آراء

مؤرخون ينبشون في التراب لكشف الحقائق التاريخية المقبورة

تميز صيف 1958 بجوٍّ سياسي ساخن كانت الأزمة مفتوحة بين الحكومة التونسية وجبهة التحرير الوطني، كان وجه التركيو على القومية العربية من طرف الصحافة الجزائرية قد وجد آذانا صاغية لدى الرافضين إبعاد تونس من المشرق العربي، تزامنت هذه الفترة بالظروف التي كانت تعيشها العراق أن تنظم بغداد بعد أن انسلخت من الحلف الذي سمي على اسمها إلى الجمهورية العربية المتحدة، وقد خشي الغرب من أن تؤول الأمور لغير صالحه فسارع بإنزال القوات الأمريكية في لبنان والقوات البريطانية في الأٍردن، خاصة وأن الشباب التونسي كان منتأثرا جدا بالحركة البعثية وبشخصية ميشال عفلق وبالأخص الذين درسوا في المشرق وكانوا منبهرين به رغم أن حزب البعث كان ذو اتجاه علماني، تميز الوضع بشيئ من التوتر أمام الدور الذي كان يلعبه ألإعلام الجزائري في تونس ممثلا في جريدة المجاهد حين تحدث عن اتفاقيى غيجلي والصبحة التي تحدث بها عن القومية العربية، كانت الحكومة التونسية تتابع ما كان تنشره جريدة المجاهد قبل صدور عددها عم طريق مطبعة "لابريس" التي كان يمنلكها يهودي اسمنه صماجا مقيم بباريس ويشرف عليها بتونس يهودي آخر ما دفع بالسلطات التونسية إلى حجر العدد الجديد قبل نزوله إلى السوق.

حسب المؤرخ الجزائري محمد الميلي هذه الحركة التي قامت بها السلطات التونسية هدفها وضع حد لعهد التعايش السلمي مع الثورة الجزائرية وأدبياتها وقد يكون إنذار لجبهة التحرير الوطني حتى تتوقف عن كل يكون مصدر نهييج يسير في غير الإتجاه الذي يريده النظام التونسي التي كانت له حساسية من القومية العربية، فحجب عدد المجاهد ترك شرخا كبيرا في العلاقات التونسية وجبهة التحرير الوطني وهذا حتى تغير جهة التحرير الوطني من خطها، تزامن هذه الإنسداد مع سوء العلاقة بين الجزائر والمغرب فيرقضية لجنة ىالحدود في 21 مارس 1958  بعدما اعلنت الصحافة المغربية إجراء مفاوضات مغربية فرنسية بشأن الحدود وجاهزية الغلق، في ظل هذه الظروف كان من الضروري غيجاد حل يخدم الثورة وجبهة التحرير الوطني والجزائر ككل، كان المقترح تاسيسي حكومة جزائرية مؤقتة، إلا أن تشكيل هذه الحكومة لقي عدة انتقادات  لأن عملية التشكيل كانت انفرادية ولم يكن هناك عمل تنسبقي جماعي،  اي إشراك المجلس الوطني للثورة، فالذي حدث كما يقول ابرامي لونسيس أن لجنة التنسيق والتنفيذ تحولت إلى حكومة.

لا نعلم إن كان ما كتبه الأكاديميون  يقبل الصدق عن الأحداث التي وقعت قبل تاسيس هذه الحكومة، بالنظر إلى الحساسيسات التي كانت تثير القلق والتوتر بين العرب والأمازيغ، فابراهيم لونيسي يقول أن كريم بلقاسم  حاول تقريب الضباط الجزائريين القادمين من الجيش الفرنسي عن طريق تعيين مولود إيدير رئيسا لديوانه العسكري وتكليفه بإعداد هيكلة جديدة لجيش التحرير الوطني يتولى الإشراف على الضباط الذين تكونوا في الجيش الفرنسي وهو يهدف إلى تحويل جيش التحرير الوطني إلى جيش محترف وفي جور تضامني بين الباءات الثلاث تم الإعلان عن ميلاد الحكومة المؤقتة، وهنا نقف على اوجه التناقض بين ما قاله المؤرخ محمد الميلي بأن الصراع كان داخلي خارجي وما يقوله ابراهيم لونيسي بأن الصراع كان داخلي داخلي، ولذا ليس من حقنا كقراء للتاريخ أن نقف ضد أو مع، أو نبدي موقفا حاسما إزاء هذه المسألة، بمعنى الإلتزام بالحياد إلى أن تنكشف الحقائق وتتضح أكثر، وهذا يقف على دور  النخبة من المؤرخين والبحثين في التاريخ، خاصة وأن علي كافي يؤكد أن الإعلان عن الحكومة المؤقتة كان مفاجأة، لأن قادة الولايات في الداخل لم تتم استشارتهم بصفتهم أعضاء في المجلس الوطني للثورة، أما القيادة في الخارج كانت تلعب باعصاب قادة الداخل وتقول لهم إنتظروا حدثا يوم 19 سبتمر، وهذا ما يؤكد أن تشكيل الحكومة الجزائرية المؤقتة لم يكن شرعيا.

و كما يقال : "اللعاب حميدة والرشام حميدة" حتى في زمن المحن، فبدلا أن يكون فيه الرفاق متحدين متضامنين يكون اللعب في الظلام، فقد تم الإعلان رسميا على ميلاد الحكومة المؤقتة وتم تحديد مهامها  والتي تتمثل في ممارسة السلطة التنفيذية للدولة الجزائرية إلى حين يتحقق الإستقلال ومن صلاحياتها انها تقيم العلاقات الدبلوماسية، لم يمر عام على تشكيلها حتى بدأت المشاكل  بسبب نفوذ الباءات الثلاث على الحكومة ومحاولة العموري الإنقلابية على الباءات الثلاث، ما جعل فرحات عباس يستدعي قادة الداخل للإجتماع في تونس وفك الصراع بين كريم ومحمود الشريف والعموري والباءات الثلاث، هذا الإحتماع عرف باجتماع العقداء العشرة وفي هذا الإجتماع طرح تشكيل الحكومة المؤقتة الجديدة ( الثانية)، اقترح فرحات عباس ان تؤول الرئاسة إلى كريم بلقاسم، لكن الرئاسة آلت إلى الرئيس الأول أي إلى فرحات عباس، دون أن يحاول الأعضاء معرفة أسباب التحوّل خاصة بالنسبة لجبهة التحرير الوطني التي كانت ترى أن المهم تشكيلها ولا يهم من يرأسها وهذا كله من اجل الذهاب إلى مرحة جديدة، رغم أن تشكيلها انطلق من المنفى.

الغريب أن جل الذين عينوا ىاعضاءا في الحكومة المؤقتة كانوا معتقلين  من بينهم ( أحمد بن بلة، حسين آيت أحمد، رابح بيطاط، محمد بوضياف، محمد خيضر)، رغم ذلك فقد باركت جبهة التحرير الوطني تشكيل الحكومة المؤقتة في الساعة الواحدة بعد الظهر بتوقيت الجزائر بعدما اعترفت الدول العربية والإسلامية والآسيوية بها واعتبرته الجبهة مكسبا للجزائر ساعد على فك العزلة التي كان ديغول يفرضها على الثورة، ونقف مع شهادة الطراهر سعيداني  في حديثه عن القاعدة الشرقية حيث كشف عن جوانب من تصرفات  أعضاء الحكومة المؤقتة التي فضل أعضاؤها الإستقرار في تونس يقيمون في منازل ضخمة وتكونت لديهم ممارسات برجوازية وتعالوا على إخوانهم المجاهدين،بينما كامت الثورة في الدذاخل تمر بأحلم ايامها  من حيث النقص في السلاح والجوع، هكذا اتخذ أعضاء الحكومة المؤقتة من العلاقات الدبلوماسية فرصة لجمع المال،  مما أدى إلى نشوب خلافات بين قادة جيش التحرير الوطني وأعضاء الحكومة المؤقتة فحدثت مؤامرة لعموري في نفس السنة.

في الجانب المالي يتساءل مؤرخون وباحثون في التاريخ عن سر امتلاك الحكومة المؤقتة للمال جعل أعضاؤها يعيشون في بحبوحة مالية، تقول التقارير أنه عندما استقلت تونس أرادت أن تغير عملتها من الفرنك الفرنسي إلى الدينار التونسي،  منحت لها الحكومة الجزائرية المؤقتة 17 مليار فرنك فرنسي كي تضعه في البنك العالمي لضمان تحويل عملتها في الوقت الذي كان جيش التحرير الوطني يعاني من أزمة مالية خانقة ومن نقص في التموين،  ولما يطالب قادة الداخل من أعضاء الحكومة المؤقتة بأن يزودوا الولايات بما يجب كان الجواب على الولايات أن تعتمد على وسائلها الخاصة بحجة أن الحكومة المؤقتة لا تملك الأموال اللازمة، فكيف إذن أعطت للحكومة التونسية هذا المبلغ الخيالي؟، خاصة وأن الحكومة التونسية لم ترد المال إلى اليوم.

 شهادة أخرى يضيفها الضابط في جيش التحرير الوطني  الطاهر سعيداني في مذكراته حول ما تعلق بالتسليح، يقول أن تونس كانت تأخذ 10 بالمائة منه كونه كان يمر على اراضيها، أما عن الحبيب بورقيبة كان هذا الأخير فيما يتعلق بالبترول على اتفاق مع رجل الأعمال الأمريكي روك فيلار رئيس بلدية نيويورك وكان بينهما تفاوض  على استغلال البترول الجزائري المتواجد في الجزائر على الحدود التونسية على أنه فرنسيا ووضعه تحت تصرف الحكومة الفرنسية، وقد ذهب بورقيبة إلى ابعد من ذلك عندما ذهب من نيويورك إلى جنيف والتقى بالجنرال ديغول وتحدث الطرفان عن البترول الحدودي، كما طلب بورقيبة من ديغول أن يوسع الحدود التونسية الجزائرية داخل القطر الجزائري عند النقطة 233 التي تقع بها آبار البترول مقابل تلبية كل طلبات الحكومة الفرنسية فيما يخص الثورة الجزائرية، إلا أن ديغول رفض، بعدها قامت الحكومة التونسية بالتنقل الى النقطة 233 ووضعت العلم التونسي فكانت مواجهات بينها وبين جيش التحرير الوطني لمنعها من وضع العلم التونسي في الأراضي الجزائرية، وقبل ان يصل جيش التحرير الوطني الى المكان كان الجيش الفرنسي واجه التونسيين وقتلهمكما قامت بإجلاء مدبنة بنزرت وتم وقعت  مواجهات وقعت فيها اغتيالات، حيث عرفت   النقطة 233 بقضية la bonne .

 أما تشكيل الحكومة المؤقتة الثانية الذي تم في العاصمة الليبية وقعت فيها تعديلات من خلال حذف بعض الأسماء الذين كانوا أعضاء في الحكومة الأولى على غرار توفيق المدني، في حين تم الإختفاظ بالأعضاء المعتنقلين والسؤال الذي يفرض نفسه على الطرح كيف كانت الحكومة تُسَيَّر وجل أعضائها في النعتقل (داخل السجون)؟ ربما هناك أمور خفية لم يكن قادة الولايات في الداخل على علم بها، إلى حين انفجر الوضع  حيت تحتم  إعادة النظر في التركيبة البشرية للحكومة وهذا خلال الدورة المنعقدة من 09 إلى 27 أوت 1961 تم فيها تعيين بن يوسف بن خدة رئيسا للحكومة المؤقتة بدلا من فرحات عباس، رغم ذلك حافظت القائمة على المعتقلين كما ظل كريم بلقاسم في منصبه كنائب للرئيس، ولعل هذا التغيير كما يقول محمد الميلي  كي لا يضعف موقف الحكومة في مواجهة المشروع الديغولي.

***

علجية عيش

في المثقف اليوم