتحقيق مآربهم الاستعمارية، والتي لخصها بامتياز الكاتب البريطاني مارك كورتيس في عدة كتب أهمها كتاب «التواطؤ السري بين الإسلام السياسي والسياسة البريطانية».

***

دكتور مصعب قاسم عزاوي

 

في المثقف اليوم