آراء

ليلة سقوط الموصل.. حقيقة ما حدث!

قاسم حسين صالحاصاب الناس ذهول ان تسقط ثاني اكبر مدينة عراقية محاطة باربع فرق عسكرية وبداخلها مائة الف شرطي ورجل امن.. في ساعات بين ليلة وفجرها.. وحاروا في تفسير اسرع سقوط عسكري في التاريخ لمدينة كبيرة بيد مسلحين لا يتجاوز عددهم عشر عدد الجيش النظامي المحيط بها وبداخلها.

لم يجد بعضهم تفسيرا لما حدث الا بانه نزول كائنات خرافية استخدمت اصوات فضائية مرعبة واشعة ليزر جعلت قادة الجيش يفرون مرعوبين تبعهم الجنود رامين اسلحتهم وتاركين دباباتهم، فيما هرع الشرطة لخلع بدلاتهم وارتداء ما يلبسه الناس.. بعد ان هربت حكومة المدينة تاركة مؤسساتها وناسها ومصارفها.. في واقعة لا تصدق الا بأن تجعلها ضربا من الخيال.. اذ لا يعقل ان ثلاثة آلاف مسلّح لا يجدون في شوارع المدينة بصوبيها الكبيرين غير البدلات العسكرية لعشرات الآلاف من الجنود والشرطة.. فيحروقنها ابتهاجا بانتصار خرافي لا يحصل الا في افلام كارتون!

لكن الواقعة حصلت فعلا وسيكتبها التاريخ بانه في ليلة 9 على 10 من حزيران (2014) سقطت مدينة الموصل في ساعات بيد مسلحي الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) من غير ان تحصل معركة بينهم وبين قوات الجيش العراقي المسؤول عن حمايتها.

ان المنطق في تفسير ما حدث لا يستقيم الا بالقول ان ما حصل هو (عملية تسليم) لها احتمالان لا ثالث لهما:

اما: خيانة من كبار قادة الجيش

او: تلقيهم تعليمات من القيادة العامة للقوات المسلحة بالانسحاب.

المؤكد ان قادة الجيش هربوا، وقد اظهرت الصور التلفزيونية ذلك.. فان كان هروبهم خيانة او جبنا.. فهل يعقل ان هؤلاء الجنرالات يرتضون لانفسهم ان ينهزموا امام مسلحين وليس امام جيش اقوى منهم؟.وهل انعدمت الغيرة فيهم لهذا الحد المهين والمذّل، ومات شرفهم العسكري لدرجة انهم يسجلون اسود صفحة واقبح عار واخجل هزيمة في تاريخ الجيش العراقي وتاريخهم الشخصي والأسري؟

ومع ان هذا الاحتمال وارد الا انه يكون ضعيفا امام الاحتمال الثاني، بان هؤلاء القادة تلقوا تعليمات من القيادة العامة للقوات المسلحة بالانسحاب، وانهم نفذوا التعليمات وما كان تركهم المدينة هروبا بل انسحابا عسكريا.. بأمر.

فان صح هذا، فان له ثلاثة اسباب،

الأول: ان الحكومة وقتتها قبل عشرة ايام من انتهاء عمرها لتخلق ظرفا يفوضها بالاستمرار.

الثاني: عقوبة من الحكومة ضد اهل الموصل مستخدمة تكتيك محاربة الخصم بضده النوعي.

الثالث: بداية تنفيذ مخطط يتبناه فريق من ساسة الشيعة لاقامة دولة شيعية تمتد من سامراء الى البصرة.

قد تكون هذه الاسباب الثلاثة مترابطة، ولنبدأ بآخرها.فهذا الفريق من ساسة الشيعة يرى ان اقامة دولة شيعية من سامراء الى الفاو يريحهم من وجع الكرد والسنة، ويضمن لهم اكبر ثروة نفطية واخصب تربة زراعية وانهم سيعيشون مرفهين ومحمين من دولة جارة قوية.. فضلا عن انه يمثل رغبة امريكا التي اعلنتها قبل ثلاثين عاما.

غير ان هذا المخطط لا يكتسب (مشروعيته) ومقبوليته بين الناس الا بعد ان تستنفد الحكومة كل الوسائل لاستعادة مدينة الموصل التي قد تستغرق اشهرا او تطول ان استمر زحف داعش الى صلاح الدين وحدود كركوك.. وهو مرجح ان يكون سهلا لارتفاع معنوياتهم بعد انتصارهم الخرافي في الموصل، ولسبب سيكولوجي اكثر منه عسكري هو أن مسلّحي داعش يقاتلون من اجل قضية مؤمنين بها وهدف يوحّدهم فيما صار الجندي العراقي مشوشا.. مرتبكا لانعكاس ارتباك العملية السياسية عليه.. ولا يمتلك وضوحا عن اية قضية يقاتل، ولأن الناس صاروا بعيدين جدا عن حكومة تأكد لهم، بعد صبرهم عليها، انها منشغلة بأمرين:الحفاظ على السلطة والحصول على المزيد من الثروة.

فضلا عن ان (داعش)ستتعامل مع اهل الموصل (عاصمة دولتهم!) كما لو انهم جاءوا ليعيدوا لهم كرامتهم ويخلصونهم من التعامل المذل والمهين والاعتقالات العشوائية من قبل افراد القوات المسلحة العراقية، وانهم سيؤمنون لهم حياة كريمة.. بعد ان عانوا من التهميش والاقصاء والبطالة.. وهو وضع سيريح كثيرين لا حبا بداعش ولكن لأنها صفعة بوجه من ادار وجهه عن مدينة خرّجـت قادة سياسيين وكبار ضباط الجيش العراقي ولها ثقل حضاري وديني كبير وموقع استراتيجي للعراق ودول الجوار.

ان ما حصل جاء نتيجة نظام منتج للأزمات، وكتل سياسية وضعت مصالحها فوق مصالح الناس والوطن، وفساد صار فيه الوطن ينهب من المسؤولين عنه، وفشل متكرر لحكومة ركبتها عنجهية وعناد عصابي وخصومات شخصية وفقدان حكمة.

ولأن الحكومة سوف لن تعتذر.. (وستجد من يكون كبش فداء)، وطبعا لن تستقيل مع ان الامر يستوجب الاستقالة، وستظل تمارس سايكولجيا الاسقاط بترحيل فشلها على الآخرين، وانها ستلجأ الى قصف (أم الربيعين) بالطائرات والمدفعية برغم انها فشلت في استخدام ذلك في الفلوجة التي لا تعادل ربع مدينة الموصل حجما وسكانا.. لهذا كلّه فان الأيام المقبلة ستكون حبلى بكارثة قد تجعلنا نترحم على كوارث كنّا نعدها الأفجع.. وقد نبقى نلعن، في داخلنا، من كان.. وسيبقى السبب!!.

وكما حصلت الامور في ساعات فأمامنا ساعات فيها دراما مليئة بالمفاجاءات.. لا تستبعدوا ان تكون احدى حلقاتها عن كائنات خرافية تنزل في بغداد باتجاه المنطقة الخضراء.. والناس يتفرجون بعين تبكي حزنا واخرى تضحك فرحا!.

كان هذا ما كتبناه بالنص في (11 / 6 / 2014)، فما الذي فعلته الحكومات لمدينة الكرام بعد ثمان سنوات؟

* لو انك ذهبت لجانبها الأيمن، لشممت رائحة الموت وقلت لنفسك: ان الحرب انتهت أمس!

* ولو تجولت في ضواحيها لرأيت مقابر جماعية لم تفتح لحد الآن، بينها مقبرة تضم اكثر من اربعة آلاف شهيد بينهم أطباء وأكاديميون.

* ولو التقيت باهلها لقالوا لك وعدتنا الحكومات بالتعويض ولم نقبض دينارا، وما زلنا لا نعرف شيئا عن مصير آلاف المغيبين.

وحين تغادرها، تكون على يقين ان الفاسدين ارادوا لمدينة الكرام ان تبقى منهكة، ويفجعك انك تعود منها وعيناك تتزاحم فيها صور ابشع مظاهر الخراب، ورئتاك مشبعتان برائحة الموت!.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

في المثقف اليوم