آراء

الحائريّ.. يعلن الذَّوبان العِراقيّ الثَّاني في الولاية الإيرانيَّة

أعلن آية الله محمد كاظم الحائري استقالته، أو اعتزاله، مِن المرجعية، وذلك عشية المعركة التي حصلت بالمنطقة الخضراء، التي راح ضحيتها عشرات الشباب. علل الحائري اعتزاله هذا، وفي ذلك اليوم، بالقول: لـ«تداعي صحتي وقواي البدنية»، ومعلوم أن الاستقالة أمرٌ مستحدث على المرجعيات الدينية بشكل عام، وهذا ليس بالمهم نقاشه، بقدر ملاحظة توقيت الاعتزال عشية المعركة الطاحنة التي حدثت بدار الحُكم، المنطقة الخضراء، ويومها رد مقتدى الصدر على قرار الاعتزال بأنه كان بتوجيه، والمقصود أنه كان قرار الخامنئي وليس الحائري.

فهل تفاقم المرض والعجز في بدن الحائري في تلك الليلة، فأعلن الاعتزال، بحيث لا يتقدم يوم ولا يؤخر؟ أم أن المواجهة الضروس بين التيار الصدري والإطار التنسيقي، المؤيد مِن قِبل إيران بشدة، على حساب التيار، جعلته في حل مِن الأخير، وخصوصاً أن الفقرة الأولى مِن بيان الاعتزال فيها الأمر (الشرعي) الملزم لمقلديه: «على جميع المؤمنين طاعة الولي قائد الثورة الإسلامية، سماحة آية الله العظمى السيد علي الخامنئي (دار ظله)، فإن سماحته هو الأجدر والاكفأ على قيادة الأمة، وإدارة الصراع مع قوى الظلم والاستكبار في هذه الظروف، التي تكالبت فيها قوى الكفر ضد الإسلام المحمدي الأصيل» (بيان الاعتزال/ الموقع الرسمي). أما الأمر الثاني فهو: «أوصي جميع المؤمنين بحشدنا المقدس، ولا بد مِن دعمه وتأييده كقوة مستقلة غير مدمجة في سائر القوى» (المصدر نفسه).

نقرأ في بيان الاعتزال انسحاب الحائري، مِن احتضان التيار الصدري مرجعياً ليكون مباشرة تحت ظل الخامنئي، فقد أخذ التيار ممثلاً ببيانات قائده مقتدى الصدر، الذي فاز بالأغلبية في انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2021، إعلان «لا شرقية ولا غربية»، ويعني لا أميركا ولا إيران - الشعار الذي طالما ردده الخميني، وكان المقصود الاتحاد السوفياتي وأميركا - ووضع حل الميليشيات في أولويات مطالبه مِن الحكومة الجديدة، وقد سمى الحائري تلك الميليشيات «الحشد المقدس»، لكي مَن يعترض على ممارساتها يكون مدنساً، بينما كان مقتدى سماها «الوقحة»!

يُذكرنا الحائري بإلزام مقلديه، وهم ما أشار إليهم بالمؤمنين، بالوقوف تحت ظل الولي الفقيه الخامنئي، بما حدث في أول الثورة الإيرانية، وإعلان أستاذه محمد باقر الصدر(أُعدم: 1980) لمقلديه، بل ولمن يُقلد مرجعية النجف، الذوبان في الخميني، وهو أشد مِن توجيه تقليدها لشأن فقهي، ومعلوم أنها مرجعية سياسية لا تقرها المرجعيات التقليدية المعروفة، هذا ما يُفهم، بشكل واضح، مِن منطوق الرسالة القاضية بطاعة مرشد الثورة الخميني، والذوبان فيها، بعد أن أصبح رئيساً لدولة أجنبية، وعلى هذا نحت حزب الدعوة تقرباً من الخميني الشعار الآتي: «ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام».

كان نص وصية باقر الصدر: «إن مرجعية السيد الخميني، التي جسدت آمال الإسلام في إيران اليوم، لا بد من الالتفاف حولها، والإخلاص لها، وحماية مصالحها، والذوبان في وجودها العظيم، بقدر ذوبانها في هدفها العظيم» (نُشر النص صورة بخطه في المراجع الآتية، وأولها أحد قادة حزب الدعوة: شبر، حزب الدعوة الإسلاميَة، والنعماني، سنوات المحنة وأيام الحصار، والعاملي، الصدر السيرة والمسيرة). نقل الصدر، بهذا الذوبان، المرجعية من النجف إلى إيران، ومن الولاية الفقهية الحُسبية إلى السياسية، ومن المرجعية الخاملة، على حد زعمهم، إلى المرجعية التي سماها الرشيدة والصالحة والقائدة، لأنها حققت بإيران الحلم السياسي، فالخميني لم يبق مرجع تقليد، إنما أصبح رئيس دولة، تقليده من قِبل الخارج فيه شك بالولاء الوطني.

ما نود الإشارة إليه هو أنه لم يكن محمد باقر الصدر ميالاً للعنف كتلميذه الحائري، وفتاوى القتل ليست من شأنه، وفي دعوته إلى الذوبان في الخمينية؛ قالها بحماسة اللحظة، من دون أن يعلم ماذا حصل خلال الأربعين عاماً من عمر الثورة، فلم يعش معاناة مرجع التقليد الكبير شريعتمداري (ت: 1985)، الذي اعتقل في داره من قبل سلطة الولي الفقيه، وحرم من العلاج بالخارج، ومنعت الصلاة عليه، وتم اعتقال تلميذه ووصيه آية الله رضا الصدر (ت: 1993) شقيق موسى الصدر، ولم يعرف له قبر، بعد أن أُخرج على شاشات التلفزيون يعلن توبته وخضوعه للخميني (انظر: رضا الصدر، في سجن ولاية الفقيه)، ولم يعلم بتأسيس محكمة لرجال الدين، ولا بالإعدامات الرهيبة التي كان يشرعها صادق خلخالي (ت: 2004)، صديق الخميني والمعين مِن قِبله، والاغتيالات، ومحنة نائب الخميني حسين منتظري (ت: 2009)، باعتقاله في داره حتى وفاته، وكذلك حصل مع آيات الله آخرين كمحمد طاهر الخاقاني (ت: 1985)، وبهذا يكون الخميني ضمنياً قد ألغى القانون الذي وضعه رئيس الوزراء محمد مصدق (ت: 1967) بعدم محاكمة آيات الله (العاملي، محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة)، وهذا القانون هو الذي أنقذ الخميني، بعد أن منحه شريعتمداري وآخرون من النجف كالخوئي (ت: 1992) درجة الاجتهاد (آية الله البرقعي، سوانح الأيام. العاملي، محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة. نهاوندي، الخميني في باريس. أمالي طالب الرفاعي)، بينما كاظم الحائري عاش كل هذه التفاصيل ومع ذلك في كل يوم يزداد تقديساً لولاية الفقيه.

وُلد الحائري الرشتي بكربلاء، ولم يكن بينه وبين شيخه باقر الصدر سوى فارق ثلاث سنوات في العمر، الصدر وُلد (1935) والحائري (1938)، لكن ذلك لا يمنع أن يكون أستاذه في الدرس الفقهي، ثم الاتجاه السياسي، ومع أن محمد كاظم الحائري دخل حزب الدعوة وأصبح ولي الفقيه فيه بإيران، ثم انشق أو الحزب انشق عنه، وظل حراكه باسم «الدعوة ولاية الفقيه»، لكنه بعد أن تصدى إلى المرجعية لم يذكر الحزب بشيء، وكذلك فعل قائد الحزب الآخر الإيراني أيضاً محمد رضا الآصفي (ت: 2015) عندما تصدى للمرجعية لم يذكر الحزب، لا في بياناته، ولا في سيرتهما المسجلة في موقعه الرسمي، وكأنهما يخجلان مِن هذه التجربة، بينما الحزب الموجود يضخمهما في إعلامه.

خلاف ما أعلن بعد (2003) بأن الحائري كان على صلة بمحمد محمد صادق الصدر (قُتل: 1999)، وأنه أوصى به مرجع تقليد بعده لأنصاره، وهذا ما سُجل في سيرة الحائري نفسه، في موقعه الرسمي، لكن المعلومات، التي ذكرت، ونُشرت سنة 2001 أي قبل سقوط النظام العراقي السابق بسنتين، تُشير إلى العداء الذي يكنه الحائري للصدر والد مقتدى الصدر، وأن الصدر عندما بعث قريبه جعفر بن محمد باقر الصدر إلى إيران، بعد التطبيع بين بغداد وطهران، نصحه ألا يدنس تاريخ والده بخدمة والد مقتدى، وحشد ضد فتح مكتبه بقوة، وبالفعل لم يُفتح، معتبره يعمل مع النظام العراقي، وأن مرجعيته غير شرعية (انظر: الزيدي المياحي، السفير الخامس استعراض لحياة ومرجعية الإمام الصدر، نشر 2001)، هذا ما كتبه مَن اعتمده الصدر مع قريبه جعفر لفتح المكتب المذكور (سماه السفير الخامس، فحسب التقليد الشيعي هناك أربعة سفراء أو رُسل للمهدي المنتظر، وبعد موت الأخير سنة 329هـ أعلنت ما عُرفت بالغيبة الكبرى المستمرة إلى يومنا هذا).

لذا فإن الحديث عن الحائري أنه مرجع التيار الصدري، وجناحه المسلح «جيش المهدي»، جاء بعد 2003، وبتوجيه إيراني على ما يبدو، يوم كان للإيرانيين يدٌ في تأسيس جيش المهدي، لكن خروج مقتدى عن ذلك التقليد جعل الحائري في حل مِن أن يكون ولياً للتيار الصدري.

رد مقتدى الصدر، في يوم واقعة الخضراء، التي راح ضحيتها العشرات مِن التيار الصدري(20/8/2022)، على اعتزال الحائري، أولاً لوصيته أن يوالي المؤمنون، حسب عبارته، مرجعية إيران السياسية المتمثلة بالخامنئي، لا مرجعية النجف، مع أن له داخل العراق، ومنها النجف، اثني عشر مكتباً.

قال مقتدى الصدر في بيانه الذي عقب بيان الحائري قائلاً: «ورغم استقالته فإن النجف الأشرف هي المقر الأكبر للمرجعية؛ كما هو الحال دوماً، وإنني لم أدعِ يوماً العصمة أو الاجتهاد ولا حتى القيادة»، ثم أردف قائلاً: «ورغم تصوري أن اعتزال المرجع لم يكن مِن محض إرادته، وما صدر مِن بيان عنه كذلك أيضاً» (بيان الصدر الموقع بابن الشهيدين الصدرين على حسابه في تويتر). فمِن الواضح أن مقتدى أشار إلى تبعية الحائري للخامنئي وتقليده له، وبالفعل أن الحائري كان مقلداً لولاية الفقيه المتمثلة بالخامنئي في العقيدة السياسية، وأنه في بيان اعتزاله قد ركن مرجعية النجف على الرف، ليجعل الخامنئي مرجع مَن كانوا يقلدونه، ومثلما تقدم كأنه حذا حذو أستاذه محمد باقر الصدر، لكن ذلك الزمن كان الصدر يترقب نجاح الثورة الإسلامية بالعراق بعد نجاحها بإيران، وبذلك تهدم الحدود لتشكل الدولة الإسلامية.

عُرف الحائري بالعنف في مواقفه وفتاواه، وله في ذلك عدة كتب، وكان أبرزها «دليل المجاهد» مكرساً فيه الاندفاع إلى قتال الجيش العراقي، وإسقاط النظام لقيام الجمهورية الإسلامية، ليس مِن شك بانحياز الحائري لوطنه الأم إيران هذا أولاً، وثانياً أنه لا يعترف، كإسلامي سياسي، بالحدود الوطنية، وكان متطرفاً أكثر مِن غيره في هذا المجال، وثالثاً تبين أنه لا يعترف بمرجعية النجف، وبأي مرجعية غير مرجعية ولاية الفقيه التي يمثلها الخامنئي.

مِن كتبه غير «دليل المجاهد»، في شأن العنف الثوري الديني: «الكفاح المسلح بالإسلام» و«أساس الحكومة الإسلامية»، وكلها مليئة بنصوص العنف والطائفية أيضاً، وله فتاوى منفردة في اعتبار البعثيين كافة كفاراً، وبالتالي الكافر يُقتل، وحرم انتخاب العلمانيين أو غير الإسلاميين (انتخابات 2010)، وعلقت هذه الفتوى ببغداد وبقية المدن، لصالح انتخاب نوري المالكي، والنتيجة أنهم كفار وبالتالي يقتلون، وما حدث من قتل المتظاهرين (2018 وما بعدها) لم يكن بمعزل عن فتاواه وتحريضات عمائم سياسية عديدة.

تحدث الحائري في بيان اعتزاله عن «الإسلام المحمدي الأصيل»، وهنا يُخرج مَن أصالة الإسلام مَن لم يقر بالوصية (الولاية المعروفة) كافة، ومعلوم أن المسلمين كافة، عدا الإماميين، لا يقرون بالوصية كولاية سياسية، ثم يخرج مِن الشيعة مَن لا يقر بولاية الفقيه وفق النموذج الإيراني، فنراه قد قلص الإسلام بحدود دائرته السياسية.

***

د. رشيد الخيّون

 

 

في المثقف اليوم