آراء

مُخّ السياسة أن تتعالى وتتسوّل بطرق لا يفهمها الفقراء

عبد الباقي قربوعةالفطنة في مفهومها الحديث هي الانتباه إلى ما لا يرِد في تقارير النشرات السياسية، تلك الأخبار الإعلامية التي تُملَى بصفة يومية على موظّفي الفضائيات التلفزيونية، فمن السذاجة أن يخبر أحدٌ جاره بدقّة وصدق عن وجبة تناولها في اليوم الفارط، أو تلك التي يريد أن يتناولها اليوم؟ وتخضع العملية لعدّة عوامل نفسية بين الجيران، كأن يكون جاره ذا خلق أشعبي، أو يمتاز بعين ثاقبة تستطيع اختراق الجدران، أو ذا طبيعة افتراسية عدوانية تتغّذى على ممتلكات الآخرين، وللسياسة المثل الأتفه والأقبح.

التمثيل يوحي لك بأنه لا يوجد في السياسة صراع أصلا، بل توجد أطماع واستخبارات تشتغل على إحصاء ما ينضج وينبت وينمو عند الآخرين، وهذه سياسة لا تنتهجها الدول الفقيرة، ولا العالم المغلوب على أمره بشتى نواحي، وبشكل إبداعي تتقنها الدولة التي تدعي الغنى والحضارة، وهي لعبة ذكية أيضا بدليل أن الشخص من المحتاجين قد يلبس لباسا رثّا مثيرا للشّفقة، وقد يلبس بذلة أنيقة وربطة عنق تمويها للوصول إل موائد زاخرة بالأكل والشراب والفاكهة، على رأي المثل الشعبي المصري "من برّه هالله هالله، ومن جوّ يفتح الله".

اللعبة تتمثل في تناقض شنيع موجود في عالم السياسة، كما تجده أيضا في عالم التسول، فعندما نقف على العنوان الذي يبهر العالم بقولهم: "مجموعة الدول الغنية"، في حين نجدها هي المبادرة دائما للاعتداء على غيرها من الدول التي تعتبرها فقيرة، تحتلّها حينا وحينا تثير فيها القلاقل، وحينا آخر تساعد جهات فاشلة لتنقلب على أنظمتها التي تحاول اللّحاق بركب المال والأعمال، النتيجة أن الدولة الغنية هي الأكثر عدوانية وعنصرية في العالم، والأمثلة كثيرة فقط أن النسيج الإعلامي المرتبط بالاقتصاد، والمنتفع منه بشكل وظيفي لا ينتقد سياسيا إلا الجهة الأضعف، أو هكذا تكون الغلبة بقوة المال في البداية، ثم تتحول بشكل آلي إلى قوة قرار حاسم لا يوجد من يتصدّى له، خصوصا إذا كان وراءه تحالفٌ يقتات بنفس الإستراتيجية ونفس النزعة.

وعلى ذكر كلمة التصدّي نعود إلى ألعاب المصطلحات السياسية، أو الصفات التي يبدع في اختراعها المعتدي الغالب بقراره، كالإرهاب والتطرف والتّخلّف والرجعية، إذن الدول الغنية تملك الساحة وحدها وتملك اللغة والقرارات، وفي يدها حبكة صياغة الإشاعة والتفنن في صناعة سحرها، وهم أحرار أيضا متى يستعملونها، وفي من يصفونهم بها، وأحيانا في من يورّطوهم بها بمبرر الدفاع عن النفس، وكونهم أغنياء يعدونهم بأنهم سيقفون إلى جانبهم بجميع الوسائل.

إذن هؤلاء جعلوا من السياسة شوارع خبيثة غير مأمونة، حتى الذي يسلك طريقا آخر نأيا بنفسه عن المشاكل ينعتونه بالمتطرف، أما الذي يحاول الدفاع عن نفسه ضد قرصنة السياسة فأكيد هو إرهابي، أما من ينغلق على نفسه ويكتفي بما ينتج فهو متخلف ورجعي وغير منفتح على العالم، على أساس أنهم هم العالم، وهم الثقافة، وهم المعرفة، وهم الاقتصاد، وهم الحضارة، وهم، وهم.. وهم الوَهم وهم الحقيقة، وهم بداية العالم وهم نهايته، وهم أولاد الله والباقي لقطاء لا يعرفون أباهم ولا أبوهم يعرفهم، ربما وجدهم أحدٌ في حاوية كارتون في إحدى مزابلهم الثرية بالفضلات!

لا يدرون بأن فقراء العالم الذين يمثلون غالبية الكائنات البشرية الطبيعية صاروا لا يطيقونهم، فهم أحرار أيضا في تصنيف الذين يتسبّبون في ضيق عيشهم، ويخنقون عليهم رحابة الكون بضجيجهم وهرجهم ومرجهم في العالم، لا يدرون مقابل ما يفعلون في الأرض بأنهم وحوش، ولكن الضعفاء لا يجرؤون ولا يملكون سجلّات التاريخ، ولا دواليب القرارات، ولا مجالس النظر في شؤون الخلق، لذلك يكبتون في أنفسهم ويصمتون، وبعضهم يقاومون حتى يموتون، لا يتجهون بقضاياهم إلّا إلى الله ليمدهم بالصبر والعزيمة.

فالطاغية ليس هو الذي يقوم بفعل الظلم، بل الطاغية هو الذي له قدرة في إثارته وتشجيعه، وصناعة أدواته ووسائله، وبدلا من أن يقضي على الاستبداد يؤسسه ويدعم المستبدين في العالم، العجيب أنه يُقرض وسائل القمع والقتل، ولا يُقرض الخبز والدواء للمرضى وبؤساء العالم، ومن السهولة أن يحاصر بلدا يدمره ويُبقي أهله تحت طائل جوع قاتل، ولا يستطيع إحياء قرية ميتة ولو بالماء، أمّا الضحايا فهم اثنان:

الضّحية الأولى: هم الأصوليون من الإسلاميين والمسيحيين على حدّ سواء، لأنهما يشتركان في التصدي للأخلاق السيئة، كشرب الخمر، والربا، والتزوير، والرشوة، والزنا، باختصار مشتهيات الظلمة منذ أول رسالة مقدّسة، وعليها سُجن وعُذب الأنبياء والرسل، ولعل السيد المسيح مشهدٌ أكثر بشاعة مما فعل مثل هؤلاء الظلمة في الأنبياء والصالحين من عباد الله.

الضّحية الثانية: هي الدولة القويّة التي تملك نفس الأدوات ونفس الوسائل، ولها نفس الطمع في قيادة العالم على أساس الحفاظ على كيانها أو ما تدّعيه من حرص على التوازن، وهذا ما يسمى عادة الصراع حول قيادة العالم، وهي بالأصل خلفية الحربين العالميتين الأولى والثانية، يبدو أن الدول التي كُبرت على حساب المستضعفين في العالم قد كذبت على الشعوب بقولها أن عصر النهضة من مخلفات هاتين الحربين. ترى ماذا سيبتكر الغرب لتلهية الشعوب بعد الحرب الثالثةWWIII أوWW3؟ 

يظنون أن العالم أطفال حين يتحركون ويتواصلون ويتحاورون بمصلحات منتهية الصلاحية، كالتعاون وإعادة العلاقات الدبلوماسية، والعمل على تقوية الصداقة بين البلدين، الجزائريون أكثر واقعية في التعامل مع السياسة، لذلك فضّوا التواجد الفرنسي في أرضهم مبكرا، ومثلهم الشائع: (ياو فاقوا) له أبعادة كثيرة وواسعة وشاملة، لا أحد يستطيع أن يشكّك المواطن العربي البسيط في أنه لا يوجد لأمريكا وإسرائيل أحزاب إسلامية تتحدث بالعربية، وتستشهد بالقرآن والسنة، وبالمأثور مما ترك السلف الصالح من الصحابة والدعاة، ويستأجرون في صناعة خطاباته فقهاء في الفقه والتأويل.

لا أظن أن أعداء الله مكتوفي الأيدي أمام ما شعروا به اتجاه كل أنواع الصحوات: الدينية، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، فمخّ السياسة أن تتعالى وتعرف كيف تتسول بطريقة لا يفهمها الفقراء، أكيد الرئيس الأمريكي "جو بايدن" يظننا لا نفهم زيارته المفاجئة إلى السعودية، وأننا لا نفهم أيضا خلفية رفع سقف تكاليف الحج هذا الموسم، وأنه في هذا العام بالضبط لا يجب على إعلامه أن يثير وتيرة ارتفاع نسبة الإصابات بجائحة كورونا، ربما يظن أننا لا نعلم أيضا بأن روسيا تُحسن (الفتونة)، وأنها تملك نبّوتا كنبوته أو ربما أخشن، وأكيد أيضا يظن أنه لا يوجد من بين المسلمين من يعرف أن للأمريكيين شراكة أمنية في الكعبة بحجة الغطاء الأمني السياحي، العالم كله يعلم خلفيات وتداعيات الاجتياح الأوروأمريكي (التحالف الغربي) على بغداد، أم أنه كان يعول على إنشاء شرق أوسط ملائم لإسرائيل بالمجان؟

السياسي المحنك هو الذي يستطيع أن يصنع من أصدقائه كلابا تنبح في الليل، وكلابا تنبح في النهار، وأخرى متخصّصة لإيقاف القادمين في النقطة المحدّدة، وكلابا إضافية سهلٌ تحريضُها على دول لا تعرف كيف تلتمس خيراتها من ظاهر أرضها وباطنه.

المسلمون يزحفون على أرواحهم كل عام لأداء فريضة الحج، لكن ولا واحد فكر بأن مكة المكرّمة مستثمرة عالمية تتبطن على ثروة عظيمة، على غرار ثروات النفط والغاز والذهب وغيرها، أم تظن السياسة الغربية أن الشعوب الإسلامية تجهل ألغاز تماطل مجلس الأمن الدولي في حل مشكلة الأقصى، والتداعيات التي يخافون منها في حالة ما إذا تقلّدت المقاومة الحكم في فلسطين. من يضمن لهم نظاما كنظام السعودية، نظام غني ولا يستطيع حماية نفسه إلا باللجوء إلى مجلس الأمن، حتى حركة فتح لم تتوسّم في قيادتها سياسي ذكي يمكن أن يكرس هذه الشراكة الخبيثة.

إسرائيل غبية تظن أن أمريكا لا ترشحها لإدارة القدس إلا لأنها صديقة وحليفة تقليدية، وتجهل أنها بنفس الفجوة السياسية والأمنية مع النظام السعودي، فكلاهما سواء عندما نقيس الدولة بما تمليه الفلسفة وما يحتاج إليه بناؤها من أدوات حضارية. كأن تخضع خيارات الحكم إلى تاريخ هش، أو إلى وراثة قبيحة لا تخرج عن كنف العائلة.

وأمام صراع الأغنياء الثمانية، أو بالأحرى المختلسين الثمانية، ها قد اتضح أن هؤلاء هم أفقر خلق الله، أمام فلاح في عمق العالم يعتمد في غذائه على محصول أرضه، وكالنملة يخبئ ما يفيض من خيراته إلى يوم الحاجة، أمريكا وأوروبا يتسولون اليوم، وجو بايدين جاء إلى السعودي لسبب إضافي، وهو استلام حصته من الموسم السياحي لهذا العام، فلم يصبر كعادته حتى تصله في البيت الأبيض، لأن العائدات ضخمة هذه المرة، والتفاوض أشد على خلفية نية التحالف الأمني الخليجي في تعويض ما خسره في الحرب على اليمن، أضف إلى ذلك ما يكنه من استفزاز للمسلمين باختياره هذا التوقيت بالضبط، مع قراره حول المرور مباشرة إلى إسرائيل، طبعا لا أحد يستوعب هذه الرسالة التي تزامنت مع رائحة حرب عالمية ثالثة، فهل هذا هو الوقت الحاسم لترسيم شرق أوسط جديد تكون فيه الغلبة لإسرائيل، أم نعبّر عن الحالة بأن الفتوحات الإسلامية سيستثمر فيها الغرب هذه المرة؟ وإضافة إلى مصطلح "دعش" لا أحد يستوعب ما ستخترعه الاستخبارات الأمريكية من مصطلح كفيل بأن يسيل لعاب جهاديين جدد، وأكيد سترتكز على وتر كراهيتهم للشيوعية، ونصرة الأقليات الإسلامية المتواجدة على هوامش مساحات المعسكر الشرقي. الدول المتحاملة على نصرة أوكرانيا يجب أن تنبته أو تكون على الأقل حذرة، فأوكرانيا ليست سوى دودة في شوكة صنارة الصيد الأمريكية، فهي تعرف كيف تُعلّم على أعدائها بالقضايا ونقائضها، وها هي قد أوقعت بعضهم في مشاعر متناقضة، إشراك السعودية في إرساء شرق أوسط جديد، وتجنيد إسرائيل لحمايته كقوة معترف بها بعد تصفية عناصر المقاومة بنسبة جعلتها تقتنع بأنها في أمان، أو بالأخرى جعلت أمريكا الرّاعي الأول لأمنية تقنعها بذلك، وأن الرأي العام الآن منهك وغير قادر استيعاب ملامح نشوء حرب عالمية التي اختار الكيان الصهيوني أن تكون فتيله أوكرانيا.

من العجيب أن النازية العدو التقليدي التي تصدّت له أمريكا في حربيها العالميتين الأولى والثانية، تصير اليوم حليفة وصديقة ومسكينة ومظلومة، أنا لست مع روسيا في الإطاحة بأوكرانيا، ولكنني أشير إلى أبعاد هذا العدوان وأسبابه ودوافعه، فأمريكا تعلم أن الضحايا هنا وهناك لا يمكن أن يكونوا إلا مسلمين، أو شعب بسيط سيموت على ما سيموت عليه ولا يهمها من أمره شيئا، وقد ساعد على تكاثر الظاهرتين انهيار الاتحاد السوفياتي بالطرق التي اختارت أمريكا أن تُفتّته بها، أو ما نتج عن ذلك من تمازج في الأديان والأقليات والجنسيات نتيجة تجانس المصلحة، ما أزعج أمريكا هو سيطرة روسيا على هذا الوضع في حين كانت تعتبره فخّا موقوتا، إذن هي ظاهرة جديدة لم تكن في حسبان أمريكا، ولطالما تظاهر وتفاخر بوجودها على أراضيها، على أساس أنها أكثر الدول هدوء رغم كثرة الأقليات والأديان والأعراق والألوان.

إذن أمريكا لا تحب أن ينجح أحدٌ فيما نجحت فيه، فما بالك إذا تجاوزها إلى درجة التفوق! وإلا ما كانت لتستثير عواطف الجهاديين الحقيقيين والعملاء المدربين لتقمص دور كراهية الشيوعية. فعلا أمريكا اليوم وضعت من تعتبرهم حلفاء مصالح في حيرة من أمرهم، أو بصراحة أكثر جعلتهم ينكسون تطلعاتهم بالزيارة المرتبة بدقة مكانا وتوقيتا، (من نجاح الهدنة في اليمن، إلى زيارة السعودية خلال موسم الحج، ومنها إلى إسرائيل) ضبط المسافة والمناسبة تجعل آخِر من يهتم بالسياسة أن جو بايدن لن يزور دولة أخرى، بل سيعود إلى البيت الأبيض لترتيب شؤون الاتحاد الأوروبي كمشروع سياسي ضخم، إذ لا يمكن أن يخوض حربا عالمية ثالثة إلا باتحاده الفعلي، خصوصا وقد وضعت النازية (هبرة) لحم لينة عند أنفها، وقد صورتها لها في الحرب العالمية الثانية قطّا شرسا وأنها هي الهبرة التي يتربص بها هذا القط، ومع الأسف ذهب الجزائريون ذلك الوقت ضحية هذه اللعبة القذرة، ألم أقل لكم الدولة الجزائري أكثر حذرا بحكم ما لديها من تراكمات تاريخية.

لا أقول ذلك من باب أني جزائري لزوم التحيز ولكنها حقيقة، فالجزائر الوحيدة المتحرزة مما ينتج من هذه التحركات الواضحة وأكثرها الغامضة، بدليل أنها لم تهلّل للرئيس الفرنسي كثيرا، خصوصا وأنه مقبلٌ على ظهور فضائح ذات عيار ثقيل، وأنها لم توقّع وثيقة دول التعاون الأمني الخليجي، التي كان ملف العدوان على اليمن ينتظر على بابها، وليست من السبّاقين إلى التطبيع سيان كان واضحا أم خفيا.

أمريكا ستدفع بزيارتها إلى السعودية ثم إلى إسرائيل ترتيبا بعض الدول إلى التفكير في خيارتها السياسية السابقة، وسيعرفون أنهم مقبلين على دعم نظام نازي سيقود المعسكر الشرقي مستقبلا، بناء على أن روسيا لم توف بشروطها اختيار حلفاء أمنيين بما يروق للمعسكر الشرقي هذا من جهة، ومن جهة ثانية أنه لابد على أحد الطرفين أن يشعر بحاجته إلى قيادة العالم اطمئنانا على صولة كيانه، ومن جهة ثالثة الانبهار الغير محسوب له من طرف المعسكر الغربي المتمثل في التقدم المُلفت في مجالات الصناعة، خصوصا الاحتياط المسكوت عنه من الثروات الطبيعية للدول التي تشكل قطبا أمنيا واقتصاديا معارضا للسياسة الأمريكية، هذا القطب الذي كانت أمريكا تظن أنه أضعف أو على الأقل متوازن، ومع هدوء الحرب بين السعودية واليمن، والارتفاع بالباهظ - بالمناسبة - في تكاليف الحج، وتباعا زيارة بايدن للسعودية وإسرائيل، فإن كثيرا من الدول تشعر بأن سحابة حمراء غريبة تحوم فوق المنطقة، هذه السحابة تشكّك في أصول كثير من الأعراق والقبائل، أو على الأقل تُلمح أن فيهم شرخ أو اختراق، وككل عام حجٌّ مبرور وسعي مشكور لحجّانا الميامين.

***

الكاتب الجزائري عبد الباقي قربوعه

 

في المثقف اليوم