آراء

بدايات التقدم عند الاوربيين، لماذا لا نقتدي بهم؟

عبد الجبار العبيديسجلت الحركة الموسوعية االفرنسية التي قامت على فكرة ترتيب عقلي للعلوم اول نجاحاتها حين استطاعت ان تطلق حركة التاريخ والحضارة من عقالها بتكوين دائرة المعارف الفرنسية، واخراجها من الدائرة المفرغة التي عاشت فيها اجيالا طويلة، الى الدائرة التي بدأ الناس يديرون ظهورهم فيها للماضي والتطلع لكل جديد في المستقبل. وكانهم بدأوا يدركوا ان عصرا جديدا اخذ يلوح في الافق بكل امكانياتة المستقبلية، حتى بدأوا يدركون ان وعي الانسان لنفسه هو ما سموه بميلاد الضمير فاستقر وأطمئن حين استيقظ فيه الوعي الفكري الكبير لروسو وفولتير والذي قام على قاعدتين : الفكرالعلمي ثم استقرار فكرة التقدم في الأذهان، الذين خلقوا وعي الثورة الفرنسية عام 1789 م التي جاءت بمبادىء الحرية والاخاء والمساواة .بغض النظرعما كانوا يعتقدون به من دين.

ان المفكرين الذين قادوا الحركة العلمية كانوا من المتحمسين لحرية القول لتحقيق غايات اجتماعية وسياسية انقلابية لأنشاء مجتمع المدينة بعيدا عن مجتمع الدين الذي سبب ركود حركة المجتمع العملي المتطلع للتطور والتقدم محاولين أقامة شكل حضاري جديد، ومنهم بدأ الخروج الأوربي الى عصر النهضة الجديد، التي ساندتها الطبقة الوسطى من تجار ومزارعين، بينما نحن تألفت الطبقة الوسطى مع الحاكمين، فتوقف التقدم لصالح المنتفعين.

لكن الصدمة التي واجهت الفرنسيين هو التغيير المفاجىء للثورة الفرنسية، حين تحولت مبادئها من الحرية والاخاء والمساواة التي جاءت من اجلها الى عهد الظلم والتعسف الذي كان سائدا على عهد ملوك اوربا في العصور الوسطى ونظريات الحكم الالهي في حكم الدولة "كما نحن اليوم"، فعادت المذابح والفوضى من جديد بعد ان ساهم بعض قادة التغييرامثال روبسبير ودانتون ومارا، الذين ارادوا ان يحولوا المكاسب التي تحققت على يد العلماء والثوار الى تدمير لهم ولامال الشعب الفرنسي العريضة على العدل القادم المنتظر وكأن تحطيم سجن الباستيل واخراج الابرياء والاحرار منه لم يعد ذي بال، كما حصل عندنا بعد ان مالت طبقة الحكام الى المكونات الفردية والفساد العام وحصر السلطة بايديهم فتهدم المجتمع من جديد.

التاريخ لايعيد نفسه ابدا، لكن الحدث هو الذي يتشابه في زمن مغاير، وكأن الامنيات التي راودتنا يوم التغيير في 2003 سرعان ما تبخرت بعد ان انحرفت الاهداف عن مقاصدها بأهل الظلم والخيانة والعدوان، والنفوس عن التزاماتها، فظهر فينا من امثال روبسبير ودانتون ومارا الكثير"الاطار التنسيقي ومن حالفهم مثالاً" الذين مالوا لانفسهم ونسوا الله والشعب والوطن والقسم واليمين، ولكن اين هم الان ؟، يتمنون لو لم يخلقوا، وفي سجونهم النفسية التي ينزوون بها، ولن يبقَ اليوم الا الذين بربهم يؤمنون وبالشعب والحق والعدل يوفون، والذين نرجو ان يكونوا على ما ألتزموا به مؤمنون ولا يتراجعون كما هم الشعب في الخضراءاليوم، يطالب برؤوس الخائنين، كما طالب ثوار فرنسا برؤوس الخائنين.

وهكذا عندما احس المنحرفون من خونة وطن العراق، والقاعدة المجرمة والمنتفعون ان ايامهم شارفت على النهاية، كونوا منهم ومن جيران الوطن الحاقدين عصبة كافرة بالله والوطن فسرقوا ونهبوا وقتلوا وشردوا باسمك يا وطن، لكنهم اليوم يعانون.

ان الذي حدث كان عكس التصورلانهم اغبياء لا يدركون ، فأن حركة التاريخ لن تعود الى الوراء ابد كما عند الثورة الفرنسية، التي زعزعت اركان البيت القديم وان لم تهدمه. ولم يعد صالحا للسكن على الحالة الاولى التي بدا فيها للناس. لان التغيير ومنافعه حين يستقر في الاذهان يصبح من الصعب نزعه من افكار المظلومين، بعد ان يشعروا ان البديل هو عودة الظلم وفقدان الحقوق مرة اخرى كما هو الشعب العراقي اليوم، لذا لم يعتقد الفاشلون ان ثورة تشرين الخالدة ستكون هي البديل رافضةً الردة الى الوراء رغم قساوة المغتصبين حين أنقلبت واخلصت القيادة الوطنية للمبادىء في قيادة الثورة رغم ضراوة وقساوة الحاكمين .

لقد كتب لنا المؤرخ شمس الدين السخاوي "831-902 للهجرة" في كتابه الاعلان بالتوبيخ لمن ذم اهل التاريخ، كما كتب فولتير الفرنسي بعد عهد طويل في فهم التاريخ وكيف ينبغي ان يكون لازاحة الظالمين من على صدور الناس لتكوين عهد جديد، وهكذا هو اليوم تحقق الثورة الوطنية التي تريد اشعالها الحركة الصدرية وان غلفت بالدين لتتبعها الناس في التحقيق، والتاريخ يعلمنا ستنتصر الجماهير بفعل وعي فكري ظهر لن يستطع احد رده اليوم، هذا الوعي الفكري الجماهيري يقوم على:

تحقيق ثلاثة اهداف رئيسة في حكم الدولة هي التي ستعيد الدولة الى ما جاء به العلماء وثوار التغيير:

الهدف الاول، انشاء المؤسسات العلمية التي سترفد من فكر الموسوعيين الجدد والتي اصبح لديها القدرة الخلاقة على تجديد مفردات الحضارة.

والهدف الثاني، اصلاح التعليم بكل مراحله الثلاث ليرا فقه القانون في التطبيق، لتحقق ارادة فكرية علمية قائمة على المنهج العلمي الجديد بعيدا عن افكار مؤسسات الدين، وهنا ستحقق على الارض نظرية تحويل (المبادىء الى تشريعات)، بعيدا عن تشريعات اعداء القوانين .

والهدف الثالث، سيكون تلقائيا ونفسيا فلم يعد بمقدوراحد او جماعة بالعودة لما كانت عليها الدولة قبل التغيير، بعد ان استقر الفكر العلمي في الاذهان، ورغم عودة الفردية لظروف سياسية معينة، لكن سرعان ما ستنتهي اسرة بلطجية المنطقة الخضراءليعود حكم الشعب مرة اخرى ليستقر الى الابد، فهل ستطبق التجربة الناجحة عند العراقيين، نعم وبكل تأكيد.

ان جذور التغييرفي عراقنا الحبيب قد نبتت ولا احد يستطيع أقتلاعها في العراق اليوم رغم عتامة الوضع السياسي الحالي ومحاولات اعداء الديمقراطية والحرية والمتخاذلون الذين في غرف الاعداء يسكنون، وفي الجبال بمغاراتهم لابدون، يتماثلون مع القاعدة المجرمة ونزوات المنتفعين السابقين. وهاهم مطاردون وفي فنادقهم في عمان ودبي وبرلين ولندن وغيرها مختبئون كالجرذان تلفهم الكآبة نادمون، وعلى افعالهم الشائنة يتباكون، واصحابهم الذين تعلموا منهم السحر في المنطقة الخضراء يرتجفون، ، لا تتراجع ياصدر لتكتب تاريخا للمخلصين .كن صامدا كما صمد المخلصون من الاباء والاجداد العراقيون فأنت عربي منهم، واذا تراجعت ستكون ما لم تكن، فحذاري من الذئاب التي تعلمت أكل حتى اولادها دون ضمير.

من هم الافذاذ الذين قادوا حركة التغيير نحو الامام في اوربا واخترقوا الصعاب، وهل كان لدينا نحن العراقيون مثلهم في تاريخنا الحضاري، ان من مفكريهم الافذاذ، هم: المفكر الكبير سان سيمون، ودارون، وهربرت سبنسر، الاقطاب الثلاثة الذين نزعوا من أفكار الغربيين خرافة العصور الوسطى الدينية ليحولها الى نظريات العلم الحديث وليحولوا اوربا من عصر الظلام الدامس الى عصر الانوار، وليثبتوا ان الانسان هو اثمن رأسمال في الدولة، فهل سيعي حكامنا اليوم ذلك الذين قتلتهم الردة من امثال الهاشمي وثوار تشرين أم سيبقون يسمحون للاخرين يدمرون.

من قال لك ان ليس فينا اليوم مثلهم، لدينا الكثيرون، الم يكن فينا ك الاجداد، الحسين (ع) وعمر بن عبد العزيز(رض) وعزالدين سليم الذي قتلوه غدرا عندما أحسوا انه عائق كبير، ومن هم على شاكلته، وقبلهم، عبد الكريم قاسم وحسن سريع وعدنان الحمداني ومحمد عايش والاخرين، ان الرجال سيبقون على العهد ملتزمين، فلا خوف على العراق اليوم ولا غدا وسينهزم الخائبون. ولنعد للمفكرين الافذاذ الذين قادوا ركب بلدانهم التي هي اليوم بها تفتخربهم ويفتخرون.

ان الوطن لا يصونه الا اهله المخلصون، والسياسة لا تديرها الا العقول المدركة المسبرة لاغوارها الصعبة، وكم نحن الان بحاجة الى نصائح الامام علي (ع) لعامله على مصرمالك الاشتر وعمر لقادته في فتح العراق .وليعلم من يحكم العراق اليوم، ان كل تقدم حضاري ينبغي ان يسير منذ البداية على خط فكري واضح مدروس، ولا يجوز ابدا ان يسير وفقا لنزعات نفر من ذوي السلطان لا ينظرون الى العواقب بقدر ما ينظرون فيما يعتبرونه أمجادا شخصية من غارات وغزوات وحروب ومنافسات وحيل وتدبيرات لا يجني احد من ورائها شيئا في النهاية الا السقوط، ولا تفكروا بما كنتم انتم فيه تعانون، بل فكروا بما انتم في الان تعملون وتقدمون فالشعب ظلم من الكثيرين فليس معقولا ان يكون الظلم فاشٍ بابواب القادمين، وفي السابقين عبرة لمن يعتبر.

ان الذين يتقاتلون ويستميتون على المغانم والسلطة الوهمية والملكية الجديدة الموهومة ويسعون للفرقة وتدمير الوطن والشعب سوف لن يحصدوا الا الريح ولن يحرثوا الا في بحار الاوهام في نهاية المطاف هم الخاسرون.

ياقادة العراق المؤمنون الصادقون لا تهنوا ولا تكلوا ولا تعتمدوا على غير ثقة، ولا تبرموا امرا حتى تفكروا فيه فان فكر العاقل مرآته، ولا تبذروا مالا ليس لكم، فأنكم الاعزاء مادام بيت مالكم عامراً، لكن نراكم اليوم فيه تتهاونون مع من لا يستحق التكريم، ففد ترك الله لكم في العراق وفي ارضه مالا ورجالا لا ينضبون، فلا يصلح السلطان الا بالتقوى، ولا تصلح الرعية الا بالعدل ولا تعمر البلاد بمثل الامانة والاخلاص .، فلا تناموا حتى لا يدخل عيونكم غمض الا وقلوبكم مفتوحة، فالوطن امانة عجزت الجبال عن حملها فحملها الانسان، فلم تتهاونون في ثرواته مع من لم يتهاون مع شعبكم حتى في أقامته عندهم يوم المحنة، اصحوا على زمانكم فوالله لن ينفعكم الا شعبكم فبه تتفاخرون وبه تحمون الوطن . والعاقبة لمن آوفى وصدق، ولا تكونوا في مذمة التاريخ، كما هم، الحاكمون، اليوم .

***

د.عبد الجبار العبيدي

في المثقف اليوم