آراء

17 أكتوبر 1961 م.. ليلة تراجيدية في قلب باريس

كلّما حلّت ذكرى السابع عشر أكتوبر 1961 م. قفزت إلى الذاكرة الصور البشعة، لتلك المجازر الرهيبة التي ااقترفتها الشرطة الفرنسيّة، المدجّجة بالسلاح والكراهيّة ونوايا القتل العشوائي للعمّال الجزائريين المهاجرين في فرنسا، وباريس بالخصوص.

كان يوما أسود، بليله ونهاره. طفت جثث على مياه نهر السين، وامتزجت بالدماء والدموع والآهات. لم يخرج العمال الجزائريّون طلبا للخبز، وإنّما ثاروا دفاعا عن الحريّة والحقّ في الحياة الكريمة، لأنّ ذلك كلّه، مطلب إنسانيّ، فطريّ، أقرته الشرائع السماوية والأعراف الإنسانيّة والدساتير والقوانين الوضعيّة.

و قد كشفت تلك المجزرة الرهيبة وجه الفلسفة الغربيّة، القائمة على فرض القوّة الآخر وحبّ السيطرة عليه، وإخضاعه لقوانينها الظالمة، بمباركة حملة الصليب ودعاة الصليبية. وفضحت زيف الشعارات التي اعتنقتها الثورة الفرنسيّة، ونشرتها سرابا بين الناس.

و كان نهر السين – ومازال – شاهدا على تلك البربريّة الاستعماريّة، وتلك الجرائم البشعة، التي كانت امتدادا لما ارتكبته فرنسا الاستعماريّة طيلة قرن ونصف من الاحتلال البغيض، والإذلال والتعذيب والنفي والإبادة الجماعيّة.

و لكي لا تنسى الجيل الحالي، أي جيل المخضرمين، والأجيال القادمة – والنسيان في كلّ الأحوال نعمة وآفة – وجب التذكير بهذا اليوم الأسود، وأخذ الشهادات الحيّة من الذين مازالوا على قيد الحياة، أو من أبنائهم وأحفادهم.

لقد أكّد الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون في لقائه الأخير مع ممثلي وسائل الإعلام الوطنية، بأن "التاريخ لا يسير بالأهواء ولا بالظروف..ولا يمكن تزييفه "، وبأن الجزائر " كرامتها لا تباع "، مع التأكيد أنه "على فرنسا أن تنسى أن الجزائر كانت مستعمرة "، وتتذكر بالمقابل جرائمها التي " لا يمكن محوها بكلمة طيبة ".

إنّ ملف الذاكرة والأرشيف الجزائري المهرّب إلى فرنسا، بعد الاحتلال، وغداة الاستقلال، مازال مطروحا بقوة، وقد تأخّر معالجته من لدن فرنسا، لأسباب تعرفها فرنسا وتعيها، ولنوايا تدرك مقاصدها الآجلة والعاجلة.

من الشهادات:

لقد بلغ عدد ضحايا عنف الشرطة مئات القتلى وآلاف الجرحى والمفقودين، حسب شهادات من نجوا من الموت تشير، وقد كانت مناظر الجثث الطافية فوق مياه نهر السين دليلا على مشاعر الحقد والعنصريّة والكراهيّة.

لقد حاولت فرنسا الرسميّة (الديمقراطيّة) ومنابرها المدافعة عن شعارات الثورة الفرنسيّة (الحريّة والمساواة والأخوة)، ووسائلها الإعلاميّة (الحرّة) على مرّ السنين الستين من الاستقلال، إنكار جريمة 17 أكتوبر 1961 م، بل وكلّ جرائمها في الجزائر على مدار قرن ونصف. فقد صرح الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند قائلا: " فرنسا لم ترتكب حرب إبادة في الجزائر، كانت حربا وكفى "

و حاولت طيّ الملّف، باعتباره شأنا فرنسيّا داخليّا، كان هدفه حماية الجمهوريّة الفرنسيّة من فوضى العمال الجزائريين المهاجرين، ومن التيار الشيوعي السوفياتي، الذي كان حسب حسبها مدعوما من طرف المعسكر الشرقي، في إطار الحرب الباردة.

ويذكر المؤرخ الفرنسي جان لوك أينودي إلى أنه "رسميا لا تشير سجلات مصلحة الطب الشرعي إلى أي قتيل خلال يوم 17 أكتوبر 1961"، وأضاف أن "الجثث التي نقلت إلى مصلحة حفظ الجثث قد ألقيت في نهر السين من نوافذ البناية التي تضم هذه المصلحة. "

لقد كتب المؤرخان البريطانيان جيم هاوز ونيل ماكماستر في مؤلفهما " الجزائريون، الجمهورية ورعب دولة " الذي صدر سنة 2008، بأن مجازر 17 أكتوبر 1961، تهتبر " أعنف قمع دولة سببته مظاهرة شارع بأوروبا الغربية في التاريخ المعاصر ".

جاء في موقع ويكيبيديا: (خلال الليل، وقعت المجزرة في باحة المقر العام للشرطة، مما أسفر عن مصرع عشرات الضحايا في قصر الرياضة، ثم في" قصر المعارض من بورت دو فرساي "، واعتقلت الشرطة الجزائريين، وكثير من المصابين وقعت أعمال عنف وتعذيب السجناء. ونتيجة المذبحة يمكن تقدير إلى ما لا يقل عن 200 قتيلا ". واعترفت الدولة في عام 1998 والمذبحة التي تحدثت عن 40 قتيل).

و في مقال لعزيز طواهر، نشرته صحيفة صوت الأحرار الجزائريّة، بتاريخ 16 تشرين 2019 م، كتب ما يلي: " وفي شهادة له أكد سعيد بقطاش - أحد المتظاهرين آنذاك - أن تلك المظاهرات سرعان ما تحولت إلى مجازر، وأن قوات الشرطة الفرنسية هجمت على المتظاهرين بالهراوات والرصاص الحي، وألقت بعض المتظاهرين مكبلين في نهر السين، وفي اليوم التالي طفت الجثث على سطح الماء. وقال سعيد بقطاش إن آلاف الجزائريين اعتقلوا في تلك المظاهرات، مشيرا إلى أن بعضهم مات تحت التعذيب.. ".

كما صرح المؤرخ الجزائري حسن زغيدة، أن ما جرى في مظاهرات 17 أكتوبر هو جريمة دولة منظّمة، تُعاقب عليها جميع القوانين الدولية ولا تموت بالتقادم.."

هكذا مرّت تلك المجزرة الرهيبة في صمت وتجاهل، وكأنّها اللاحدث، وأزهقت أيادي المحتلين الفرنسيين مئات الأرواح الجزائريّة في قلب باريس، عاصمة (الجن والملائكة)، وعاصمة الجمهوريّة الفرنسيّة الخامسة، بقيادة الجنرال شارل دوغول، والتي ورثت عن الثورة الفرنسيّة ( 1789 )، شعار (الحرية والأخوة والمساواة ).  (Liberté, égalité, fraternité)

حقّا، لقد كانت مجزرة مرعبة، في حقّ عمال مهاجرين أبرياء، ذنبهم الوحيد أنّهم جزائريّون، أبناء مستعمرة فرنسيّة (آنذاك)، اسمها الجزائر.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

في المثقف اليوم