آراء

خطوة جريئة في الطريق الصحيح

لم يكن أختيار لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وضيفه رئيس دولة الامارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد، في احد قصور مدينة الاباطرة الروس، وهو قصر كونستانتينوفسكي، " اعتباطا"، بل هو أختيار مدروس وبدقة، فالقصر هو صرح معماري من القرن السابع عشر، ومنذ عام 2003 - أصبح مجمع الدولة " قصر المؤتمرات"، ويقع على الساحل الجنوبي لخليج فنلندا على نهري Strelka و Kikenka، وعلى طول طريق Peterhof، وعلى بعد 19 كم من وسط مدينة سانكت بطرسبرغ، وكان مالكه الأول هو بطرس الأكبر، وعقد اللقاء بين الرئيسين في هذا القصر، هو تعبيرا عن عمق العلاقة التي تربطهما وبلديهما، وتعظيم روسيا لضيفها، خصوصا وان مالك القصر الأول كان بطرس الأكبر، مؤسس الاسطول البحري، الذي يعتبر اليوم رمز قوة روسيا وعظمتها .

وتكتسب أهمية زيارة الشيخ محمد بن زايد، وقوتها، كونها نابعة من أختيار توقيتها، فهي الأولى للشيخ محمد منذ انتخابه لهذا المنصب من قبل المجلس الاتحادي الأعلى في 14 مايو الماضي، وكذلك الزيارة جاءت بعد سلسة من الأحداث المهمة لروسيا، فهي تأتي لأول مسئول اجنبي يزور روسيا، بعد اعلان الرئيس بوتين انضمام جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك ومنطقتي زاروبوجيه و خيرسون الى بلاده، والحدث الثاني والمهم، هو قرار منظمة أوبك بلاس، بتقليص حجم الصادرات النفطية بمقدار مليونين يوميا، قرار اعتبرته أمريكا والغرب انتصارا لروسيا، وبمثابة " اذلال " للرئيس الأمريكي جو بايدن، وانحياز دولة الامارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية لها، وأكد الرئيس الروسي بهذا الخصوص، أن روسيا والإمارات تعملان بشكل نشط في إطار "أوبك+"، وأن تحركات المجموعة ليست موجهة ضد أي طرف، وقال " لن نقوم بذلك، نحن لا نفعل ذلك بطريقة تخلق مشاكل لشخص ما، و تهدف أعمالنا إلى خلق الاستقرار في أسواق الطاقة العالمية " بحيث يشعر كل من مستهلكي موارد الطاقة والمشاركين في التعدين والموردين للأسواق العالمية بالهدوء والاستقرار والثقة، فقد كان العرض والاستهلاك متوازنين.

أما الحدث الثالث هو تطورات الاعمال العسكرية بعد حادث تفجير جسر القرم يوم الثامن من أكتوبر الجاري، والرد الروسي المقابل، وأخيرا تمت الزيارة في ذروة الجدل الدائر حول مشروع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي ينتقد ضم روسيا لأراضي جديدة، وبالرغم من امتناع البرازيل والغابون والهند والصين عن التصويت، إلا أن الإمارات العربية المتحدة، التي هي الآن جزء من مجلس الأمن كعضو غير دائم، صوتت لصالحه، ولم يغير ذلك من موقف موسكو تجاه أبو ظبي، ونواياها الصادقة والسلمية تجاه روسيا، وبغض النظر عن الطريقة التي تدلي بها الإمارات بصوتها، فقد بذلت قصارى جهدها للحفاظ على الحياد في الصراع الروسي الأوكراني، وكذلك في العلاقات بين موسكو والغرب.

كل هذه الاحداث، كفيلة بأن تمنع أي رئيس دولي او عربي بالإقدام على زيارة روسيا ولقاء الرئيس بوتين، لكن الشيخ محمد بن زايد حمل على عاتقه هذه المهمة، والتي اختلفت عن بقية مهامه خلال زياراته ال11 لموسكو، عندما كان وليا لعهد دولة الامارات، فالعلاقة الحميمية التي تربط بوتين والشيخ محمد، ومحاولة دولة الامارات مثل معظم دول الشرق الأوسط، أن تظل محايدة في الصراع الروسي الأوكراني، كفيلة في ان تقدم الامارات نفسها كوسيط موثوق به، بما في ذلك بين روسيا والغرب، وهو أمر تقدره موسكو بشكل كبير، وأكدت استعدادها للتعاون مع مواصلة الوساطة الإماراتية، باعتبار إن حقيقة عدم انضمام الإمارات إلى العقوبات المناهضة لروسيا، على الرغم من ضغوط الشركاء الغربيين، مهمة بشكل خاص لروسيا، لذلك تظهر زيارة الشيخ محمد، أن أبو ظبي مصممة هي الأخرى على الاستمرار في مسارها.

ويرى المراقبون ان زيارة سمو الشيخ محمد بن زايد الى روسيا، لم تكن سرية بشكل كامل، بل على العكس من ذلك، فقد سبق الزيارة العديد من التحليلات السياسية والاقتصادية، لوسائل الاعلام الدولية والمحلية المختلفة، و التي أشادت بالزيارة، واعتبرتها خطوة جريئة، يخاف الكثيرون من المسئولين الغربيين الاقدام على تنفيذ مثيل لها، ويحاولون لقاء المسئولين الروس بعيدا عن أضواء الاعلام، واعتماد سرية التوقيت وبالأخص في هذا الوقت الحرج .

كما ان الصراحة والشفافية كان عنوان المباحثات بين الجانبين، لذلك عقد الاجتماع الحالي في جو ودي، وتناولته جميع وسائل الاعلام، التي لم تعتمد هذه المرة على التسريبات، وكما جرت العادة في معظم اللقاءات الرسمية، فمثلا حرص الرئيس بوتين فيه على تبديد مخاوف ضيفه، بشأن تطورات الأوضاع حول محطة الطاقة النووية في زاروبوجيه، وأطلع رئيس دولة الإمارات بالتفصيل على الوضع في المحطة النووية والإجراءات التي اتخذها الجانب الروسي لضمان الأمن فيها، في حين، أبلغ الرئيس الإماراتي بوتين "بموقف الجانب الأوكراني من عدد من القضايا".

كما كشفت وزارة الخارجية الإماراتية أن هذه الزيارة تهدف إلى تعزيز التعاون المثمر مع الزعماء الإقليميين والدوليين وتطوير الاتصالات مع جميع الأطراف المعنية بالنزاع الأوكراني والمساعدة في البحث عن حلول سياسية فعالة، وأن المحادثات الثنائية التي اجراها رئيس دولة الامارات في روسيا تناولت آخر المستجدات في الوضع، وعقدت بهدف تحقيق نتائج فعالة ومنع التصعيد العسكري والخسائر البشرية اللاحقة وتحقيق تسوية سياسية من أجل إحلال السلام والأمن في العالم، وهنا لابد لنا من الإشارة، الى انه في وقت مبكر من 1 مارس، وخلال أول مكالمة هاتفية بين فلاديمير بوتين والشيخ محمد بن زايد منذ بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وعد الأخير بأن الإمارات العربية المتحدة ستساعد في إيجاد "حل سياسي مستدام" للأزمة، وأيضا أن دولة الإمارات ووفقا لبيان سفارة الامارات في موسكو، تؤمن بأهمية التواصل والحوار كضرورة لتعزيز وتطوير علاقات إيجابية تخدم مصالحها الوطنية، وفي هذا السياق فإن الزيارة هي بهدف تعزيز قنوات التواصل مع الدول الصديقة، " وتأتي ضمن علاقات الصداقة الوطيدة التي تربط دولة الإمارات وروسيا الاتحادية"،

ورغم تعدد الوساطات الدولية، الا ان الرئيس الروسي خص ضيفه بالشكر على "جهود الوساطة التي أدت إلى حل عدد من القضايا الإنسانية الحساسة إلى حد ما"، وهنا لا بد من ذكر ان للإمارات دور كبير باعتبارها "نافذة " لروسيا في مواجهة العقوبات، حتى باتت اليوم وكما أفاد موقع The Middle East Eye ومقره لندن أن وزارة الخارجية البريطانية في بداية أكتوبر الجاري، متهمة بمساعدة "القلة الروسية في التهرب من العقوبات"، في الوقت نفسه تشير موسكو إلى أن لندن وواشنطن تحاولان الضغط على رجال الأعمال الإماراتيين لتقليل التعاون مع الاتحاد الروسي.

إن الاستقلال السياسي والاقتصادي لدولة الامارات، سمحا وكما أشار الشيخ محمد بن زايد، الى نمو التجارة إلى 5 مليارات دولار (بحسب الرئيس الروسي، زادت بنسبة 65٪ خلال العام)، ووصول عدد السياح الروس الذين زاروا الامارات الى حوالي نصف مليون، وتواجد 4 آلاف شركة روسية على أراضي دولة الامارات، وسيحتفل بافتتاح أول مدرسة روسية في الإمارات هذا العام، كل هذا يقوي جسور الصداقة بين موسكو وأبو ظبي، وتمنح رئيس دولة الإمارات تفاؤل كبير " في زيادة كل هذه المؤشرات بشكل كبير خلال السنوات القادمة ".

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

 

 

في المثقف اليوم