آراء

السلطة الفلسطينية بين الدولة والفوضى

عدم الحسم النهائي للقيادة الفلسطينية في موضوع الانتقال من وضع سلطة حكم ذاتي محدود إلى دولة تحت الاحتلال، مع أن الرئيس أبو مازن في خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة ترك الباب مفتوحا لكل الاحتمالات، يتطلب مقاربة عقلانية وموضوعية لمستقبل السلطة والتزاماتها حسب اتفاق أوسلو، وخصوصا أن أصواتا ترتفع مطالبة بإسقاطها والبعض يعمل على إضعافها، يأتي ذلك في تزامن مع: تصاعد العمليات الفدائية ضد الاحتلال، تزايد حالة الغضب على السلطة، مساعي إسرائيلية متواصلة لإضعاف السلطة، توقف عملية التسوية السياسية، تكريس الانقسام ، وغياب أفق للعملية الانتخابية.

كتبنا عشرات المقالات حول السلطة الوطنية وتحدثنا حول الموضوع في عشرات المؤتمرات والندوات والمقابلات وعبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وفيها قلنا بأن سلطة الحكم الذاتي المقيدة باشتراطات اتفاق أوسلو ليست معطى نهائي أو ثابت من ثوابينا الوطنية بل هي حالة مؤقتة يمكن تجاوزها إن توفرت الإرادة الوطنية بتغيير وظيفتها أو بالانتقال إلى الدولة أو بالرجوع إلى حالة التحرر الوطني، كما ميزنا بين مبدأ وجود سلطة وطنية من جانب وأخطاء وتجاوزات الطبقة السياسية الحاكمة من جانب آخر. لكن أن يطالب البعض بحل السلطة دون تهيئة البديل الوطني فهذا سيؤدي لحالة فوضى لن يستفيد منها إلا العدو، واليوم وبعد مرور سنوات عجاف لم يحدث فيها انتقال نحو الدولة ولا عودة لحالة التحرر الوطني ولا إعادة بناء واستنهاض منظمة التحرير ولا انهاء للانقسام بل زادت السلطة ضعفا كما زاد ضعف وانكشاف معارضيها، ما زال البعض يطالب بإلغاء السلطة أو يعمل على إضعافها!

مفاعيل وتداعيات إسقاط السلطة الوطنية الفلسطينية أو حلها لن تقتصر على انهيار الحكومة ومؤسساتها وما يترتب على ذلك من توقف دفع الرواتب وتقديم الخدمات الأساسية لغالبية المواطنين، أو نهاية حقبة سيطرة حركة فتح على السلطة، بل ستؤدي لدخول النظام السياسي في متاهات وحالة فوضى لن يستفيد منها إلا الكيان الصهيوني وأصحاب الأجندة غير الوطنية، ومع حالة الضعف التي عليها منظمة التحرير تبقى حركة حماس وسلطتها في القطاع العنوان الرئيس للفلسطينيين، وإسرائيل مستعدة للتعامل مع هذا العنوان.

ليس تشكيكاً في نوايا كل معارضي السلطة ولا في نوايا كل الشباب المسلحين المطاردين من إسرائيل وأحيانا من السلطة في الضفة؛ فهذه الأخيرة تراكمت عندها الأخطاء مما أثار غضب الكثيرين حتى ممن ينتمون للمنظمة وحركة فتح ويدافعون عن مبدأ وجود سلطة وطنية، ولكن، ليس من المضمون أن إضعاف أو اسقاط السلطة يخدم المصلحة الوطنية في ظل غياب بديل وطني ليحل محلها.

هناك ثلاثة أطراف سياسية فاعلة في المشهد السياسي: إسرائيل والسلطة الفلسطينية وقوى المعارضة-دون تجاهل قوى أخرى بما فيها دول عربية وإقليمية تعمل بالخفاء ودون عناوين رسمية-. إسرائيل معروفة الأهداف وهي تعادي السلطة كما تعادي معارضيها، حتى وإن نسقت تكتيكيا مع بعضها، لأنها تعتبر كل فلسطيني عدوا لها كما ترى الضفة جزءا من (أرض إسرائيل) ولن تتنازل عنها لأحد وهي معنية ومستفيدة من الصراعات والخلافات الفلسطينية بل تغذيها بالإشاعات وبالسلاح، وحال السلطة كما سبق الإشارة له مع أنها ترى في ذاتها إنجازا ومكسبا وطنيا ويؤيدها قطاع كبير من الشعب، ولكن ماذا بالنسبة لأطراف المعارضة؟

كلمة أو مصطلح (المعارضة) في الحالة الفلسطينية غامضة وملتبسة، فإن كانت أغلب قوى المعارضة تعلن عن معاداتها لإسرائيل وتقف موقفا معارضا للسلطة إلا أنها غير متفقة على كل ما عداها كما لا تملك أية رؤية أو استراتيجية لمرحلة ما بعد انهيار السلطة.

تحت عنوان المعارضة يختلط الحابل بالنابل ففيها:

1- ناشطون وفاعلون مدنيون يعارضون السلطة لانتهاكاتها حرية الرأي والتعبير أو لوجود فساد فيها أو ضد بعض مواقفها السياسية ولكنهم ليسوا ضد مبدأ وجود سلطة وطنية، ومن ضمن هؤلاء من ينتمون لحركة فتح وفصائل المنظمة.

2- كتائب شهداء الأقصى وهؤلاء يقولون إنهم جزء من حركة فتح، وهذه الأخيرة هي التي تقود السلطة!

3- حركة حماس والجهاد الإسلامي بما بينهما من اختلافات وخلافات مستترة، كما أنهما ملتزمتان بهدنة مع إسرائيل في قطاع غزة وملزمة لهم حتى في الضفة ومناطق 48.

4- حزب التحرير الإسلامي الذي يغرد وحده ويختلف ليس فقط مع السلطة بل مع كل أطراف المعارضة الأخرى.

5- شباب من أجهزة أمنية قرروا التمرد على عقيدة دايتون التي أوهمتهم أن التنسيق الأمني وقمع المناضلين ومعارضي السلطة يحقق الأمن والأمان ويقرِب من قيام الدولة الفلسطينية المنشودة ولكنهم اكتشفوا أن ما يقومون به يخدم دولة الاحتلال أكثر مما يخدم الشعب الفلسطيني.

6- بعض العائلات والعشائر وطبقة المستفيدين من الاحتلال الذين يشعرون أن السلطة تهدد نفوذهم ومصالحهم.

7- وهناك من هيئتهم إسرائيل ليشكلوا روابط القرى من جديد.

8- وهناك من يدينون بالولاء للأردن وولائهم للأردن أقوى من ولائهم لفلسطين.

9- ولا ننسى المجرمين واللصوص وقطاع الطرق المعنيين بالفوضى لأنها تسهل عليهم عملهم الاجرامي.

10-   بالإضافة إلى جواسيس وعملاء لإسرائيل يعملون بالخفاء أو تحت مسميات متعددة وقد نجد بعضهم في مؤسسات المجتمع المدني وداخل السلطة نفسها.

فإن كانت إسرائيل تقوم بتقليص صلاحيات السلطة ومناطق نفوذها وتحاول اضعافها بشتى الوسائل ولا تثق بها بالرغم من كل ما قدمته قيادة السلطة من ليونة سياسية وتنسيق أمني... فهل ستثق بمعارضي السلطة وهذا هو حالهم؟ وهل يمكن أن تمنحهم صلاحيات وإمكانية عمل تخدم المصلحة الوطنية أكثر مما منحت منظمة التحرير والسلطة الوطنية المنبثقة عنها؟

هناك من يقارن وفي سياق الدفاع عن السلطة الوطنية بين ما كان يجري في غزة قبل انقلاب حماس وما يجري في الضفة هذه الأيام، ونعتقد أن المقارنة صحيحة نسبياً وفي جانب واحد وهو إضعاف السلطة الوطنية، ولكن الفرق الجوهري وهو ما يتجاهله كثيرون أنه في الحالة الأولى كانت إسرائيل مستعدة للخروج من القطاع وكانت حماس جاهزة لاستلامه أما في الضفة فإسرائيل لن تسمح لأي طرف وطني فلسطيني بالسيطرة على الضفة لأن الضفة في نظرها جزء أساسي من دولتهم المزعومة.

لا يعني ذلك التمسك بالسلطة والدفاع عنها بوضعها الحالي ظالمة كانت أو مظلومة بل ندعو للتفكير العقلاني من أجل المصلحة الوطنية بعيدا عن حسابات دول عربية وإقليمية وأصحاب الاجندة الخارجية وخصوصا أن تجربة الفلسطينيين مع هذه الدول والاجندات طوال عقود من تاريخ القضية الفلسطينية كانت مؤلمة، ولن يغير في شيء الشعارات والايديولوجيات التي ترفعها هذه الأطراف، كما يجب الاستفادة مما آلت إليه الانتفاضتين الأولى 1987 والثانية 2000 وكيف أدى غياب الرؤية واستراتيجية وطنية موحدة إلى عدم تحقيق إنجازات سياسية عملية.

في المقابل مطلوب من القيادة الفلسطينية العمل الجاد للانتقال من السلطة إلى الدولة مع إدراكنا للتحديات والصعوبات القانونية والعملية لهذا الانتقال، فإن كان تجاوزا يتم الحديث عن سلطة وطنية في الضفة وغزة أو في الضفة وحدها أو في غزة وحدها فلا يجوز ذلك بالنسبة للدولة، فهذه ستكون دولة كل الشعب الفلسطيني، وحتى تكون كذلك يجب أن تكون في سياق توافق وطني أو أن يتم الأمر من خلال استفتاء شعبي. ونعتقد أن الموضوع يستحق النقاش في اجتماعات (المصالحة) في الجزائر، والتي وإن كنا غير متفائلين بإنجاز اختراقات مهمة إلا أننا نتمنى أن تتجاوز الحوارات العبثية التي كانت على مدار سنوات في القاهرة وغيرها من العواصم العربية والأجنبية.

***

إبراهيم ابراش

في المثقف اليوم