آراء

الشخصية العراقية.. كانت ومازالت وستبقى!

يتميز تاريخ العراق بأنه يمثل حجر الاساس في تاريخ البشرية. السومريون (6000ق.م) هم أهل البلاد الأصليين، وجدوا قبل ظهور قصة آدم وحواء الرمزية، وما جاء بها من توصيات دينية مثلت الانسانية في جوهرها، فيها ضرورة ادراك الخطيئة وهزيمتها، مثلت اول مدرسة اخلاقية انتصرت على الوهم (الشيطان)، منها جاءت نظرية الأنسنة التي أعترفت بأنسانية الانسان في البشرية. والسومريون هم الذين مثلوا جزءً منها حين أبتدعوا نظام عبادة الطقوس وليس المقدس، والكتابة اساس حياة البشرية وهم مخترعيها، الكتابة ذات الكلمات المنفصلة لكنها كانت تقرأ ملتصقة مثل "لو وكال " بلفظة واحدة " لو كال "الملك، ومن اشجارهم صنع القلم.ونستطيع ان نقول بتحفظ انهم اول من اخترعوا الحركة الاداركية التي يتباهى بها العالم اليوم..

تميز عصرهم بظهور المدن صاحبة المراكز السياسية والدينية والاقتصادية قبل العيلاميين، ومدينتهم آور القديمة هي الأولى،، بعد ان عرفوا الزراعة وبها كان الاستقرار، ومنذ الألف الثالث قبل الميلاد أصبح بأمكان الباحثين ان يتكلمواعن دولة المدينة العراقية الموحدة بقيادة لوكالزا كيزي(2355 ق.م) وهو صاحب دولة تمثل القطر الواحد الموحد، دولة رجحت العقل البشري على سلطة النص المقدس المخترع الذي لا دليل على صحته، فعشقت الحرية الغير المقدسة فأنتجت حضارة مستقلة بشخصيتها المتميزة، تؤمن بوجود السلطة على الشعب، لكنها مقيدة بحكم القانون لا بحكم القدسية الدينية بلا دليل، قوانين آور نمو الشهيرة.

ان مدن العراق الجنوبية كانت بداية الحضارات التي نسمع عنها، المدن المهملة من قبل حاكميها اليوم استجابة لأرادة الغرباء عنها، والكتابة هي عنوان كل تطور على الارض وهي منهم، نستطيع ان نقول انهم اول من ابتدع العلمانية الانسانية التي مكنتهم من التقدم الحضاري، فهم كمن تخلى عن الايمان العقيدي عندما يدخل المختبر، فهم الذين استبعدوا الجمع بين القناعة العقيدية والايمان الديني المطلق، لأعتقادهم ان الفكر اساس الحياة، لذا تنبهوا الى ضرورة فصل الدين عن السياسة لأيمانهم بالصيرورة التاريخية الحتمية المتغيرة، لم يؤمنوا بالحروب والعداوات لأعتقادهم انها سياسية سلطوية ، فهل يعقل ان يصبح هذا الوطن تابعا للعيلاميين، كما يدعون اليوم؟.

لقد أمتازت الشخصية العراقية القديمة بالأستقلال الذاتي في قراراتها المركزية، فلم تستشر غريبا او بعيدا في مصير الدولة والشعب رغم وجود الاتجاه الملكي لديها الراغب بالعلاقات الخارجية، فكانت قراراتها عراقية صرفة دون أستشارة الاخرين (انظر قرارات آور نمو السومري)، لا بل كانت تأنف عن مثل هذه الاستشارات (أنظر طه باقر، المقدمة في تاريخ الحضارات). لقد ركزت في أهتماماتها على القرار المركزي في السياسة والاقتصاد، ولا تعتمد الا على ثقة في ادارة الدولة. ان أهتمامها بالشعب مقروناً بأهتماماتها بمشاريع الري الكبرى والزراعة والتجارة عنصري الحياة الاقتصادية آنذاك، كما في أصلاحات أور كاجينا الشهيرة في التعليم وتنظيم المدن. وكانت بلاد عيلام الفارسية خاضعة لها وحتى وفاة أبنه نرام سن سنة (2333 ق.م)

وفي العهد البابلي كانت الدولة في قمة التطور الاقتصادي والسياسي والقانوني (قانون حمورابي 1793-1750 ق.م) صاحب الشخصية القيادية والقانونية المرموقة.ففي عهده توحدت البلاد مركزيا بعد ان قُهرت دولة العيلاميين الطامعين بالعراق منذ فجر التاريخ. وقد حقق حمورابي تحديد سلطة الكهنة من رجال الدين، الذي رأى فيهم خطرا على مستقبل الدولة السياسي، فعمل على تكوين دولة علمانية لادينية بعد ان ألغى منصب الآنسي (المرجع الديني الأعلى) وحرم الفتوى الدينية وجعل القانون المدني بديلا عنها.ونحن الى اليوم نتعكز على صنمية المرجع الديني الاعلى الوهمي والفتوى في التنفيذ، مع انه لا صلاحية له الا النصح والارشاد منذ القدم، ليس الا؟.

وفي عهد الآشوريين (2600-2025) أستمر الحال بقيادة ملكها الشجاع آشوربانيبال صاحب الشخصية الفريدة من تدمير العيلاميين الطامعين بالعراق وتخريبه لصالحهم، وحتى مجيىء نبو خذ نصر الاول بحملته المشهورة على عيلام وتدميرها حتى لاتكون مصدر ازعاج وقلق للدولة العراقية آنذاك. لقد كان هدف العيلاميين هو تخريب الوطن العراقي وقتل شخصياته الوطنية المخلصة ولا زالوا الى اليوم حتى لا يبقوا له من بقية، وكأن الأحداث التاريخية تعود اليوم بزمن مغاير في العراق بعد التغييرالمدمر في 2003 م الذي قاده المحتل ورافقه من تخلوا عن وطنهم بدافع الاطماع الشخصية، وألا من قتل علمائنا ومفكرينا وضباطنا وطيارينا وغيرهم ولا زالوا يُقتلون؟، فلهم في العداوة معنا والرغبة في السيطرة على بلادنا، تاريخ.

ومن يطلع على تاريخ العراق القديم والوسيط والحديث يرى ان حضارة العراق وثرواته الكبيرة مثيرة لطمع الطامعين بها وخاصة في فترات الفوضى والفساد.ومع ذلك كانت الشخصية العراقية أصلب عوداً من المحتلين المعتدين، فقاومت كل أعتداء ولم ترضخ لحكم محتل أو دخيل أو عميل وحتى عام التغيير في 2003 الذي جاء بحجة الاصلاح والتعمير، لكن المرافقين جاؤا كما كانوا الغرباء في العهدين الصفوي والعثماني، يحملون لنا التدمير.

يقول (ول ديورانت) صاحب الموسوعة الحضارية العالمية (قصة الحضارة)، ان نشأة المجتمع العراقي كانت وثيقةً بالبيئة الجغرافية من جهة وبقوة الشخصية العراقية من جهة أخرى، والذي جرت على ارضه أروع القصص البشرية أبتداءً بأختراع الكتابة ومرورا بالقوانين وأستمرارا بالمشاريع العمرانية الضخمة التي مكنته من ان يحتل المكانة الاولى بين الامم منذ فجر التاريخ واثارها لا زالت شاخصة في اور وبابل ونينوى، حتى ان اسم (العراق) اشتق من الجبل لقوته وثباته على الارض.

لا احد يشك ان العراق بلداً غنيا في موارده الطبيعية، وما كان هذا الغنى عبر التاريخ الا بتوافر الشخصية العراقية الكفوءة المتمكنة من ربط الظواهرالحياتية وتحقيق الرفاه والامن الوطني لبلادها "حتى قيل فيها ان العراقي يقرأ الممحي" لقوة ربطه للظاهرة التاريخية وهي سبب البلاء عليه اليوم، والتي أستطاعت ان تغالب الدهر وتقهره لصالحها، وان تبقى على مر العصور رغم ما أصابها من ركود وغزو وهجمات من معتدين حاولوا أستغلالها وأستغلال مواردها وشعبها، ولم يكن هذا الامر ليتحقق لولا قوة الشخصية العراقية المؤمنة بالوطن ايمانا لا تزحزحه الظروف والمصالح الشخصية ابداً، لذا فلا خوف عليها من الحاقدين الذين يحاولون تدميرها اليوم خدمة لمطامعهم الخاصة والأخرين، لكنها اليوم في طريق العودة، لتقهر خونة التاريخ.

لقد أدركت الزرادشتية منذ القدم ان التاريخ دائرة شريرة لايزال البشر يدورون فيها والنصر فيها للوطنيين الغالبين وهي مأثرة لها، وهي تؤمن ان العراقيين لا يُغلبون لمعرفتها بتاريخهم الضارب في القدم، لذا كان همها الاول اضعافهم والسيطرة عليهم املا بتطلعها وامتدادها نحو الغرب، فقد كتب زرادشت وصية لقومهم المتغطرسين، حين حذرهم من الأغترار بالدنيا والجاه والسلطان- كما هم اليوم - فالزمان لا جديد فيه الا لاحترام سلطة الاخرين والتعاون معهم، لقد جمع الفيلسوف احسان عباس كل الاراء الزرادشتية ودونها بكتابه "عهد أردشير"وبين للعرب ضرورة التعامل مع الواقع دون اهمال امورهم قبل ان يغلبوا وتهن قوتهم امام الغاصبين، ولكن هل يدرك اليوم اصحاب السلطة والمال اعداء الشعب والوطن خيانتهم لوطنهم.انهم سيندمون.

وفي عهد الخلافة الأولى والخلافة الاموية لعب العراق دورا بارزا في بداية تكوين الدولة ولولا الطمع الشخصي الفارسي المبرقع بأسم المذهب والدين لتمكنت الدولة الاموية من تكوين دولة ولانتجت الكثير.

وبمجيء العباسيين للسلطة عام (132 للهجرة) اختار ابو جعفر المنصورالدوانيقي بغداد وبناها عام 145-149 وصرف عليها عشرون مليون دينار ذهبي وكان امينا يحاسب عمال البناء على الدونق اي الفلس الواحد لذا سموه بالدوانيقي حرصا على اموال الدولة والناس، - قارن بينه وبين من يحكمون اليوم من خونة التغيير- لتكون عاصمة لدولة الأسلام لموقعها المتميز وشخصيتها الظاهرة.

ان هذا الشموخ الحضاري للعراق لم يأتِ من فراغ ابدا بل من واقع املاه عليها الموقع الجغرافي وانهارها المتميزة، وانسانها المخلص الشجاع ، اليوم زعماؤنا لا هم لهم الا التنقل والارتحال الى الأخرين ليستمدوا العون منهم والاستشارة في تشكيل حكوماتهم حتى وصل بهم الحال الى الخضوع لجملة من حفاة المتوحشين أصحاب الشروط المجحفة بحقهم وبحق الوطن ينتظرون منهم الرأي والمشورة، أنها مأساة أخلاقية تعادل مآساة التغيير والتدمير.

ونعود للبلاد العراقية الحالية في عهد الملك فيصل الاول الذي قال فيها:

"ان الشخصية العراقية مستقلة ومتميزة وقوية وهي صفات قديمة اعتادوا عليها، ويقول "ان على شبان العراق القائمين بالحكومة، وعلى رأسهم قسم عظيم من المسئولين يجب ان لا يلتفتوا الى أراء المتعصبين وأرباب الأفكار القديمة، لانهم جبلوا على تفكير يرجع على عصور خوت، أمتازت بالتحكم بالأخرين، وما دامت القوة والسلطة والمال بيد الحكومة ورجالها الاقوياء أصحاب الشخصيات المستقلة، سيكون بو سعها تطبيق القانون والنظام على الجميع لترغم الجميع على أتباع ما يمليه عليهم كل الواجب الوطني الكبير.شرط المركزية في تحقيق عدالة الجميع، فبدون العدل والاخلاص للوطن واستبعاد المغانم الشخصية، لا تستقيم الامور.كلام في عين الحقيقة والصحيح.

ويقول:

ان الشخصية العراقية قوية ومخلصة وأبية لاتخضع لظلم أوأجحاف أو اهمال، مهما قسى عليها الزمن، يجب أخذ الاعتبار بأن لاتخضع لحكم الأخرين من دول الجوار، فهم ألامراء الذين يُزارون ولا يزورن، هكذا عهدناهم..مقارنة كبيرة بين ما قيل عن العراقي البارحة واليوم، حين نراه يهرول خلف الاتباع الجهلة من دول الجوار يطلب الرحمة والاستشارة الدينية المتخلفة وما درى انه هو المستشار.

ناهيك عن ادخال الوطن في محور التزمت الديني المتخلف واهمال الصحة والتعليم لتدمير الوطن وجعلة يستجدي الاخرين، والاكثار من العتبات المقدسة الوهمية واحياء شعائر المتخلفين في اللطم والزنجيل وابتكار شعائر دينية ما انزل الله بها من سلطان، لادخال الانسان العراقي في محور الشر الباطل الرجيم، ، ومحاولة انشاء جامعة او كلية لتخريج الرواديد على طريقة مُفسد عقول الشباب وناشر الخُرافة بين العراقيين صنمهم الذي يعبد عندهم اليوم،.

لذا فالدولة العراقية الجديدة بعد 2003 لم تقم على مؤسسات بل قامت على أفراد، بعكس دولتهم الاساس، فأنقطعت صلة الجماعة بالأمة وجمهور الناس، والا كيف تفسر هذا التصفيات الجسدية اليومية لكفاءات ومثقفي العراق وعموم الناس والدولة لاهية بلا أهتمام، بالتعليم والصحة العامة والفساد المستشري بلا رقيب ولا حسيب وكأننا نعيش في عهد المغوليين، من هنا نرى ان الجفاف يسرع اليها، والخصام يحتدم فيها، والنزاعات تقوى عليها.

ويقول البعض لا أمل في الاصلاح اليوم حتى اصبحنا كالشجرة التي ماتت وجفت عروقها ولا ندري ماذا سيحل بالناس غدا من جراء هذا الظلم الكبير الذي يمارس على المواطن بطالة وقتلا وتشريدا وضياعا للحقوق. فهل لنا من سابقة تاريخية او شرعية او قانونية تجيز الخروج على الدولة اليوم؟ اين مدعيها ومرجعها الاعلى كما يدعون الصامت صمت القبور، فلنسمعهم،؟

لكن الرأي الصحيح ان الشجرة الاصيلة تبقى أصيلة مهما قسى عليها الزمن ولن تقلع جذورها ابدا، لابل ستعود حتى ولو بقي جزءً من بقاياها، هكذا حضارةالعراق وشعب العراق، لن يموت ابداً، ولن يستطيعوا أنهاء الشخصية العراقية وسيعود، الوطن، والشخصية العراقية معاً، مثلما كانت عليه؟

لقد عرف بعض المؤرخين والكُتاب حالة الوطن اليوم الا انهم مقصرون في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المعاني له، فالرجال من اصحاب الهِمَم تحي أمة، فهل يعي من يحكم الوطن اليوم، قيمته الحقيقة،

فهل يتفكرون،؟

***

د. عبد الجبار العبيدي

 

في المثقف اليوم