آراء

العمامة والسلوك!!

في اللغة نقول فلان معمم أي مخوّل، وفرس معمم أي أبيض الرأس، وعمموني أمرهم أي قلدوني أمرهم.

والعمامة واحدة العمائم وعممه تعميما أي ألبسه العمامة، وعُمم الرجل أي سُوِدَ (سيد) لأن العمائم تيجان العرب وكما يقال توج يقال عُمم.

والعمامة جمعها عمائم وعِمام.

وللعمامة أسماء مختلفة، وهي عبارة عن قماش يلف على الرأس بأساليب متنوعة ليصنع أشكالها العديدة.

والعرب لبسوا العمائم قبل الإسلام، وكان للعمائم دور في حماية الرأس من حرارة الشمس، وكانت تغطس بماء البئر لكي تحافظ على وقاية الرأس من شدة الحرارة، وكان لونها أبيضا لكي لا تمتص حرارة أكثر مثل باقي الألوان، وبعد مجيئ الإسلام، أخذت طابعا دينيا وأصبحت رمزا ورتبة دينية وتعبيرا عن المعرفة والفقه والخبرة الدينية.

وكان للرسول (ص) عمامة يرخي طرفها بين كتفيه، ويوم فتح مكة كان متعمما بها وقد خطب بالناس عند باب الكعبة، وروي أن النبي (ص) وضع على رأسه العمامة السوداء والخضراء والبيضاء، كما جاء في كتب السيرة.

وللعمامة أصول وألوان وسنن في اللف والتعمم، وفيها آراء فقهية وشرعية متنوعة كتنوع ثقافة الإسلام، ومَن يضعها على رأسه يتوجب عليه الإلتزام بمعانيها وتقديرها وإحترامها.

ومع الزمن أصبحت رمزا للقوة  والجاه والسلطة، فكان للخلفاء عمائم ذات أشكال وألوان متنوعة، وأمعن معظم السلاطين العثمانيين في حجم العمامة ولونها وشكلها، فكان سليمان القانوني يضع على رأسه عمامة كبيرة الحجم كروية بيضاء، لتظهر هيبته وقوة إمبراطوريته المترامية الأطراف.

والعمامة موجودة في الديانات الأخرى لشعوب كثيرة في شرق آسيا كالهند وغيرها.

ولها أسماء عديدة في بلدان العالم المختلفة، وهي معروفة منذ القديم عند مهاراجات الهند وفي أوربا، وحتى النساء كانت تتعمم في الماضي.

وللظروف البيئية دور فعال في أشكال العمامة وألوانها، وكذلك التأثيرات الدينية والفكرية والإجتماعية.

وتتخذ العمامة معاني أخلاقية ذات إرتباط بالشرف والكرامة، وإسقاطها عن الرأس يعد جريمة إجتماعية لا تغتفر بسهولة في بعض الأعراف والتقاليد القبلية والدينية.

وصارت العمامة  اليوم من تقليعات الموضة، وبرع فيها مصمموا الأزياء وتفننوا في تصميم العمامة النسوية المعاصرة المستوحاة أصلا من عمامة المرأة الأفريقية، وأخذنا نرى أثمن العمائم وأجملها في عالم الأزياء النسائية الجديدة.

والعمامة ليست رمزا للشر، فهي عنوان الألفة والمحبة والرحمة والعمل الصادق الطاهر النقي الملتزم بالدين وتعاليمه، التي أرادها الله تعالى سنة تحافظ على سعادة وأمن أبناء آدم وحواء فوق الأرض.

وفي تأريخ الأديان هناك شواهد وسلوكيات قاسية ومؤلمة طحنت البشر ببعضهم وأصابتهم بالويلات والدمارات، لأن رموز الدين إنتصرت على عقولهم وسلوكهم النفوس الأمارة بالسوء، فزينت لهم فعل الشر بإسم القيم النبيلة والأفكار السامية ذات الإمتداد المطلق بين الأرض والسماء، ومَن يزور خرائب العصور والقرون، يرى ذلك واضحا ويبقى متسائلا بحيرة وعجب عن كوامن الفعل وبواطن السبب.

ولا يجد أية نتيجة ذات قيمة إيجابية أو دينية في السلوك البشري المشين المبرقع بالدين، أو الذي يحمل راياته وأفكاره ويسعى في الأرض ممتطيا ظهر أمارة السوء الشعواء، التي تجلده بسياطها وتركبه ويحسب أنه يركبها.

وعندما نتناول موضوع العمامة ودورها في الحياة الإجتماعية، نرى أنها وعبر التأريخ ومنذ عمامة النبي (ص) وإلى اليوم، كان لها الدور الإيجابي في صناعة الحياة المثلى، التي تعبر عن قيم وأفكار الإسلام وفقا لمعطيات العصر الذي تعيش فيه.

وهي أنواع ودرجات، كالوسام العلمي الذي يستحقه صاحبه بالجد والإجتهاد والعمل الدؤوب من أجل الفهم والتفقه العميق بالدين، والوصول إلى درجة من المعرفة والوعي الواسع  لكي يضع العمامة على رأسه، ويمشي بين الناس على أنه رمز حي  من رموز الدين  المسؤولة عن كل سلوك أو كلمة ورأي أمام ربها.

وليس كل مَن وضع العمامة على رأسه (أي تعمم) هو من الذين إكتسبوا درجة  العلم والمعرفة بالدين، وهذا يفرض علينا أن نراجع مؤهلات العمامة ومواصفات أصحابها، لأن  العبث بالعمامة أدى إلى إضطرابات سلوكية منافية لمعايير الأخلاق والأصول والأعراف التي مضى عليها أبناء أمة محمد (ص) منذ أن دعاهم إلى دين الإسلام ، وهبط الوحي بآيات القرآن تباعا على مدى ثلاثة وعشرين عاما، تم تنزيل القرآن فيها بموازنة دقيقة ما بين حاجات البشر وتطلعات السماء، وإدراكها لطاقاته وقدراته التي تمكنه أن يعبر عنها، وفقا لمنهج السماء القويم الذي أنزله على نبيه بلسان جبريل (ع).

إن العمامة رمز للدين والمحبة والألفة والرحمة والطيبة والسماحة والورع والتقوى، فلماذا أصبحت رمزا للفرقة والبغضاء  والعدوان والشتات والضعف والضياع، وزرع روح الأحقاد والكراهية بين الناس؟

ولماذا تحولت من الدعوة إلى السماء وإتجهت إلى الدعوات الدنيوية والأطماع التي لا تنفع الدين، وتساهم في إراقة دماء الأبرياء، وزيادة عدد الفقراء والمظلومين والتعساء والمحرومين والمقهورين اليائسين البائسين؟

وكل ذلك بإسم الدين وتحت خيمة العمامة أيا كان لونها وحجمها وما فيها من فصوص ومجوهرات، حتى وكأنها تحولت إلى تاج لأمير أو ملك أو إمبراطور يريد أن يتحكم بمصير الآخرين وفقا لرغباته وطموحاته الدنيوية، التي يحاسب الله عليها ويلقي بأصحابها في الجحيم الموعود.

العمامة في وعينا الجمعي تعني المعرفة والتفقه والسلوك الحسن، والتفاعل الطاهر النقي العفيف مع الآخرين، والهدي إلى ما ينفع الناس ويرضي الدين وفرائضه وآدابه، لكنها فقدت الكثير من قيمتها لأنها لم توضع على الرأس المناسب المتفق ومعانيها، فالعديد من الرؤوس المعممة تسيئ إليها وتصنع وجودا مخلا بقيمتها وأثرها في حياة المجتمع .

ولعبت دورا لا يتفق ومقاصدها وعليها أن تعيد النظر بأهميتها، وأن لا تتجاوز دورها الروحي والأخلاقي السليم، وأن لا تدنس هيبة التأريخ والدين بالسلوك الدنيوي المتعثر، المشبع بنهج النفوس الأمارة بما تشتهي، والتي تمسك النفس اللوامة من عنقها.

فالمطلوب إعادة النظر بالعمامة وقيمتها ومراميها، فليس من السهل على كل فرد يريد أن يكون رمزا للدين أن يلبس العمامة وحسب، إذ لا بد من ضوابط واضحة وإمتحانات صعبة نظرية وعملية، وأن تتوفر له تقيمات متبادلة بين الناس.

فهي ليست تفويضا مطلقا لمن وضعها على رأسه، ومن الممكن إسقاطها عنه إذا ساء التعبير عن الدين وأوضح عدم فهمه في تطبيق السلوك الصحيح.

فقد كثرت العمائم بشكل غير مسبوق، حتى وكأن السفينة أخذت تتأرجح في يم الحياة المتلاطم الأمواج.

فهل يوجد مجلس لتعميم العمائم؟

وهل توجد إمتحانات دورية لأصحاب العمائم؟

وهل هناك تقييم للمعممين من الناس، أو من مجالس علمية وفقهية لها أهميتها وقيمتها الفكرية والمعرفية في الحياة الدينية؟

***

د. صادق السامرائي

في المثقف اليوم