آراء

العرب الشيعة والدولة الوطنية

في زمن الصراعات السياسية والمماحكات الأيدلوجية والفكرية، تبرز مجموعة من المشاكل والأزمات، ذات الطابع الاجتماعي والسياسي، وتتلبس بلبوسات متنوعة، إلا أنها تشترك مع بعضها البعض، بوصفها مشكلة سواء للكل الاجتماعي أو للبعض الاجتماعي.

ولعل من أبرز هذه المشاكل التي تبرز في العالمين العربي والإسلامي، هي مشكلة العرب الشيعة.

ولعل بروز هذه المشكلة أو الإشكالية يعود للأسباب التالية:

1. بروز الدور الإيراني على مستوى الإقليم والعالم، وطبيعة العلاقة المذهبية التي تربط الشيعة العرب بإيران والعكس. وهل تمكنت الدولة الإيرانية بأيدلوجيتها المذهبية في تحويل العرب الشيعة إلى تابع أيدلوجي ومذهبي للدولة الإيرانية وطموحاتها السياسية والمذهبية؟

فلولا الحضور السياسي الكبير للدولة الإيرانية، وخياراتها الأيدلوجية والسياسية، لما برزت مشكلة العرب الشيعة في النظر إلى خياراتهم وطبيعة علاقتهم مع امتداداتهم المذهبية.

2. وجود قوى مذهبية وسياسية متباينة في رؤيتها وقناعاتها ومواقفها مع الشيعة كمذهب ورؤية دينية وخيارات مجتمعية وسياسية. ودائما في الصراعات ذات الطابع المذهبي والسياسي، تلجأ القوى إلى تنميط الرؤية إلى الطرف المقابل سواء كان منافسا أو غير منافس.

ولقد تمكنت هذه القوى والتعبيرات المذهبية والاجتماعية والسياسية من تنميط الواقع العربي الشيعي. فأضحى جميع العرب الشيعة في نظر هذه التعبيرات قوى تابعة وخاضعة للنفوذ والتأثير الإيراني.

وبالتالي فإن أي مشكلة مع إيران تنعكس مباشرة على العرب الشيعة سواء مع دولتهم أو شركاءهم في الوطن.

وساهمت بعض الدول العربية والإسلامية، بفعل خياراتها الأيدلوجية أو السياسية في خلق حالة من المماثلة بين إيران والعرب الشيعة.

وهذا بطبيعة الحال يساهم في تأزيم العلاقة بين العرب الشيعة ودولهم، وبين العرب الشيعة والمجتمع الوطني الذي ينتمون إليه.

ومع كل أزمة سياسية وأمنية كبرى، تتعرض إليها المنطقة، تبرز هذه المشكلة تحت عناوين ويافطات متعددة، إلا أنها في كل الأوقات تساهم في تأزيم واقع العرب الشيعة السياسي والاجتماعي والثقافي.

لذلك ثمة حاجة ملحة في كل الدول والمجتمعات العربية التي يتواجد فيها شيعة، لإثارة هذا الموضوع، والتأسيس لنقاش علمي ـ موضوعي، يعمل على معالجة هذا الموضوع في أبعاده المختلفة.

وانطلاقا من هذه الحاجة الملحة، نساهم في هذا النقاش الذي يأخذ أبعادا متعددة من خلال النقاط التالية:

1- على المستوى الواقعي كل الوجودات والمجتمعات العربية الشيعية، تتعامل مع أوطانها بوصفها أوطانا نهائية، ولا يوجد خيار بديل عن أوطانها. وإن التماثل المذهبي بينها وبين الدولة الإيرانية، لا يساوي أن لديها مشروعا وطنيا مختلفا عن حقائقها الوطنية القائمة.

ووجود مشاكل سياسية أو أمنية لدى العرب الشيعة في أوطانهم، لا يعني التضحية بالوطن من أجل يوتوبيا غير قابلة للتحقق.

بل ثمة قناعة عميقة لدى هذه المجتمعات، أن مشكلاتها تعالج على قاعدة وطنية مع دولهم ومجتمعهم الوطني.

ولقد عبرت هذه المجتمعات في الكثير من الأحداث والتطورات عن هذه الحقيقة، وإن كل خياراتهم السياسية والاجتماعية والثقافية، لا تتعالى على انتماءاتهم الوطنية.

ووجود مشروع سياسي أو مذهبي إيراني، يستهدف ربط العرب الشيعة بالدولة الإيرانية، لا يتحمل مسؤوليته المجتمعات العربية الشيعية. فالدول بطبعها نزاعة إلى بناء نفوذها الأمني والسياسي خارج حدودها الجغرافية، وإيران ليست بدعا من الدول، وإنما هي مثل كل دول العالم، ولا يتحمل مسؤوليته العرب الشيعة في كل دولهم ومجتمعاتهم.

فالعرب الشيعة جزء أصيل من أوطانهم ومجتمعاتهم، وامتلاكهم لخصوصيات مذهبية وثقافية، لا يسوغ لأي طرف إخراجهم من أوطانهم أو التعامل معهم بوصفهم هم أتباع لدولة أجنبية.

العرب الشيعة موجودون في أوطانهم قبل تأسيس الجمهورية الإيرانية، وسيستمرون في أوطانهم بصرف النظر عن مآل وطبيعة النظام السياسي في إيران. ووجود أطراف عربية شيعية على علاقة عضوية بإيران، لا يتحمل مسؤوليته كل العرب الشيعة في كل أوطانهم ومجتمعاتهم.

2. إننا نرى أن الطريق للخروج من هذه الإشكالية في كل الدول والمجتمعات، هو في وجود مشروع وطني متكامل يستهدف دمج العرب الشيعة في كل أوطانهم، واحترام خصوصياتهم المذهبية والثقافية، والتعامل معهم بوصفهم مواطنين لهم كل الحقوق وعليهم كل الواجبات.

إن غياب مشروع الاندماج الوطني، هو الذي يساهم في إبراز مشكلة العرب الشيعة.

فهؤلاء ليسوا عبئا على أوطانهم، وإن الرؤية الوطنية السليمة، هي التي تخرج من انحباساتها الطائفية، وتتعامل مع جميع المواطنين على حد سواء بصرف النظر عن أديان ومذاهب وقوميات هؤلاء المواطنين.

وهنا نرى أن كل الدول العربية، تتحمل مسؤولية تجاه أقلياتها المذهبية. وإن هذه المسؤولية تتجلى في بلورة وصياغة مشروع وطني لإدماج العرب الشيعة في أوطانهم، بعيدا عن نزعات الاستئصال والنبذ. وغالبية النخب الدينية والاجتماعية لدى العرب الشيعة، ترى في أوطانها العربية هي أوطان نهائية، ولا يمكن مقايضتها بأي شيء آخر.

3. المجتمعات العربية الشيعية كغيرها من المجتمعات الإنسانية، تمتلئ بآراء وميولات وتوجهات عديدة، وتحتضن تيارات سياسية وفكرية ومتنوعة، ولعل من الأخطاء الفادحة، التعامل مع هذه المجتمعات وكأنها رأي أو حزب واحد.

فكل التعدديات الفكرية والسياسية موجودة في المجتمعات العربية الشيعية، وفي تقديرنا مهما كان حجم المعدة الإيرانية، فإنها غير قادرة على هضم وأكل المجتمعات العربية الشيعية.

وإن هذه المجتمعات تمتلك من التنوع الأفقي والعمودي، ما يحول دون استيعابها بالكامل من قبل طرف واحد مهما أوتي من قوة وقدرة.

وهنا ندعو كل المجتمعات العربية إلى الانفتاح العميق على العرب الشيعة، ونسج العلاقات الإيجابية معهم، كما ندعو النخب الدينية والفكرية والسياسية للعرب الشيعة للإنفتاح على الأكثريات الإسلامية- السنية. لأنه لا خيار للجميع إلا بالتواصل والتعايش مع بعضهم البعض. وإن الانتماء المذهبي للمواطنين، لا يشرع أو يبرر عملية تفويض الأوطان من الداخل. فكل المجتمعات الإنسانية متعددة ومتنوعة، وإن هذا التعدد والتنوع لم يمنع هذه المجتمعات من بناء واقعها الوطني والاجتماعي.

لذلك فإن العرب الشيعة، ليسوا كتلة بشرية منفصلة عن محيطها العربي، بل هم جزء أساسي منه. ووجود مشكلات وتوترات وأزمات، يحمل الجميع مسؤولية العمل المتواصل لإنهاء هذه الأزمات دون الإضرار بمتطلبات الاستقرار السياسي والاجتماعي.

وإن الدولة الوطنية تتحمل مسؤولية العمل الدائم لخلق حالة من التجانس الناعم والقانوني بين مختلف المكونات والتعبيرات.

فالمذهب ليس بديلا عن الوطن، والوطن لا يعيش حيويته وفعاليته، إلا بعلاقة عميقة وفعالة بين جميع أطرافه وأطيافه.

وإن منع إيران من التأثير السياسي والأمني على العرب الشيعة، لا يمكن أن يتأتى إلا بدمج العرب الشيعة في كل أوطانهم ومجتمعاتهم.

وإن التعامل مع العرب الشيعة وكأنهم كتلة متجانسة في كل شيء، هو من الأخطاء الفادحة، التي تديم التوترات المذهبية والطائفية في المنطقة.

فالعرب الشيعة يعتزون بأوطانهم وعروبتهم، وشواهد التاريخ الحديث والمعاصر شاهدة على ما نقول. وإن الدول الوطنية اليوم، معنية قبل غيرها إلى تأسيس مبادرات متكاملة للإعلاء الدائم من قيم المواطنة والوحدة المبنية على احترام التعدد وصيانة التنوع بكل مستوياته وآفاقه.

وإن التجربة السياسية والثقافية للعرب الشيعة، تؤكد التزامهم التام بكل مقتضيات الانتماء الوطني، ولم يسجل هؤلاء تجربة التضحية بمصالح أوطانهم، لصالح أطراف سياسية مماثلة لإنتماءهم المذهبي. فإيران دولة إقليمية كبرى، ترعى مصالح مواطنيها، وإن العرب الشيعة ينتمون إلى دول وأوطان أخرى مختلفة، وإن ارتباطهم بأوطانهم ومصالحها هو حجر الأساس في كل مشروعاتهم وتطلعاتهم السياسية والاجتماعية والثقافية.

وإن المنطقة العربية اليوم، معنية بمعالجة ملف التنوع المذهبي الموجود فيها. ونحسب أن الخطوة الأولى في مشروع معالجة هذا الملف، تتجسد في بناء مواطنة متساوية في الحقوق والوجبات، وتجنيب العرب الشيعة أي تأثيرات سلبية للصراع أو التنافس مع إيران.

***

أ. محمد محفوظ

في المثقف اليوم