آراء

أجندة مكاسب كل من الجزائر وفرنسا من إعادة العلاقات إلى أعلى وتيرة لأول مرة

عبد الباقي قربوعةالملاحظ - قديما - للسياسة الفرنسية وتعاليها عن التعاطي السياسي مع الجزائر، يشعر أن هناك حربا على الأبواب، خصوصا ما تعكسه بهجة أولئك الذين وضعوا - مخيّرين غير مجبرين - أنفسهم في موقف عدائي مع الشعب الجزائري، مع أنه لا يفصل بين الشعبين سوى رغيف خبز مُتقاسم بينهما بعيدا عن أطماع السياسيين.

في ظل المصالح واحتمالات زوال الثروات هنا وهناك، لا أحد يملك قدرة التكهن كيف يمكن أن تكون عليه حال العلاقات السياسية غدا، الشعوب تجري وراء رؤسائها كما الأطفال لا يريدون إلا الحلوى من الدكان المجاور، لأنه الأضمن ربحا للوقت والمسافة وتوفر ما يتطلع إليه المحتاج، فرنسا وحدها من تستطيع أن تقدر عمر غبائها، وتملك أيضا كيف تقدر تاريخ قيام الجزائر على أرجل ثرواتها، وهاهي العجوز الشمطاء المعمّرة في الشارع السياسي العتيق تأتي إلى الأرض الجزائرية، تأتي لتجمع خشاش الحطب من الشجرة التي أحرقتها البارحة، حينما كانت جذور الجبال تضحك عليها، فلم تكن تدري كيف يخبئ الله رزقه للعالمين.

الزيارة الفرنسية الأخيرة بجميع معطياتها كالإقامة المطولة مثلا، وبرنامج زياراته لبعض الأماكن الجزائرية منها ما هو مقّدس (مسلم/مسيحي)، ومنها ما يتضمن ذكريات بشقيها اللّذيذ والمؤلم، وكذا نوعية الاجتماعات التي عقدها الطرفان (أمنية/ اقتصادية)، ولم يحضر الشق الثقافي إلا من خلال زيارات فضفاضة قام بها إلى محل (ديسكو المغرب)، خرج منه مبثوثٌ شعرُ رأسه غير محكمة ملابسه وكأنه كان يرقص، العجيب أن صاحب المحل كان يضع راحة يده على ظهر الرئيس يدفعه ليأخذ معه صورة عمومية، كل ذلك تَلْهية لأولئك وهؤلاء ومَن بينهما من صناع الوشاية، لكن اللعبة يتقنها كثيرا ماكرون وبها تمكن من الفوز في الانتخابات، في حين كان منافسوه يدفعون أموالا باهظة لتغطية ندوات في صالات رفيعة المستوى.

الشيفرة الأكثر غموضا وعمقا أن زيارة ماكرون يبدو أنها مُدبّرة من قبل أحفاد الكثير من الشخصيات الأوروبية، أولئك الذين قضوا نحبهم جنبا إلى جنب مع السكان الجزائريين بوهران، بسبب الحروب الإسبانية ووباء الطاعون، وأيضا بسبب القمع الدامي الذي كان سببا في اكتظاظ المشكوك في أوروبيتهم من الوافدين إلى وهران، إنه تاريخ مأساوي وهو عمق ما تتضمنه زيارة ماكرون إلى الجزائر، التأثّر الذي دفعه إلى التوعد بفتح الأرشيف، وإتاحة المجال أمام المؤرخين للخوض في هذا السجال التاريخي الحسّاس، وهذا من أهم أهداف الجزائر من الترتيب لهذه الزيارة، حيث جميع النوايا واردة ومباحة ليأخذ كل طرف حذوه ونصيبه مما يترتب عن مخلّفات السياسية ماضيا وحاضرا ومستقبلا.

وجهة ماكرون إلى وهران تعبّر عن انحراف الرؤية لدى السياسة الفرنسية قديما، حيث كانت زيارة الرئيس الراحل جيسكار ديستان التي خصّ بها قسنطينة تعني عدم اكتراث السياسة الفرنسية بالتاريخ المشترك، على أن قسنطينة ترمز إلى اليهود والأوروبيين الأكثر رفاهية وأمنا وهدوء، مما جعلهم يبرزون في مجالات فنّية كثيرة، خصوصا الطرب الأندلسي الذي لا صلة بالطابع الفني الفرنسي، المؤشر الذي لمّح إليه ماكرون بزيارة منتج غناء الرّاي المرتبط ارتباطا وثيقا بواقع قاعات اللهو لدى المواطن الفرنسي، سيان كان بلهجة عربية أو بلغة فرنسية، فكلامهما دلالة على تزاوج فنّي حصل في مرحلة تاريخية معينة ولا يزال مستمرا إلى الآن، كما أنه يعكس الصورة الماجنة لمجمعين متقاربين من حيث جيولوجيا التواجد، في حين كانت المنظومة الفنية التي كان اليهود يتظللون تحتها في فترة ما أكثر أريحية في الشرق، مقابل ما كانت تعانيه منطقة الغرب من محن سياسية واجتماعية، تراكمات جعلت كلا من المواطنين الأصليين والأوروبيين واليهود النازحين من فرنسا وما جاورها في واجهة الأحداث، حالة تطرح مفارقة عجيبة بين طابع غناء الرّاي، الذي يغلب عليه رفع الصوت والمناداة والإيقاع الصاخب، بكلماته التي تباشر الجسد خطابا وممارسة، مما يدل على أن هناك آلة حديدية كانت كابسة على أرواح سكان المنطقة، مقارنة بهدوء الطرب الأندلسي الهادئ، الضارب في قلب الصوفية والرومانسية، بكلماته التي تُنقّب عن الجنس بصوت أكثر همسا من الرّاي، مما يدل أن زيارة ماكرون لوهران كانت أكثر شجاعة وحساسية وخطورة، مقارنة بزيارة جيسكار ديستان لمدينة قسنطينة بسبب رفاهية النازحين إليها من اليهود وغيرهم من أحفاد الأوروبيين غير المحاربين، المستوطنون الأكثر احتكاكا بالفنون والتجارة والرحلات الخفية الهادئة.  

لا علينا فجميع الألعاب مباحة أمام السياسي الذي لا يدري أيعتلي كرسي الحكم، أم تنتهي به الحال مستمعا بألعاب لم تكن لتتأتى له لو لم يترشح، المهم تظل السياسة من منظور الذين لا يهمهم ما سوف يدونه عنهم أو عليهم التاريخ، اللعبة الأكثر إدرارا للمال والأعمال والنفوذ. لكن مما أخفته لعبة الغمّيضة في زيارة ماكرون لوهران أنه تفقّد الميناء الذي يُطل على شرفة قصر الإليزيه ليقارن بين نافذتين، نافذة تعبق منها رائحة النفط والغاز الطبيعي، ونافذة للجارة المحاذية التي كثيرا ما ترفع من مستوى صوت (ديسكو المغرب) لتثير الرقص والسحر ومكائد عظيمة، حيث صاحب المحل اكتفى كأي بسيط في العالم الفني والتجاري، بأن هذا الحدث فقط لأن مبيعاته أكثر رواجا في فرنسا مقارنة بديسكوهات أخرى.

صراحة كانت الجزائر بحاجة ماسة لهذه الشيفرة التي تضمنتها الزيارة، وأكيد نجمت عن دعابة أثارتها يافطة الأستوديو وما تحمله من دلالات، خصوصا في ظل التوترات الساخنة بين الجزائر والمغرب، فكأن الوفد الجزائري المرافق يقول لفرنسا: هاهي المغرب موجودة في الساحة التجارية والفنّية الجزائرية دون مضايقة، وأن المنطقة في منأى مما تثيره الجارة الشقيقة من صداع. إنها نكزة سياسية تضاهي نكزة اقتراح السياسة الجزائرية على ماكرون زيارة المسجد الأعظم، في إشارة إلى أن الاحتلال الفرنسي زاد الجزائر حرصا على إبراز هوية الشعب الجزائري، كل ذلك من مخزون موروث الدهاء السياسي الذي تركه الرئيس الراحل هواري بومدين في روح لحمة الجيش الوطني الشعبي.

أمّا أهم ردة فعل تثيرها هذه المؤشرات، فقد تتمثل في احتمال تحرّك السفير الأمريكي لدى المغرب بإيعاز من السفير الإسرائيلي صاحب التأثير الكبير على سياسة المخزن، دفعا بـ ماكرون إلى القيام بزيارة مماثلة للمغرب وكأنه يَعدِل بين ضرّتين، وقد يصرّح هناك خارج موضوع زيارته للجزائر من باب الذكاء طبعا، كأن يقول بأنه أراد تهدئة التوتر الناجم عن القضية الصحراوية، لأن الدول التي تعتبر نفسها (عُظمى) لا تعترف بأنها كانت تتسول أمام دول أخرى أكثر فقرا وعوزا، فهي تدرك أن الجزائر تعرف متى تشكم أنبوب الغاز الطبيعي بين فكّي السياسة الفرنسية حتى يدرك الآخر أنه كان يتحدث مع رجال، خصوصا أمام التحضيرات لاجتماع أعضاء الجامعة العربية بالجزائر، حيث ليس للمخزن ما يشكمه سوى حراسة مقابر جاليات من جنسيات متعدّدة أبرزها اليهود، وليس هناك ما يمكن تحضيره في مطبخ البلاط سوى وجبة (كرعين بالحمص) للجنّية إسرائيل التي لا تأثير لديها إلا بالسحر والفضائح، وهكذا ملكت نواصي كثير من الزعامات العربية وغير العربية، مما يجعل المملكة المغربية النموذج الأكثر بروزا في ساحة فنون التطبيع مع الكيان الصهيوني، الظاهرة التي جعلت المغرب لا يفكر في الجنوح إلى السلم، وإثراء الهدوء في المنطقة اعترافا بسيادة دولة الصحراء الغربية.

وبسبب وقوف الجزائر مع قيام الدولة الفلسطينية وحق تقرير مصيرها، كان على إسرائيل أن تخلق ما يبتز إرادة الجزائر في الدفاع عن الحريات في المنطقة،  وها هي إسرائيل تدفع - وهما - بالسياسة المغربية إلى الإصرار على ضم الصحراء الغربية إلى الأراضي المغربية، والكيان الصهيوني يُدرك بأنه يطبق مثلا شعبيا شائعا في الجزائر (اطْلقنيني يا هذه الحيّة أطْلِقُك). يعني بلاهة موقف الدولة المغربية بين احتكاك قضيتين أساسيتين وجوهريتين من بين أهم القضايا في العالم، مما يجعل زيارة ماكرون إلى الجزائر حالة أكثر من وصفها بالهامة، ففيها تكمن مخاوف كثيرة من طرف كل من إسرائيل ودولة المغرب وسائر المطبعين، ليس على مستوى توتر العلاقة بين الجزائر والمغرب بخصوص الصحراء الغربية، بل أيضا على مستوى ما يترب حاليا في سياسة الدولة المغاربية ودول شمال أفريقيا ككل، ولما للجزائر من تأثيرات على الساحة بفضل قوة موارد اقتصادها وتجربتها الأمنية العريقة والعميقة والدقيقة.

لذا يعتبر كثيرٌ من المحلّلين أن ما تثيره المملكة من مشاكل على الحدود الصحراوية، عطل المنطقة عن نشاط اقتصادي مثير يمكن أن تستفيد منه أوروبا وفرنسا على وجه أخص، وهذا عمق تخوف الكيان الصهيوني لأن الصحراء الغربية موالية مولاة أكثر مما يمكن وصفها بالأخوة مع الجزائر، حيث أن المصالح من منظور المنطق الاقتصادي المعاصر لا تتحقق إلّا بضغوط اقتصادية قوية، يعني التواجد في سوق المال والأعمال بما هو مؤثر على شعوب العالم وعلى الحياة العامة، وأكيد السياسة الفرنسية تعرف جيدا فارق الثقل الاقتصادي بين الجزائر والمغرب، وتملك خبرة السنين في النظر إلى الخيارات التي تضمن لها البقاء في دواليب قرارات مجلس الأمن الدولية، وتدرك كذلك كيف تختار حليفا مكافئا لنفوذها وقوة جيوشها. 

***

 عبد الباقي قربوعة

 

في المثقف اليوم