آراء

من جائحة كورونا إلى جدرى القرود.. خطر الإرهاب البيولوجى

محمود محمد عليما إن بدأ العالم يتعافى من آثار جائحة "كورونا"، أو لنقل يتعايش معها، وهي التي شلت أركانه على فترات من العامين الماضيين، وراح ضحيتها ملايين البشر، حتى ظهرت لنا بوادر جائحة جديدة تعرف باسم "جدري القرود".

وقد تنبأت ورقة بحثية مشتركة بين مؤتمر ميونخ للأمن (MSC) ومبادرة التهديد النووي ( NTI) تم إصدارها في مارس 2021 بموعد انتشار وعدد ضحايا وباء جدري القرود، وذلك ضمن إجراء تمرين افتراضي حول الحد من التهديدات البيولوجية عالية العواقب، وفحص الثغرات الموجودة في هياكل الأمن البيولوجي الوطنية بما يضمن التأهب للأوبئة.

وتوقع البحث المنشور تحت عنوان «تعزيز النظم العالمية للوقاية والاستجابة إلى التهديدات البيولوجية عالية النتائج»، أن تكون الكارثة العالمية التالية ناجمة عن سوء استخدام متعمد لأدوات البيولوجيا الحديثة، أو عبر حادث معمل بشكل أساسي، وشددت على أن تعزيز استعدادات كل دولة لمواجهة هذه التحديات ضرورة إنسانية تصب في المصلحة الذاتية الجماعية للمجتمع الدولي، لا سيما أن حتى أكثر الدول استعداداً ستظل معرضة للخطر في ظل الفجوات الكبيرة في الأمن البيولوجي والتأهب للأوبئة المتفاوتة بين دول العالم.

وليس من المتوقع حتى الآن، أن يكون العالم على موعد مع سيناريو قاسٍ مثل «كورونا»، يفرض الإسراع بحملات التلقيح، لطبيعة الفيروس نفسه الذي يحتاج إلى الاتصال الوثيق مع المصاب حتى تنتقل العدوى، لكون المادة الوراثية للفيروس هي "دي إن ايه" وليس "آر إن إيه" مثل "كورونا المستجد"، وبالتالي فهو لا يتحور بالسرعة نفسها.

تقرير مهم صدر من وكالة الأمن الصحى بالمملكة المتحدة منذ أيام حول انتشار فيروس "جدرى القرود" أو monkeypox داخل المملكة يفيد بأن التفشى الحالى للفيروس "نادر وغير معتاد".. الأمر الذى يبعث مخاوف حقيقية من تحوله إلى جائحة جديدة.. لم نتخلص بعد من جائحة كورونا بشكل كامل.. ما زالت المخاوف في الأذهان وصور ميادين العالم الخالية من البشر تأتى للناس فى كوابيسهم كثيراً.. لذا ففكرة انتشار فيروس مختلف بهذا الشكل ربما يقلب الطاولة على رأس الجميع!!

والتسمية في الواقع تبدو خاطئة إلى حد كبير.. فالفيروس الجديد لا ينتقل عبر القرود بشكل رئيسي.. الاسم أتى من أولى حالاته الموثقة والتي ظهرت في عام ١٩٥٨ في إحدى مستعمرات القرود التي تستخدم في الأبحاث العلمية.. ولكنه ينتشر فى الأساس عبر القوارض مثل السناجب أو الجرذان.. لذا فاسم جدري القوارض ربما يكون أقرب للحقيقة..!

وقد جاءت تسمية "جدري القردة" عام 1958، عندما "تفشى مرض شبيه بالجدري مرتين في مستعمرات أبحاث خاصة بالقردة"، وأضافت الوكالة أن الناقل الرئيسي لمرض "جدري القردة" ما زال مجهولًا رغم أن "القوارض الأفريقية يشتبه في أنها تلعب دورًا بانتقال العدوى".. وأوضحت أن أول حالة معروفة من "جدري القردة" لدى البشر "سُجلت عام 1970، في جمهورية الكونغو الديمقراطية، خلال مرحلة بذل جهود مكثفة للقضاء على الجدري".. وقالت المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والسيطرة عليها إن "جدري القردة" عاود الظهور في نيجيريا عام 2017، بعد مرور 40 عامًا لم يبلغ خلالها عن أي حالة إصابة.

ومنذ ذلك الحين، تم الإبلاغ عن أكثر من 450 حالة في نيجيريا، وما لا يقل عن ثماني حالات معروفة تم تصديرها دوليًا، وقالت الوكالة إن تفشي المرض قد حصل في الولايات المتحدة عام 2003، بعدما أصيب 47 شخصًا بالمرض في ست ولايات، بسبب اتصالهم بكلاب مروج أليفة، وأفادت أنّ "الحيوانات الأليفة أصيبت بالعدوى بعد إيوائها بالقرب منثدييات صغيرة مستوردة من غانا.. كانت هذه هي المرة الأولى التي يتم الإبلاغ فيها عن جدري القردة البشري خارج أفريقيا".

ويقول الخبراء إن الاتصال الوثيق بالفرد المصاب هو المسبب لانتشار فيروس "جدري القردة"، وأوضح الطبيب، مايكل سكينر، العضو بكلية الطب في قسم الأمراض المعدية في "إمبريال كوليدج لندن"، في بيان: "عندما تلتئم التقرحات، يمكن أن تتساقط القشرة (التي قد تحمل فيروسًا معديًا) على شكل غبار يمكن استنشاقه"،  وقال مايكل هيد، زميل أبحاث أول في الصحة العالمية بجامعة ساوثهامبتون في المملكة المتحدة: "يمكن أن يشكل جدري القردة عدوى خطيرة، إذ أسفرت عن معدل وفيات جراءه ناهزت نسبة 1٪ من حالات تفشي أخرى.. وغالبًا ما يحصل ذلك في الأماكن منخفضة الدخل جراء عدم التمكن من الحصول على الرعاية الصحية"، وبحسب ما ذكرته المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والسيطرة عليها، يمكن للمطهرات المنزلية الشائعة أن تقتل فيروس "جدري القردة".

وحسب معهد روبرت كوخ للأمراض المعدية فإن الذكر والأنثى معرضين للإصابة بمرض جدري القرود بنفس الدرجة، لكن تبقى الإحصائيات تؤكد أن أغلب الوفيات في إفريقيا بسبب جدري القرود تتم في صفوف الاطفال.

وقد تم رصد المرض الفيروسي لأول مرة في القرود، وعادة ما تنتقل العدوى من خلال الاتصال الوثيق وتكثر الإصابات به في غرب ووسط أفريقيا. ونادرا ما انتشر المرض في أماكن أخرى لذلك أثارت هذه الموجة الجديدة من الحالات خارج القارة الأفريقية القلق.

ووفقا لمعهد روبرت كوخ فإن العدوى تتنقل عادة عن طريق الاحتكاك مع الحيوانات المصابة أو عن طريق دم الحيوانات وإفرازاتها كما قد تحصل العدوى أيضا من خلال تناول لحكم القردة والتعرض لرذاذات الحيوانات.

وهنا يقول عالم الأوبئة هونتر في حوار مع محطة بي بي سي إن العدوى تحصل عندما تنتقل بثور المرضى إلى جروح أو أعين أشخاص آخرين، وقد تحدث أيضا من خلال استناق رذاذ به جسميات من الشخص المريض.

ولهذا تعد العلاقات الحميمية أيضا من بين أسباب انتشار جدري القرود بين البشر، لذلك يحذر المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض الأشخاص الذين يغيرون باستمرار شركائهم الجنسيين من خطر الإصابة، ويشار إلى أن غالبية الحالات التي تم تسجيلها حتى الآن هي لرجال مارسوا الجنس مع رجال آخرين.

ومع ظهور حالات الإصابات بمرض جدري القرود في بريطانيا سارعت السلطات إلى تطعيم بعض العاملين في مجال الرعاية الصحية وغيرهم من المعرضين لخطر الإصابة به بلقاح الجدري، وقال المتحدث باسم وكالة الأمن الصحي البريطانية إنه لا يوجد لقاح محدد لجدري القرود، لكن لقاح الجدري يوفر بعض الحماية، وتشير البيانات إلى أن اللقاحات التي يتم استخدامها للقضاء على الجدري فعالة بنسبة تصل إلى 85 % ضد جدري القرود، وفقا لمنظمة الصحة العالمية. يذكر أنه تم تأكيد أول حالة إصابة في أوروبا في السابع من مايو لشخص عاد إلى إنجلترا من نيجيريا حيث يتوطن جدري القرود.

وأشارت المراكز الأفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، أكبر وكالة للصحة العامة في أفريقيا، أمس الخميس إلى أنه تم احتواء العديد من حالات تفشي مرض جدري القرود في القارة خلال جائحة كورونا بينما كان العالم يركز اهتمامه على كورونا، وتم اعتبار أنه تم القضاء على الجدري في جميع أنحاء العالم منذ عام 1980 بعد حملة تطعيم كبيرة.

مع تزايد القلق بشأن مرض جدري القرود الذي انتشر في عدد من الدول، ووصل إلى منطقة الشرق الأوسط، يركز العلماء جهودهم لكشف كل المعلومات المتعلقة بالفيروس، مما يسهل عملية مواجهته، ولعل أبرز تلك المعلومات التي لا بد من فهمها للحد من انتشاره، هي المدة التي يبقى الشخص المصاب فيها "معديا".

ويعد جدري القرود مرضا معديا عادة ما يكون خفيفا، وهو متوطن في مناطق من غرب ووسط قارة إفريقيا، والإصابة بالمرض في بدايتها كانت تحدث عند الاحتكاك بالحيوان المصاب، إلا أنها الآن تنتقل الآن بين شخص وآخر، وانتشر المرض في عدد من الدول غير الإفريقية، مثل إسبانيا واليونان والولايات المتحدة وكندا، ووصل إلى الشرق الأوسط، مع تسجيل إسرائيل أول إصابة بالمنطقة، وينتشر هذا المرض من خلال الاحتكاك المباشر، مثل لمس ملابس الشخص المصاب أو لعابه، ويعد الاتصال الجنسي واحدا من أبرز أسباب العدوى.

ولأن العدوى تحدث عبر الاحتكاك المباشر مع المصاب، فإنه يمكن احتواؤه بسهولة من خلال تدابير مثل العزل الذاتي والنظافة فور تشخيص أي إصابة جديدة، ويعاني الأشخاص الذين يصابون بالفيروس في البداية من الحمى، قبل ظهور الطفح الجلدي على الوجه والجسم. وتشمل الأعراض كذلك الصداع وآلام العضلات وآلام الظهر والقشعريرة والإرهاق،  ويمكن بعد ذلك أن ينتقل جدري القرود من خلال لمس المناطق المصابة، أو عن طريق الرذاذ المتطاير أثناء السعال والعطس، وبالعودة إلى المدة التي يشكل فيها الشخص المصاب خطرا على الآخرين، فإن خبير الأمراض المعدية الناشئة في جامعة جون هوبكنز الأميركية أميش أدالجا أكد لصحيفة "ديلي ميل" البريطانية، أن المصاب قادر على نقل المرض لمدة تصل إلى 4 أسابيع بعد ظهور الأعراض.

وأوضح أن السبب وراء طول المدة، هو أن "الآفات الجلدية قد يستغرق بضعة أسابيع حتى تختفي"، مؤكدا أن "الناس معديون حتى تختفي آفاتهم الجلدية النشطة"، من جانبه، وافق خبير الصحة العالمية في جامعة ساوثهامبتون في إنجلترا مايكل هيد أدالجا الرأي، وقال: "استنادا إلى حالات تفشي مرض جدري القرود السابقة، وإرشادات من السلطات الصحية في المملكة المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، يمكن مقارنة الفترة المعدية (أي عندما ينتقل الفيروس إلى شخص آخر) بالفترة الزمنية التي يوجد فيها الطفح الجلدي والبثور"، وتابع: "قد يكون هذا لمدة أسبوعين، وقد تكون المدة أطول"، يذكر أن إدارة الغذاء والدواء الأميركية (FDA)،وافقت، الجمعة، على عقار الجدري لعلاج مرضى جدري القرود، بينما كشفت منظمة الصحة العالمية أنها ستعقد اجتماعات يومية مع تطور الوضع.

ويقال أن العلماء قد وجدوا علاجاً محتملاً مضاداً لفيروس جدري القرود مع التشديد على أن هذه العدوى تبقى أقل خطورة بكثير من جائحة كورونا، وحددت دراسة جديدة تناولت حالات تفشي جدري القرود في المملكة المتحدة في السابق أحد المرضى الذي نجح باختصار الأعراض بعد تلقيه علاجاً بأحد نوعي مضادات الفيروسات المصممة أصلاً للجدري (smallpox).

وقد بحثت الدراسة التي نشرت في مجلة "لانسيت للأمراض المعدية" " The Lancet Infectious Diseases في حالات سبعة مرضى خضعوا للعلاج من الفيروس بين عامي 2018 و2021، وتأتي الدراسة بالتزامن مع تفشي فيروس جدري القرود الجديد في بريطانيا، التي بلغ عدد الحالات المؤكدة فيها 71 حالة، و85 حالة في أنحاء ثماني دول في أوروبا، وبحسب ما توصلت إليه نتائج الدراسة، تم رصد جدري القرود من خلال أخذ عينة من حنجرة المرضى وعينات من دمائهم. وأمضى خمسة من المرضى الذين شملتهم الدراسة أكثر من ثلاثة أسابيع في العزل– وصلت الفترة إلى 39 يوماً– بعد أن حصلوا على نتائج اختبارات تفاعل البوليميراز المتسلسل (PCR) إيجابية لفترات طويلة.

بيد أن مؤلفي الدراسة أشاروا إلى أن هذا الأمر لا يشير بالضرورة إلى عدوى تنتقل في الهواء على المستوى نفسه كفيروس "كوفيد". واستخدمت اختبارات "بي سي آر" في الدراسة، وتبين أنها (هذه الاختبارات) لا ترصد العدوى أيضاً.

تبقى التسؤلات مطروحة، وهي هل ما يحدث من أمراض وأوبئة طبيعي، أم أن ظهور فيروسات جديدة لم نكن نسمع عنها بأعراض خطيرة جديدة هو فعلاً حرب بيولوجية للقضاء على جزء من البشر؟ بين هذه الآراء وما يحدث على أرض الواقع، لابد للإنسانية من التنبه إلى هذه التهديدات التي تحدق بالجنس البشري عموماً، نتيجة أهواء عابثة أو أطماع ضيقة.

***

د. محمود محمد علي

......................

المراجع:

1- حازم بدر: لقاح «جينوس»... عصفور في يد العالم لمواجهة «جدري القرود»، الشرق الأوسط، الثلاثاء - 23 شوال 1443 هـ - 24 مايو 2022 مـ رقم العدد [ 15883]

2- محمد صلاح البدري: جدرى القرود.. الخوف من تكرار الكابوس!، الوطن ، الثلاثاء 24 مايو 2022

3- مروة الاسدي: جدري القرود: ما نعرفه وما نجهله، شبكة النبأ.

4-ريبيكا توماس: جدري القرود: العلماء يجدون علاجا محتملا مضادا للفيروس، الاندبندنت عربية،  الأربعاء 25 مايو 2022 13:39

5- وسام الشنهاب: قبل 15 شهراً.. «ميونخ للأمن» تنبأ بموعد انتشار وضحايا جدري القرود، الروية، الخميس - 26 مايو 2022

 

في المثقف اليوم