آراء

البرلمان العراقي يجرم التطبيع مع إسرائيل.. أي مغزى؟

ثامر حميدلا ينظر الكثير من العراقيين بعين الرضى إلى التجربة البرلمانية العراقية التي بدأت مع أول انتخابات عامة في 2005 لأنها اتسمت بالصراع الحاد بين القوى الممثله في البرلمان (مجلس النواب) حول خليط من المصالح المذهبية والقومية والحزبية (الحزبية منها دارت حتى بين قوى من نفس ما يطلق عليه العراقيون تسمية "المكون"). غير أن هذا الصراع لم يعكس نفسه على العلاقات الاجتماعية بين جماهير هذه "المكونات" إلا بحدود ضيقة جدا. نعم، لقد سالت دماء كثيرة  منذ ذلك التاريخ بفعل دخول الإرهاب كعامل على الساحة العراقية  ولكن ما يهم في هذه المسألة هو أن فكرة إعداد وإدخال الإرهاب كعامل لم تكن تشكلت في رؤوس عراقية بل أنضجتها رؤوس أجنبية معروفة ممثلة في قوى الهيمنة العالمية وساهمت في تنفيذها أطراف إقليمية عربية وغير عربية دون إنكار حقيقة أن عراقيين قد انخرطوا بها.

وقبل احتلال العراق في 2003 لم يكن الصراع السياسي في العراق بين السلطة ومناوئيها من جهة و الأحزاب السياسية بين بعضها البعض من جهة أخرى  يخلو من المواجهات الدامية سواء في الصف العربي (الحزب الشيوعي وحزب البعث) أو الصف الكردي (بين الحركة الكردية والسلطة تارة و الأحزاب الكردية الرئيسية فما بينها تارة أخرى) دون أن ننسى أن النصيب الأكبر من الأذى قد ناله الحزب الشيوعي على يد حزب البعث عندما كان حزب البعث خارج السلطة (في حقبة عبد الكريم قاسم) وهو على رأس السلطة لفترة قصيرة في 1963  ثم الفترة بين 1968 و 2003 ليمتد بعد ذلك في السنوات التالية لينال الحركة الإسلامية سنية كانت أم شيعية وكذلك الأكراد...

لذلك أستطيع القول، من زاوية موضوعة الصراع، أن الجانب الإيجابي  في التجربة البرلمانية العراقية يتمثل في أن الصراع  بين القوى السياسية العراقية قد انتقل من الشارع، بما يتسم به من إنفلات عنيف، إلى ساحة مختلفة تتمثل في  "متندى للكلام"، هو مجلس النواب، تستطيع فيه كل قوة سياسية، كممثلة لشريحة من الشعب، أن تعبر عن نفسها وتسمع تعبيرات الآخرين عن انفسهم. وفي حالة واحدة معاكسة لاقى تصريح احد زعامات التنظيمات المسلحة التابعة لكتلة كبيرة  والتي عبر فيها عن استعداده للتدخل استنكارا واسعا فتلاشى صوته في المجهول. وبشكل عام نستطيع القول أن عهد الحزب الذي يحتكر السلطة ويمارس القمع ضد منتقديه أو مناوئيه قد انتهى..

وتواصل القوى السياسية العراقية الممثلة بالبرلمان صراعها وتتفق على القليل وتختلف وتتخاصم على الكثير أي على  ما يصفه العراقي العادي أنه "صراع على المصالح". ومن الناحية الواقعية فإن الصراع على المصالح هي صفة لازمة ليس للسياسيين وحسب بل وحتى للبشر العاديين طالما كنا نتحدث عن الثروة والسلطة مع فرق أن الصراع بين البشر العاديين هو صراع صامت وله "قوانين وأعراف" مختلفة وليس ارتشاء الموظفين التنفيذيين وسطوهم على حقوق المواطنين العاديين سوى أحد مظاهره البارزة.

لقد كان اتفاق السياسيين العراقيين على تشريع قانون تجريم التطبيع مع إسرائيل واحدة من بين أمور قليلة اتفقوا عليها وهو ما نعتبره، هو وقرار البرلمان إخراج جميع القوات الأجنبية من العراق،  تطورا مهما يمكن أخذه من زوايا متعددة أهمها:

- تأكيد الهوية العربية الغالبة للعراق، التي انضاف إليها بعدا إسلاميا، بعد أن جرت محاولات حثيثة لا تزال متواصلة ليومنا هذا بدأت مع الاحتلال الأمريكي في 2003 للتأثير على عامة العراقيين لإقناعهم بأن عليهم الاهتمام بشؤونهم الخاصة. إن من روج ويروج لهذه الثقافة ينطلق من مبرر أن اهتمام العراقيين بقضايا العرب وخاصة فلسطين قد جرت عليهم مصائب هم بغنى عنها وأن عليهم الاهتمام بتحصيل وسائل العيش بعدما عانوه من الحروب والصراعات. وهذا الكلام يذكرنا بما روجه نظام أنور السادات في مصر عشية إقدامه على توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل في 1979 مع وعود بأن الخير سيعم ما  أن توقع  مصرعلى تلك المعاهدة وهو ما لم يحدث أي لم نر الخير يعم وواصل الشعب المصري وقواه الحية تأييده لقضية فلسطين ورفض التطبيع مع إسرائيل رغم وجود علاقات ديبلوماسية بين مصر وإسرائيل. وحدث شئ مشابه في الأردن الذي وقع معاهدة سلام مع إسرائيل في 1993 واقام علاقات ديبلوماسية معها ولم نر أي انعكاس إيجابي لهذه العلاقة على الواقع الاقتصادي والمعيشي للشعب الأردني واستمر هذا الشعب في تأييده القوي لقضية فلسطين ورفض أي شكل من التطبيع الشعبي مع إسرائيل.

وهنا لا بد أن نلاحظ انكفاء اليسار العراقي عن قضية فلسطين وهو ما يمثل بنظري امتدادا للانكفاء والتراجع عن جميع القضايا الأساسية التي يقوم عليها الفكر اليساري وعلى راسها قضايا تحرر الشعوب من الهيمنة الإمبريالية بحيث صرت ترى شيوعيا يدافع عن السياسة الأمريكية وآخر يتحدث عن الليبرالية ورفاق له آخرون يروجون لمفاهيم ومفردات ماخوذة من القاموس الغربي يجهلون مغزاها والسياق التاريخي الذي نشأت فيه تلك المفاهيم وتطورت يقابله جهل مطبق بالتاريخ العربي الإسلامي..

- أقر هذا التشريع في لحظة حرجة من تاريخ الشعب الفلسطيني حيث يتعرض وجوده على ما تبقى من أرضه إلى التهديد على يد المستوطنين (المستعمرين) المدعومين من الآلة العسكرية الإسرائيلية. وتبين أحداث القدس التي نشاهدها يوميا ابتداء من الاعتداء المتكررعلى المسجد الأقصى إلى محاولات إفراغ القدس من سكانها الفلسطينيين إلى استمرار بناء المستوطنات ومصادرة أراضي الفلسطينيين حجم ما يتعرض له هذا الشعب. مقابل ذلك تقدم دول عربية على إقامة علاقات مع إسرائيل على الضد من إرادة شعوبها متجاهلة ما يتعرض له الشعب الفلسطيني.

لقد جاء قرار البرلمان العراقي على الضد من هذا الاتجاه  لدى بعض الدول العربية ليقدم دعما معنويا هاما للشعب الفلسطيني يساهم في تعزيز صموده على أرضه.

- إن العملية السياسية في العراق خطت خطوة مهمة خارج المصالح الضيقة للأحزاب و لابد للأخوة الفلسطينيين،ومن يدعم قضيتهم العادلة، أن يشعروا بالارتياح أن عنوان فلسطين يكاد يكون هو العنوان الوحيد الذي  أجمع عليه السياسيون العراقيون (عدا استثناءات قليلة)  وهو ما يعيد تأكيد ما عرفه الفلسطينيون عن العراقيين من ثبات موقفهم حيال فلسطين رغم ما اعتراهم من مخاوف إثر الاحتلال الأمريكي للعراق حيال إمكانية حرف العراق عن مساره المعهود في تأييد قضيتهم والدفاع عنها وتعززت تلك المخاوف عندما تعرض فلسطينيو العراق إلى اعتداءات أتهمت فيه أطراف سياسية عراقية ليتبين بعد ذلك أن عصابات مرتبطة بالمحتل هي من قامت بذلك.

- كانت قضية فلسطين في السابق قضية سلطة وهي بصفتها هذه كثيرا ما استغلت من بعض الأنظمة العربية لتكميم افواه الناقدين وممارسة القمع ضد معارضيها بحيث أصبح الموقف من فلسطين هو الغطاء الذي تتخذه تلك الأنظمة لإعتبار نفسها أنظمة وطنية ومن يخالفها يصبح غير وطني. وباسم هذه الوطنية صودرت حريات الشعوب وتعرضت قواه السياسية للقمع.. لذلك عندما يصدر برلمان عربي ، بصفته ممثلا للشعب، تشريعا خاصا بفلسطين دون أن تقترحه الحكومة تكون قضية الشعب الفلسطيني قد خرجت من يد السلطة كصاحبة القرار بهذا الشأن ويسير وراءها الشعب لتصبح قضية الناس فقد سبق وأن رأينا في الماضي كيف أن أنظمة عربية كانت تفرض على شعوبها ووسائل إعلامها أن تردد وراءها شعارات تأييد فلسطين عندما تشاء وتطلب منهم أن يفعلوا العكس عندما تنشأ خصومة بينها وبين القيادة الفلسطينية. بل قام نظام عربي باحتلال دولة عربية باسم فلسطين والفلسطينيون من ذلك براء.

وبالرغم مما أثير من ملاحظات أو انتقادات حول أحد بنود التشريع الخاص بالسماح بالزيارات الدينية حيث رأى البعض أنه قد يستخدم كغطاء للتطبيع بينما برر وجوده آخرون بالقول أنه صيغ مراعاة للمواطنين العراقيين المسيحيين الذين يحملون جنسيات أجنبية والذين يرومون زيارة الأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين، يبقى التشريع فارقة مهمة وسط حالة الانكفاء العربي حيال قضية فلسطين.

إن النقد أو الهجوم الذي وجه للتشريع من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا (لا يهمنا رأي إسرائيل هنا) لا يتعلق بفلسطين فقط فهذا أمر بديهي بالنسبة لهذين البلدين ولكن ما أخافهم ويخيفهم دوما هو إجماع العراقيين على أية قضية إذ يرون في الإجماع العراقي  خطرا على مصالحهم ذلك أن جل أهتمام هذين البلدين، الذين لم يتخلصا من العقلية الاستعمارية واساليبها ويتبعهم بذلك عامة دول الغرب ، يتركز على إدامة الفرقة بين العراقيين. ولا ينتاب الشك أي عاقل، من خلال الأدلة الكثيرة التي قدمت، بأن الولايات المتحدة وبريطانيا  وبإشراف عميلتهما "ممثلة الأمم المتحدة" جانين بلاسخرت قامتا بتزوير نتائج الانتخابات العراقية التي جرت في أكتوبر 2021 بحيث تحدث خللا في المعادلة السياسية تفضي لشق الطرف الشيعي ودفعه نحو الاحتراب غيرأن غلبة العقلاء قد منع حدوث ذلك.

وجانين بلاسخرت هذه التي تحمل صفة ممثلة الأمم المتحدة للعراق تعتبرها أطراف عراقية شعبية واخرى حزبية مجرمة حرب لأنها كانت وزيرة دفاع هولندا عندما قامت الطائرات الحربية التابعة للقوة الجوية الهولندية المشاركة باحتلال العراق بقصف المدنيين في قضاء الحويجة التابع لمحافظة كركوك وأوقعت عشرات القتلى والجرحى في صفوف المدنيين وهي بذلك لا تستحق أن تكون بهذه الصفة لولا ولاءها للبلدين الاستعماريين المذكورين.

ولكن لا العراق سيكون قادرا، ولو شاء، و لا الغرب سوف يسمح بالاقتصاص من بلاسخرت من خلال محكمة الجنايات الدولية والتي قال عنها ممثل روسيا في الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا مؤخرا من أنها  أصبحت أداة بيد الغرب ويعرف الفلسطيني عدد الشكاوى التي قدمت إلى هذه المحكمة ضد قادة إسرائيل الذين ارتكبوا جرائم بحق الفلسطينيين دون أن يتم إنصافهم.

ولا زالت جانين بلاسخرت تمرح في بلاد بين الرافدين وتقابل هذا المسؤول أو ذاك والأرجح أن الراتب الضخم الذي تتقاضاه خدمة لأسيادها الغربيين تتحمله الخزينة العراقية. غير أن عزاءنا في هدر أموال العراقيين هو الحزن الذي لا بد وأن انتاب بلاسخرت جراء قرار تجريم التطبيع مع إسرائيل.

***

ثامر حميد

في المثقف اليوم