آراء

من المسؤول عن تجويع العالم: روسيا أم أمريكا؟

محمود محمد عليلا شك في أن ما يجري علي الأراضي الأوكرانية هي حرب شعواء بين روسيا والغرب، أي أنها حرب عالمية بامتياز، أطرافها من الوزن الثقيل، يديرون الاقتصاد العالمي، ويسيطرون على بعض أهم منابع الطاقة، وبإمكانهم في لحظة جنون أن يكبسوا على الأزرار النووية، فيحيلوا العالم إلى شتاء ذريّ، قد تُعرف لحظة بدايته، لكن لا أحد يعرف متى يمكن له أن ينتهي.

المهم أن هذه الحرب أفرزت تضخم لا مثيل له في العالم كله، خاصة بعد أن قفزت أسعار الطاقة ومشتقاتها بشكل جنوني؛ حيث أضحت معظم بلدان العالم بما فيها دول الاتحاد الأوروبي، تعاني مشكلات كبيرة في تأمين احتياجاتها من النفط والغاز، خصوصاً أن العقوبات التي طالت روسيا، وشملت نواحي متعددة، من بينها نظام التعاملات المالية "سويفت"، كان لها تأثير فوري في ارتفاع أسعار الطاقة، وحدوث نقص في المعروض، ما يهدّد بقوة مختلف الصناعات، وحركة النقل، والتدفئة، وكلّ ما يرتبط بالطاقة من أنشطة.

ولهذا نجد العالم في رعب من خلال التضخم الذي طال الأمن الغذائي العالمي، فروسيا هي المصدّر العالمي الأول للقمح، بنسبة تصل إلى أكثر من 18% من القمح الذي تستورده دول العالم مجتمعة، وقد أقرّت حكومتها وقف تصدير القمح والحبوب إلى نهاية يونيو/ حزيران المقبل، وتأتي أوكرانيا في المرتبة الخامسة عالمياً في تصدير القمح، وقد أوقفت أيضاً تصدير منتجاتها الزراعية، ومن المتوقع فعلياً أن تعاني دول كثيرة نقصاً في واردات القمح في المقام الأول، وزيادة كبيرة في أسعار المعروض، ما يعني فعلياً ضربة قوية لغذاء الفقراء الأول «الخبز»، ويجعل من المتوقع، كما تقول قراءات عدة، أن يشهد العالم انتفاضات جديدة، تقوم بها الشعوب الجائعة.

لقد أفرزت الحرب الروسية – الأوكرانية ريادة في مؤشرات التضخم العالمي من خلال زيادة أسعار السلع، وهذه الزيادة لم تكن متوقعة لدي الكثر من الدول وبالذات معظم دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وحتى بعض دول أوروبا، التي لا تمتلك فوائض مالية معتبرة، وبعضها ينوء تحت ثقل الديون للبنك الدولي، ولا تمتلك نظم حوكمة جيدة، وجسدها المؤسساتي منهك من الهدر والفساد، ولديها تاريخ سيئ في التعامل مع الأزمات، ما يجعلها المهدّدة رقم واحد بحرب التجويع المرافقة للصراع الغربي الروسي، ولن يكون بمقدورها أن تتحمّل التكاليف المالية الناجمة عن ارتفاع أسعار الطاقة، أو السلع الغذائية، ومن المرجّح أن تسعى الكثير من الدول إلى طباعة المزيد من الأوراق النقدية، لمواجهة الصدمة، لكن هذا الحلّ الكارثي، لن يكون بإمكانه الصمود.

إن العالم اليوم يعاني تجويع عالمي أشد شراسة من الحرب العسكرية، فمؤشرات الفقر في اليوم تزداد بشكل مرعب، فقد بلغ عدد من يعيشون تحت خطّ الفقر في العالم قبل جائحة كورونا (بحسب البنك الدولي) نحو 1.3 مليار إنسان، وأدخلت الجائحة بين 140 و160 مليوناً آخرين إلى ما دون خط الفقر، لكن الحرب الراهنة، وما سينجم عنها، بحسب المؤشرات الأولية، ستدفع دول العالم الفقيرة إلى اضطرابات، وربما حروب بينية، أو داخلية، أي إلى مزيد من الدم والجوع، وزيادة الهوّة إلى مستويات غير مسبوقة بين أغنياء العالم وفقرائه.

وفي الغرب، هناك إدراك متزايد بأن الأزمة الاقتصادية ستشتد. وصف أندرو بيلي، حاكم مصرف إنجلترا الذي تعرض للذم كثيراً، الوضع بأنه "مرعب"، كتلك الصورة في رؤيا يوحنا للفرسان الأربعة الذين ينبؤون بنهاية العالم - الموت والحرب والغزو والمجاعة. لقد تعرض للهجوم بسبب لغته المثيرة للقلق، لكن ونظراً لاحتمال حدوث مجاعة وعدم استقرار وشيكين، كان استعارته في محلها تماماً.

وقد حذرت جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأميركية، من أن "حرب روسيا ضد أوكرانيا أدت إلى تفاقم قضية الأمن الغذائي بالنسبة للناس في جميع أنحاء العالم، ولا سيما في البلدان الناشئة والنامية". وأضافت أن هناك "خطراً حقيقياً للغاية" يتمثل في أن ارتفاع أسعار السوق العالمية للمواد الغذائية والأسمدة "سيؤدي إلى مزيد من الجوع، ويزيد من حدة ضغوط الأسعار، ويضر بالمواقف الحكومية المالية والخارجية".

ولهذا كان حديث غوتيريش في الصميم عن الجهود لإرسال مساعدات غذائية ومالية إلى البلدان المعرضة لخطر مجاعات مرعبة كتلك التي تحدثت عنها الكتب المقدسة، لكنه كان واضحاً بأن هذه المساعدات لن تكون مستدامة. وقال: "يوجد في عالمنا الآن ما يكفي من طعام إذا عملنا معاً، لكننا ما لم نحل هذه المشكلة اليوم، فإننا نواجه شبح نقص الغذاء العالمي في الأشهر المقبلة. لنكن واضحين: لا يوجد حل فعال لأزمة الغذاء من دون إعادة دمج الغذاء الذي ينتج في أوكرانيا وكذلك الأغذية والأسمدة التي تنتجها روسيا وبيلاروس في الأسواق العالمية - بغض النظر عن الحرب".

والسؤال الآن: من المسؤول عن تجويع كوكب الأرض.. روسيا أم الولايات المتحدة الأمريكية؟

قبل أن أجيب على السؤال أود أن أطرح ما قبل بهذا الصدد، فالغالبية العظمي من الكتاب والباحثين يرون أن روسيا هي السبب في تجويع العالم، وذلك حين جارت علي أوكرانيا في حرب لا أساس لها، فقد حمّل الاتحاد الأوروبي روسيا المسؤولية عن تفاقم أزمة الغذاء في العالم، إذ قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، روسيا مسؤولية مفاقمة أزمة الغذاء في العالم من خلال حربها على أوكرانيا، لاسيما من خلال قصف مخازن القمح ومنع السفن من نقل الحبوب إلى الخارج.. وقال بوريل في مؤتمر صحفي بعد ترؤسه اجتماعًا لوزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي، إن الروس "يتسببون بنقص (الأغذية). يقصفون مدنًا أوكرانية ويتسببون بجوع في العالم. هم يتسببون بجوع في عالمنا"..وأضاف أن الجيش الروسي "يزرع القنابل في الحقول الأوكرانية فيما السفن الحربية الروسية حاصرت عشرات السفن المحملة بالقمح"..

وتابع "إنهم يقصفون ويدمرون مخازن القمح ويمنعون تصدير هذا القمح".. وحذر بوريل من أنه، إضافة إلى المعارك العنيفة المحتدمة على الأرض في أوكرانيا "هناك معركة أخرى: معركة الخطاب".. ورأى أنه فيما تسعى موسكو لتصوير العقوبات الغربية على أنها "مسؤولة عن ندرة السلع الغذائية وارتفاع الأسعار"، فإن روسيا "تتسبب بجوع في العالم بمحاصرتها الموانئ، والقمح، وبتدمير مخازن القمح في أوكرانيا".. وقال "كفوا عن إلقاء اللوم على العقوبات" مضيفا "أن الجيش الروسي هو من يتسبب بندرة المواد الغذائية".. تأتي تصريحات بوريل عقب تحذير الأمم المتحدة، الأسبوع الماضي، من أن أسعار المواد الغذائية وصلت إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق في مارس في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، الدولة المنتجة الكبيرة للمحاصيل الزراعية..

وقالت منظمة الأغذية والزراعة، التابعة للأمم المتحدة (فاو)، إن تعطل الصادرات على خلفية غزو أوكرانيا في 24 فبراير معطوفا على العقوبات الغربية على روسيا، أثارا مخاوف من أزمة جوع عالمية.. والهواجس كبيرة، بشكل خاص في الشرق الأوسط وأفريقيا.. ونتيجة للنزاع في أوكرانيا، حذرت الفاو من أن المجاعة قد تتفاقم في مناطق الساحل وغرب أفريقيا، وهي مناطق تعتمد بشكل كبير على واردات الحبوب من روسيا وأوكرانيا، لتطال 38.3 مليون شخص بحلول يونيو، ما لم يتم اتخاذ التدابير المناسبة.

ويذهب باحثون آخرون بأنه على الرغم من أن بوتين وجنرالاته بالكاد خططوا لذلك، لأنهم لا يمتلكون مخيلة قادرة على تصوره، فقد نجحوا بالصدفة في جعل العالم رهينة لقوتهم. فكما بتنا نعلم الآن، تعتبر أوكرانيا سلة الخبز بالنسبة للعالم والمورد الرئيس للقمح وزيت الطهي بالنسبة لقسم كبير من أفريقيا والشرق الأوسط.. الآن، يتم منع مغادرة كميات هائلة من الحبوب وزيت عباد الشمس من أوكرانيا بسبب الحرب والحصار الروسي للموانئ الأوكرانية على البحر الأسود. تنتظر ملايين الأطنان من الحبوب التصدير لإطعام فقراء العالم، لكن بوتين سعيد تماماً بتركها تتعفن، بعد أن أرسل شحنة كبيرة إلى بلاده.

كذلك أكد هؤلاء الباحثون أنه بسبب العقوبات، لا يستطيع العالم شراء أي صادرات روسية، كما أن الارتفاع الحاد في تكاليف النفط والغاز والأسمدة بسبب الصراع منعت منتجي الحبوب الرئيسين الآخرين مثل البرازيل من توسيع إنتاجهم. كما تحظر دول مثل الهند ونيجيريا وجنوب أفريقيا تصدير المواد الغذائية، بينما تحجم السعودية والقوى النفطية الكبرى الأخرى عن تعويض النقص الذي خلقه النفط الروسي في الأسواق العالمية. لا يستطيع العالم إطعام نفسه في مثل هذه الظروف. صحيح أن الغرب يعاني أزمة غلاء المعيشة وصعوبتها، لكن دولاً مثل مصر وليبيا تواجه ما هو أسوأ بكثير.

ولهذا اعتقد أن الأزمة الروسية الأوكرانية دقت ناقوس الخطر ليس لإعادة التاريخ فقط بل الجغرافيا أيضا، مشيرا إلى أنه سيتم تشكيل نظام عالمي جديد متعدد القوى، وأن الولايات المتحدة الأمريكية تحاول "شيطنة" العالم، ولن تكون هي القوى الأولى عالميا، بل ستظهر قوى أخرى كالصين والهند وروسيا تعيد حالة التوازن الكبرى في المجتمع الدولي، وأِشار إلى ما أعلنت عنه وزارة الدفاع الروسية، التي كشفت وجود معامل بحثية ومراكز جرثومية في أوكرانيا تقوم بأبحاث خطيرة تهدد روسيا بالبكتيريا الضارة على غرار كورونا.

ولقد كان حلف الناتو دوره كان دفاعيا لكن أصبح الآن هجوميا يحاول تمزيق وتهديد روسيا، وإذا كان قد تم إسقاط الاتحاد السوفييتي فإن الناتو يستهدف إسقاط روسيا، ولا أنسي ما قاله مندوب روسيا في مجلس الأمن وتحذيراته من إدراج روسيا تحت البند السابع في الأمم المتحدة، وتحذيراته من تجويع الشعب الروسي وتهديده بضرب اقتصاديات الدول المعادية لها، كما أشار إلى أن هناك شرعنة دولية وأمريكية لعمل المرتزقة، متابعا: اتضح ذلك من إعلان رئيس أوكرانيا البحث عن فيلق من المرتزقة لحماية بلاده وكأن عملية الاستعانة بالمرتزقة في سوريا واليمن وليبيا وفي أفغانستان أصبحت تشرعن من قبل القوى المعادية لوجود هؤلاء المرتزقة الذين لا وطن لهم ولا عقيدة بل هم جيوش تناظر الجيوش النظامية وستدفع أوروبا ثمن وجود هؤلاء المرتزقة.

إن لعبة التحالفات الحالية تحتم إعادة النظر في الدور العربي وأن تكون ولاءات الحكومات للشعوب وليس للأمريكيين، وإن الآلة الإعلامية أكثر تأثيرا من الآلة السياسية والاقتصادية، وقد آن الأوان لإقامة السوق العربية المشتركة كأحد الأذرع لمواجهة التحالفات العالمية والتداعيات الاقتصادية للأزمات العالمية.

وثمة نقطة مهمة جديرة بالإشارة أود ان أشير إليها وهي كما نعلم ما قام به البنك الفيدرالي الأمريكي برفع سعر الفائدة من أجل زيادة قوة الدولار وذلك لِخفض التضخم الغير مسبوق داخل أمريكا ولكن هذه الخطوة الأمريكية لها تأثيرات ضارة و سلبية على كل دول العالم وهي تراجع كل قيمة العملات الأخرى ؛ ومن ثم زيادة كبيرة في الأسعار في جميع أنحاء المعمورة، والسبب هو أنَّ الدولار يُعتبر هو المرجع العالمي وهو الأكثر تداولًا في المُعاملات التجارية، وستسبب هذه الخطوة الأمريكية في هروب رؤوس الأموال بِسبب زيادة الطلب على الدولار باعتباره الاحتياط الآمن .

إذن نرى أنَّ أمريكا إختارت سيناريو التلاعب بالدولار فقط لِتحسين حياة المواطن الأمريكي وزيادة رفاهيته، وذلك دون حسبان العواقب و الأضرار على الشعوب الأخرى وسَيَنجر عن ذلك إلتهاب الأسعار، وقد رأينا ملامح ذلك اليوم، حيث تراجعت قيمة عدة عملات، منها الدينار التونسي والين الياباني واليوان وخاصة اللّيرة التركية التي فقدت 70 ٪ من قيمتها إلخ ؛ فَبالإضافة لِلتدخل الأمريكي في شؤون الدول الأخرى و إشعالها لِلفتن والحروب في كل مكان، ها هيَ اليوم تستخدم سلاح الدولار فقط لِخدمة مصالحها الذاتية دون اعتبار للدول الأخرى.

***

أ.د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.........................

المراجع

1- حسام ميرو: حرب التجويع العالمية، مقال منشور بتاريخ 21 مارس 2022 00:37 صباحا.

2-أنظر مقال بعنوان : أوروبا تتهم روسيا بـ"تجويع العالم"، الإمارات اليوم، المصدر: لوكسمبورغ - فرانس برس، التاريخ: 11 أبريل 2022.

3- شون أوغرايدي: العالم سيموت جوعا ما لم يكسر الغرب الحصار الروسي، الاندبندنت عربي، الثلاثاء 24 مايو 2022 10:22.

 

في المثقف اليوم