آراء

لهذه الأسباب لم يحتف بثورة 14 تموز

قاسم حسين صالحمرت الذكرى الرابعة والستون لثورة 14 تموز 1958 هذا العام(2022) دون الاحتفاء بها رسميا واعلاميا، بل ان فضائية العراقية وصفت بانها تعمدت الاساءة لعبد الكريم قاسم واستضافت من له العداء معه وتشويه صورته.

والتساؤل: لماذا؟

قل ما شئت عن عبد الكريم قاسم، ونحن نقر بأنه ارتكب اخطاءا كبيرة.. بينها اعتماده مقولة عفا الله عما سلف! ولكن لا يمكن لأحد ان ينكر حقيقة ان حكّام العراق الحاليين هم افسد وافشل من حكم العراق في تاريخه السياسي، وهم لم يحققوا انجازا واحدا لصالح الوطن والناس طوال (19)سنه من حكمهم فيما حقق قاسم اروع الانجازات في اربع سنوات.. يكفيه انه استردّ ثروتنا النفطية من الشركات الأحتكارية، وألغى حلف بغداد، وقضى على الأقطاع لصالح ملايين الفلاحين، وبنى لسكان الصرائف بيوتا تحفظ كرامتهم.

ويرى المعادون له انه لولا (انقلاب) 14 تموز(الأسود!) لصار العراق من الدول المتقدمة، ما يعني انهم يدافعون عن النظام الملكي وينسون انه قمع بشراسة وثبة كانون الثاني 1948، وانتفاضة 1952، وانتفاضة 1956، وزج الاف المتظاهرين بالسجون، واعدم قادة الحزب الشيوعي عام 1949، ولم يسلم من اضطهاده حتى القوميون والديمقراطيون مثل كامل الجادرجي.. ويكفيه عارا انه بنى سجن (نقرة السلمان ) في الصحراء زج فيها آلاف السجناء من قوى اليمين واليسار.

بين اخلاقهم و اخلاقه

الذي يعنينا هنا.. ما امتلكه عبد الكريم قاسم من اخلاق وما كان شائعا منها في المجتمع العراقي في زمانه، وموازنتها بما يمتلكه حكّام هذا الزمان وما هو شائع منها بين العراقيين الآن، منطلقين من حقيقة ان الاخلاق بوصفها منظومة قيم، هي التي تحدد الاهداف وتوجّه السلوك، وهي للمجتمع اهم من السياسة.ولنا ان نتذكر ان رسالة النبي محمد كانت اخلاقية بالدرجة الاساسية (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).. وقد خصه القرآن الكريم بقوله (وانك لعلى خلق عظيم) الغاية منها ان يقتدي الناس بأنموذج نبيهم.. قائدهم.فضلا عن ان الفلاسفة والمفكرّين يتفقون على ان الاصل في تقدم المجتمع وتطوره هو نوعية اخلاقه، وكان احمد شوقي على صواب في قوله:((وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت...فـإن هُمُوُ ذهبــت أخـلاقهم ذهــبوا)).

من هذه الاعتبارات.. نبدأ بتحديد اهم ما كان يمتلكه عبد الكريم قاسم من اخلاق وموازنتها باخلاق المسؤولين الآن.

اولا: كان اختيار الرجل لوزراء حكومته يقوم على وفق معايير الكفاءة والخبرة والنزاهة، واعتماده مبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب في اغلب اختياراته.. مثال ذلك:ابراهيم كبة (اقتصاد)، محمد حديد (مالية) فيصل السامر (ارشاد)ه ديب الحاج حمود (زراعة) ناجي طالب (شؤون اجتماعية).. نزيهة الدليمي (بلديات).. وهي اول وزيرة في تاريخ العراق.واختياره عقلا اكاديميا عبقريا لرئاسة جامعة بغداد التي تاسست في زمنه هو الصابئي المندائي الدكتور عبد الجبار عبد الله، برغم معارضة كثيرين، وقول بعضهم.. كيف تختار صابئيا، وردّه الجميل: اخترته رئيس جامعة وليس رئيس جامع!.

اما في زمن الطائفيين فان معيار اختيار الوزراء هو الولاء للحزب والطائفة وان كان لا يمتلك خبرة.فوزارة العدل مثلا تسند الى منتم لكتلة طائفية وان لم يحمل مؤهلا علميا، ولا تسند لحامل دكتوراه في القانون الدولي حتى لو كان من الطائفة ذاتها ان كان مستقلا.

وكان العراق في زمانه.. دولة، فيما واقع العراق بزمن الطائفيين صار دويلات، بل ان كل وزارة في الحكومة هي دويلة لهذا المكون السياسي او ذاك.وكان عبد الكريم محبّا للعراق ومنتميا له فقط، ولهذا كانت المواطنة، بوصفها قيمة اخلاقية، شائعة في زمنه بين العراقيين، فيما انهارت بزمن الطائفيين، وصار الناس يعلون الانتماء الى الطائفة والقومية والعشيرة على الانتماء للوطن.. وتلك اهم وأخطر قيمة اخلاقية خسرها العراقيون وكان سببها الطائفيون.

ثانيا: يمثل عبد الكريم قاسم انموذج الحاكم القدوة من حيث نزاهته.كان يعيش براتبه ولا يملك رصيدا في البنك.ولهذا لم يجرؤ في زمانه وزير او وكيله او مدير عام على اختلاس او قبول رشوة او التحايل على مقاولة.وما كان اهله او اقرباؤه يحظون بامتيازات.فشقيقه الأصغر، لطيف قاسم، كان نائب ضابط في الجيش العراقي، وبقي بتلك الرتبة طيلة مدة حكم أخيه عبد الكريم قاسم.

اما الطائفيون فانهم يسكنون في قصور مرفهة ويتقاضون رواتب خيالية.فوفقا للخبير الاقتصادي ابراهيم المشهداني فان تخفيض رواتب المسؤولين الكبار حتى درجة مدير عام بنسبة 50% يوفر للدولة 14 مليار دولار سنويا!.ولقد بلغت بهم الصلافة انهم يعارضون الدعوة الى تخفيضها بالرغم من انهم افقروا 13 مليون عراقيا باعتراف وزارة التخطيط مع ان العراق يعد الأغنى في المنطقة وواحدا من اغنى عشرة بلدان في العالم.

والأقبح، ان الفساد الذي كان يعد ّعارا في زمن عبد الكريم قاسم تحول الى شطارة في زمن الطائفيين، واصبح العراق ثالث افسد دولة في العالم واول افسد دولة في المنطقة، لدرجة ان المرجعية الموقرة وصفت الفساد في العراق بانه صار لا يقل خطرا على الارهاب، وان في الحكومة (حيتانا ولصوصا).وبلغ المنهوب من ثروة العراق من قبل وزراء ومسوؤلين كبار ما يعادل ميزانيات اربع دول عربية، وراحوا ينعمون بها في عواصم العالم دون مساءلة.وصار رئيس الجمهورية ورئيس الوزرارء والوزراء يعينون ابناءهم وبناتهم مستشارين لديهم.. لا ليقدموا خبرة هم اصلا لا يمتلكوها، بل ليحصل من هو في العشرين من عمره على راتب يعادل اضعاف راتب استاذ جامعي.. دكتور وبروفيسور.. بلغ الستين!

وبشيوع الفساد، وسكوت الحكومة عن محاسبة الفاسدين، برغم اعتراف رئيسها السابق(نوري المالكي) بان لديه (ملفات فساد لو كشفها لأنقلب عاليها سافلها) – وفي هذا ادانة لأنه لا يمكن لحكومة فاسدة ان يكون رئيسها نزيها - فان معظم الاخلاق الاصيلة في المجتمع العراقي قد انهارت.. وشاعت فيه قيم الانانية والانتهازية والنفاق، بأرذل صفتيه.. الكذب وخيانة الأمانة.

ثالثا: ما كان للرجل قصر او بيت لرئيس الجمهورية.بل كان ينام على سرير عادي بغرفة في وزارة الدفاع.وكان يخالط الناس ويتجول بسيارته في شوارع بغداد.

يذكر عنه ان احدهم كان يبيع الكبة في عربة صغيرة بشارع الكفاح يكنى (الحجي) وكان عبد الكريم يسلم عليه بيده من نافذة سيارته حين يأتي من الباب الشرقي الى مقر عمله بوزارة الدفاع في باب المعظم.وحدث انه لم يشاهد (الحجي) بمكانه ليومين، فاوقف سيارته في اليوم الثالث وطلب من مرافقه ان يسأل صاحب مقهى شعبية في فضوة عرب فاخبره ان (الحجي) مريض ونائم في بيته.. فطلب منه ان يذهب غدا الى بيته كي يقوم بزيارته واداء الواجب.. وحصل ان (الحجي) حضر صباح ذلك اليوم ومعه عربته.. حياه عبد الكريم وقال له ملاطفا:

- حمد الله عالسلامة حجي.. بعدك شباب.

فاجابه:

سيادة الزعيم، اني من اسمعت جنابكم سأل عني، راح المرض مني وشفيت.

اما الطائفيون فان احدهم اذا خرج للشارع سبقه وتبعه فوج حماية بطريقة مهينة للمواطن.وهم عزلوا انفسهم لوجستيا بمنطقة مساحتها 10كم مربع محاطة بالكونكريت وبنقاط حراسة مشددة.وما حصل ان هذه (المنطقة الخضراء!).. سرقت احلامهم وجلبت لهم الفواجــع اليوميــة، وأوصلتهم الى اقسى حالات الجزع والأسى.ومن حالة الخذلان هذه نشأت سيكولوجيا العزلة عن الناس، ومنها نشأت حالة اخطر هي سيكولوجيا القطيعة النفسية.. بدأت من يوم انفرد أهلها بتحويل واقعهم الى حياة خرافية وترك من اوصلهم اليها يعيشون حالة البؤس والخوف والفجع اليومي. وتطورت القطيعة الى خصومة في اليوم الذي خرج فيه المخذولون (البنفسجيون) بتظاهرات كانت تحمل في البدء معاني العتب والتنبيه، ولما تأكد لهم انهم ما استجابوا وما خجلوا ولا حتى قالوا لهم (حقكم علينا).. عندها غصت ساحة التحرير في شباط 2011 بالجماهير تهتف (نواب الشعب كلهم حرامية).. فردت المنطقة الخضراء بان اوفدت احد (مناضليها) ليصعد على سطح العمارة المطلّة على الساحة ويعطي الاوامر بضربهم.. وربضت الدبابات على جسر الجمهورية خوفا من زحف الجماهير للقضاء على سبب البلاء والابتلاء.. الذي تجاوز مساويء السياسة الى الاساءة للدين وافساد القيم.. في حال افضى الى اضعاف الضمير الاخلاقي ليغلق، بآلية نفسية، باب الشعور بالذنب ليفعل صاحبه ما يشاء وسط آخرين يهونون عليه الأمر برؤيته لهم يتفننون ويتشاطرون في فعل الشيء نفسه.. وآخرين يخرّجونها دينيا بأن (الضرورات تبيح المحظورات!). وبضعف الوازع الديني وتهروء الضمير الاخلاقي عند السياسي، يكون قد غيّر سكّته الى حيث الرفاهية الشخصية التي تغريه وتنسيه بؤس الناس وحاجتهم اليه، الى الدرجة التي صار فيها العراقيون يصفون أهل المنطقة الخضراء بأنهم (مسحوا آخر قطرة حياء من جباههم)لانشغالهم بمصالحهم وعدم اكتراثهم حتى بعراء الأطفال في ثلج الشتاء!.. وقيظ تموز.. بالرغم من انهم هم السبب.

رابعا: في العام 1959 منح العراقيون عبد الكريم قاسم لقب (ابو الفقراء).. لأنه بنى مدينة الثورة لساكني الصرائف في منطقة الشاكرية، واكثر من 400 مدينة جديدة وعشرات المشاريع الاروائية.. فاحتل قلوب معظم العراقيين وراح بسطاء الناس ينسجون عنه الاساطير.. بينها انهم رأوا صورته في القمر.واغلب الظن ان العراقيين سيلعنون معظم حكامهم الطائفيين بعد مماتهم.

وتبقى حقيقة سيكولوجية: لو ان بين الطائفيين من كان قريبا في اخلاقه من عبد الكريم قاسم.. لاكتفى العراقيون بذكره الطيب ولما بقي يحتل قلوبهم لنصف قرن.. ولكنهم كانوا ضده النوعي السلبي في الأخلاق.. لأبعد مدى.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

في المثقف اليوم