آراء

الحدث العربي وضرورات الإصلاح السياسي.. العراق أنموذجا

محمد محفوظمن الطبيعي القول: أن الحدث العراقي بكل تطوراته وتحولاته، هو علامة فارقة في المشهد العالمي. حيث أن العالم على مختلف المستويات قبل الحدث، هو غيره بعد الحدث. كما أن تأثيراته تتجاوز الحقل السياسي والاستراتيجي والعسكري، وتصل إلى الحقول النفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمستقبلية. إذ ستبقى تأثيرات ومتواليات هذا الحدث – الزلزال مستمرة ومتواصلة لفترة زمنية طويلة.

 فعلى المستوى الدولي، بالامكان القول: أن الزلزال العراقي هو تدشين لمرحلة دولية وسياسية جديدة، حيث الهيمنة الأمريكية وبناء نظام دولي جديد، يتراجع فيه دور القوى الدولية الأخرى ومنظمة الأم المتحدة، لصالح سيطرة أمريكية متعاظمة وشبه مطلقة على مجريات المشهد الدولي.

وعلى المستوى الإقليمي، يعتبر الزلزال العراقي ومعطياته السياسية والإستراتيجية، أنه بداية مرحلة جديدة ستشهدها المنطقة. حيث ستتجه الولايات المتحدة الأمريكية بكل قوتها وعنفوانها وزخم انتصارها الكاسح والسريع على نظام صدام حسين إلى إعادة رسم خريطة وأوضاع المنطقة على الصعد كافة، بما ينسجم والمشروع الاستراتيجي الأمريكي.

 ولا نبالغ حين القول: أن المنطقة بأسرها ستكون رهينة لفترة زمنية طويلة لتأثيرات الزلزال العراقي على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والاستراتيجية. وإن الولايات المتحدة الأمريكية، ستسعى للاستفادة القصوى من الحدث العراقي في اتجاهين أساسين:

.   تثبيت أوضاع سياسية وإستراتيجية جديدة في المنطقة تتناغم والرؤية الاستراتي    جية الأمريكية لموقع هذه المنطقة في الخريطة – الدولية. وستعمل من أجل هذا التثبيت على إطلاق حملات ضغط سياسية واقتصادية ودبلوماسية على بعض الدول والكيانات السياسية التي تعتبر وفق المنظور الاستراتيجي والأمني الأمريكي، أنها دول وكيانات سياسية معادية وخطيرة.

.   إنهاء وتصفية القضية الفلسطينية وفق مراكز القوى السياسية والاستراتيجية الحالية، وإطلاق يد الكيان الصهيوني لإنجاز تسوية مع السلطة الفلسطينية تنسجم والمنظور الصهيوني لعملية التسوية في المنطقة.

وبالتالي تتطلع الولايات المتحدة الأمريكية إلى إحكام سيطرتها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية على المنطقة من خلال محورين وهما:

1- قوتهما العسكرية والسياسية والاقتصادية وسيطرتها المباشرة على العراق،

- والكيان الصهيوني الذي يعد وفق المنظور والرؤية الاستراتيجية، أنه المستفيد الأكبر من الهيمنة الأمريكية على العرا ق والمنطقة.

وهذا بطبيعة الحال، لا يعني أن الإرادة الأمريكية قدرا مقدرا، ولا يمكن مواجهتها. وإنما نحن نعتقد اعتقادا جازما بإمكان المجال العربي من مواجهة المخطط والإرادة الأمريكية. ولكن هذا لا يتأتى بالشعارات المجردة أو التصريحات السياسية والإعلامية التي لا تستند إلى حقائق ووقائع إستراتيجية وسياسية واقتصادية، وإنما عبر إرادة سياسية جادة تتجه صوب الأمور التالية:

1. الإصلاح السياسي وتفكيك بنية الأنظمة السياسية الشمولية، والتي أوصلت مجالنا العربي بخياراتها الداخلية والخارجية إلى أفق مسدود، وفشلت فشلا ذريعا في إنجاز تطلعات الأمة وطموحاتها في الحرية والتقدم.

فلا يمكننا أن نواجه المخططات الأمريكية وطبيعة التحولات والتطورات الذي أطلقها الزلزال العراقي، إلا بمشروع إصلاح سياسي وطني، يتجه نحو نبذ كل أشكال الاستفراد بالرأي والاستئثار بالقرار، ويفتح المجال القانوني والسياسي لكل قوى المجتمع وتعبيراته للمشاركة الفعلية والنوعية في الشؤون السياسية والعامة وتوسيع مجالات المشاركة الشعبية، والالتزام بمقتضيات ومتطلبات الديمقراطية في إدارة الحياة العامة بكل مستوياتها وآفاقها.

فالإصلاح السياسي بكل متطلباته وآفاقه، هو الذي يوفر لنا إمكانية مواجهة المخططات الاستعمارية، وهو الذي يخرجنا من أوضاعنا الراهنة التي تزداد ترديا وتدهورا. فالإصلاح السياسي الحقيقي في البلدان العربية والإسلامية، هو الذي يوقف الانحدار والتدهور، ويعيد بناء الثقة بين المواطنين ومؤسسة السلطة والدولة.

وبدون ذلك سيبقى المجال العربي بأسره، خاضعا وتابعا للأجنبي في كل شؤونه، وسترغمه هذه القوى وفق أجندتها الخاصة إلى إحداث إصلاحات وتغييرات منسجمة والمنظور الاستراتيجي الأمريكي.

إن طبيعة الظروف والمتغيرات المتلاحقة، تجعلنا نعتقد أن الهامش الذي يسمح للأنظمة السياسية بتأجيل مشروع الإصلاحات السياسية بدأ بالضيق والتلاشي. لذلك فإننا نرى فالإصلاح السياسي ضرورة قصوى للمجتمع بكل قواه وتعبيراته للخروج من نفق التلاشي والضياع، كما هو ضرورة للدولة لإنهاء أزماتها البنيوية المتلاحقة، وإعادة رسم العلاقة بين السلطة والمجتمع على أسس جديدة من العدالة والحرية. وهي التي توفر لكيان الدولة إمكانية فعلية لتجاوز مآزق الراهن ومواجهة تحديات المرحلة السياسية والاقتصادية والاستراتيجية. فهذه اللحظة كما يبدو، هي فرصة الأنظمة السياسية الأخيرة، لإجراء إصلاحات سياسية حقيقية وإنهاء حالة الاحتقانات والفشل والتقهقر في مختلف المجالات.

2. تبني الخيار الديمقراطي في كل شؤوننا وقضايانا الإدارية والسياسية والمجتمعية. إذ أن الديمقراطية بما تشكل من آليات وإجراءات ومتطلبات هي طوق نجاتنا، ووسيلتنا لإنهاء أزماتنا ومشاكلنا المستفحلة. وإن أي تأجيل أو تسويف تحت أي مسوغ أو مبرر، فإنه سيقود الراهن العربي إلى مهاوي ومنحدرات خطيرة قد لا نتصور مداها وتأثيراتها الشاملة.

إن المجال العربي هو أحوج ما يكون اليوم، إلى انتهاج النهج الديمقراطي والالتزام بمشروع التعددية السياسية والثقافية. وإن هذا يتطلب شجاعة سياسية متميزة، وذلك لأن المرحلة بكل مستوياتها تتطلب قرارات استثنائية وحضارية تنهي واقع الانحدار السياسي والاقتصادي، وتوقف مستوى التدهور الاجتماعي والأخلاقي والثقافي، وتنطلق في مشروع البناء والعمران، على أسس الوفاق الوطني والمصالحة التاريخية بين الدولة والمجتمع.

فلا نجانب الحقيقة حين القول: أنه لا وحدة وطنية صلبة في كل البلدان العربية بدون الديمقراطية والحريات السياسية. كما أنه لا استقرار مجتمعي حقيقي بدون مشاركة قوى المجتمع في إدارة شؤون الوطن والدولة ..

 فالديمقراطية هي خشبة خلاصنا جميعا، وينبغي أن تتوفر الإرادة السياسية التي تتجه صوب توفير كل مستلزمات التحو ل الديمقراطي.. فالحاجة جد ماسة ومن جميع الجهات، لإعادة النظر على نحو جذري في النظام السياسي السائد القائم على الاستبداد والاستفراد بالرأي والاستئثار بالقرار وغياب كل مستويات المشارك ة وحكم القانون. لأن هذا النظام بتأثيراته ومتوالياته وخياراته، هو المسؤول الأول عن أوضاع الأمة وما وصل إليه المجال العربي من تراجع وتدهور على مختلف الصعد والمستويات.

وبدون إعادة النظر في طبيعة وبنية هذه الأنظمة والخيارات، لن يتمكن مجالنا العربي من الانعتاق من أزماته ومشكلاته.

فبدون دمقرطة الواقع السياسي العربي بكل مؤسساته وهياكله، لن نتمكن من مواجهة تحديات وتطورات المرحلة واللحظة التاريخية. فالديمقراطية هي رهاننا وخيارنا، لإعادة تأسيس حياتنا السياسية والعامة. صحيح أن التحول نحو الديمقراطية تكتنفه العديد من الصعوبات والمخاطر، ولكننا على المستوى الواقعي لا نمتلك إلا هذا الخيار، إذا أردنا الأمن والاستقرار. كما أن بقاء الأوضاع على حالها، سيكلفنا جميعا خسائر فادحة وصعوبات ومشاكل جمة. ف "التحول نحو الديمقراطية هو المطلب السياسي التاريخي اليوم . وعندما نقول التاريخي فذلك يعني المسجل في قائمة التحول التاريخي الإجباري. فهو الهدف الذي يشكل تحقيقه من خلاله إلى تحقيق الأهداف الأخرى، بينما يعني فشله الغوص أكثر في الأزمة والتخبط الشامل. فلا مهرب إذن من التصدي للصعوبات التي تقف حائلا أمام إنجازه لدرجة يمكن التنبؤ فيها دون خوف بأن النظم السياسية أو الدول التي تفشل في تحقيق هذه المهمة في الوقت المناسب، سوف يكون مصيرها الهلاك، وسوف تجد نفسها مضطرة، عاجلا أم آجلا، إلى التخلي عن مكانها، ووجودها، وشعوبها، لصالح الدول والنظم التي تظهر مقدرة أكبر على تنظيم الجهد الإنساني وتثميره. والديمقراطية اليوم، بصرف النظر عن الصيغ الخاصة والمرحلية التي يمكن أن تأخذها، شرط أول لهذا التوظيف العقلاني للجهد والعصبية الوطنية، أي لتبرير وجود المجتمع نفسه كمجتمع سياسي مستقل ومتميز" .. (راجع – حول الخيار الديمقراطي – دراسات نقدية- ص 109- 110 – مركز دراسات الوحدة العربية)..

فالعلاقة عميقة وصميمية بين التنمية والديمقراطية، والتقدم والمشاركة الشعبية، والاستقرار وحقوق الإنسان. لذلك فإننا كمجال عربي، لن نتمكن من بناء قوتنا ومواجهة تحديات راهننا، إلا بإصلاح أوضاعنا السياسية، والتزامنا بالخيار والنهج الديمقراطي في مختلف شؤوننا وأحوالنا.

وإن الأزمة الكبرى التي خلقها الاحتلال الأمريكي للعراق، لا يمكن مواجهتها على المستويين العربي والإسلامي، إلا بإنهاء نظام الاستئثار والاستفراد ال سياسي، وتطوير نمط العلاقة والمشاركة للمجتمع والشعب في شؤون الحياة المختلفة.

وإننا لا بد أن ندرك أن الأزمة العراقية بكل مراحلها وفصولها، هي نتاج طبيعي ووليد شرعي لنظام السلطة المطلقة والديكتاتورية، التي ألغت المجتمع بقواه وتعبيراته المتعددة من حساباتها، ومارست كل صنوف القمع والقتل بحقه.

 لذلك فإن الدرس العميق والهام الذي نستفيد من الحدث العراقي، هو أن الأمن لا يبنى بالقمع والقهر، وأن الاستقرار السياسي لا يتحقق بالاستبداد والاستفراد بالقرار، وإن القوة والعزة الوطنية لا تنجز بفتح السجون والمعتقلات للأحرار والمناضلين..

وحدها الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان وتوسيع المشاركة الشعبية، هي القادرة على حفظ الأمن وبناء الاستقرار والعزة الوطنية على أسس متينة وحقيقية.

وإن أوضاعنا جميعا إما تتجه صوب التحول الديمقراطي بكل ما يكتنفه من صعوبات ومناورات ومناوشا، أو يتجه إلى الخلافات السياسية والمجتمعية المفتوحة على كل الاحتمالات والمخاطر. لذلك كله فإن خياراتنا محدودة، وإذا أردنا الأمن والاستقرار، فعلينا تبني الخيار الديمقراطي ودمقرطة الحياة السياسية العربية.

وإن التأخير في خيار التحول الديمقراطي أو التراجع عنه، فإنه سيدخل المنطقة برمتها في مرحلة سياسية عصيبة ومفتوحة على كل الاحتمالات.

ولنتذكر جميعا أن الإصلاح المتأخر الذي قاده (غورباتشوف) في الاتحاد السوفيتي، لم يؤد إلى الأمن والاستقرار وحفظ النظام، وإنما أدى إلى الفوضى وتشظي الاتحاد السوفياتي إلى دويلا توجمهوريات متحاربة ومتصارعة .

فاللحظة الراهنة التي يعيشها المجال العربي، هي اللحظة الأخيرة للإصلاح والتحول الديمقراطي. وإن أي تسويف أو تراخي فإنه سيقود الأوضاع العربية إلى مستقبل مجهول وخطير. لذلك نكرر أن الديمقراطية بكل متطلباتها وخياراتها وقوانينها، هي خشية خلاصتنا جميعا , وإن هذه الفرصة , هي فرصتنا الأخيرة للإصلاح السياسي ..

3. تأسيس العلاقات الداخلية ونظام الحقوق والواجبات على أساس مبدأ المواطنة، وتجاوز كل الدوائر والعناوين والاعتبارات التي تحول دون تثبيت مبدأ المواطنة في المحيط الاجتماعي.

وذلك لأن إدارة الدولة، على أساس جهوي (مناطقي) أو قبلي أو طائفي، لم يؤد إلا إلى المزيد من تشظي المجتمع وتفتته، كما أنه حوّل مؤسسة الدولة إلى عامل تقسيم وتفريق حاد في المجتمع. حيث أنها تحتضن بنية تقسيمه، إما حديثه على قاعدة حزب الحكم والسلطة، حيث يحظى أبناء وكوادر حزب السلطة بكل الامتيازات، فهم الذين يشغلون المناصب العليا للدولة، وبيدهم إمكانات ومقدرات وثروات البلد. يعطون من يشاءون، ويمنعون عمن يشاءون.

أو تقليدية حيث أن بنية الدولة في العديد من المجتمعات العربية قائمة إما على أساس مناطقي أو قبلي أو طائفي.

فكل من ينتمي إلى دائرة الدولة حظي بكل شيء (المناصب والثروات والامتيازات)، وكل من هو خارج دائرة انتماء الدولة من المواطنين، عانى الأمرين، ومورس بحقه كل صنوف الإقصاء والتمييز. والمحصلة النهائية لذلك، أن مؤسسة الدولة بدل أن تكون مؤسسة جامعة وحاضنة لجميع المواطنين، أصبحت مؤسسة طاردة وقاطعة ومنتهكة حقوق بعض المواطنين على أسس طائفية أو قبلية أو حزبية أو جهوية. مما عمق الفروقات المجتمعية، ومزق الوحدة الوطنية. لذلك فإننا لا يمكن أن نواجه تحديات المرحلة ومتطلباتها، إلا بإعادة تنظيم العلاقات الداخلية بين مجموع المواطنين. بحيث تكون العلاقة مستندة وقائمة على مبدأ المواطنة. فكل مواطن بصرف النظر عن منبته وجذوره، له ذات الحقوق التي للمواطن الآخر، كما عليه ذات الواجبات .

وبالتالي فإن المطلوب هو: أن تتحول بنية الدولة في الفضاء العربي إلى بنية مدنية، بحيث تكون علاقة هذه الدولة بمواطنيها علاقة مباشرة وبدون وسيط قبلي أو جهوي أو طائفي. فالجميع على حد سواء بالنسبة إلى مؤسسة الدولة في جميع الأبعاد والمستويات. [يفسح للجميع المجال للتنافس والمشاركة والبناء] والمواطنة هي حجر الأساس للوحدة الوطنية، وذلك لأن "المواطنية هي التمتع بالحرية السياسية، أي بحق المشاركة من مستوى الندية، والمساواة في تقرير مصير الجماعة الإنسانية.

 ولا وجود لحرية سياسية دون وجود علاقة وطنية، أي أمة، واندماجا سياسيا  ممارسة سياسية عملية، في الجماعة. إن النزوع إلى الحرية، وإلى بناء الأمة كإطار للاندماج والمشاركة الجماعية في مستوى الندية، وتحمل المسؤولية الجماعية، هو أحد محركات وحوافز التغيير الرئيسية اليوم في منظومات قيم المجتمعات العربية" (راجع المصدر السابق– ص 120)..

فتأسيس العلاقات ونظام الحقوق والواجبات في الدائرة الوطنية على أساس مبدأ المواطنة، هو المدخل الضروري والجوهري لتعزيز الوحدة الوطنية، وطرد كل موجبات الانقسام والتشظي.

وتكوين الإجماع الوطني، لاينجز بسياسات التمييز والإقصاء، وإنما بمحورية المواطن والمواطنة، التي ينبغي أن تتوجه كل الجهود والطاقات لتعميقها وتكريسها في الواقع الاجتماعي وعليه فإننا لايمكن أن نتجاوز أوضاعنا السياسية الراهنة . والتحديات الكبرى التي تطلقها المتغيرات السياسية الإقليمية والدولية إلا بإصلاح أوضاعنا السياسية وتبني الديمقراطية في كل شؤوننا، وخلق الشروط الملائمة لغرس مبدأ المواطنة كقاعدة قانونية وسياسية، بحيث تصبح هي معيار الحقوق والواجبات. وبالتالي فإن مستقبلنا ووجودنا التاريخي، مرهون ومرتبط بقدرتنا على غرس قيم الحرية والديمقراطية، والانتقال الفعلي من النمط الآحادي والاستبداد في الحكم، إلى النمط الديمقراطي الذي ف واقعنا ومحيطنا.

***

أ. محمد محفوظ

 

في المثقف اليوم