آراء

عودة صانع معجزة البرازيل إلى عرينه

وسقوط رجل أمريكا و"إسرائيل".. ما هي ثنائية (البرازيل وسيلفا) في النهضة الاستثنائية

* عودة ميمونة إلى عرين الشرفاء

بعد اثني عشر عاماً، عاد أكبر نصير للقضية الفلسطينية وصانع نهضة البرازيل "لولا دا سيلفا" لرئاسة البرازيل مجدداً، بعد فوزه فى الانتخابات الرئاسية بفارق ضئيل على حساب الرئيس المنتهية ولايته، والنصير الأكبر للاحتلال الإسرائيلي، ورجل أمريكيا في القارة اللاتينية، جايير بولسونارو.

كانت البرازيل بحاجة لعودة ابنها البار الذي خرج من بيئة فقيرة عانت من ضنك العيش، وعمل ماسحاً للأحذية؛ ليتبوأ مكانته في قيادة مشروعه النهضوي في البرازيل، إلى مشارف الأمان من جديد، بعد مرور اثني عشر عاماً على انتهاء فترة رئاسته.

وتمكن "لولا دا سيلفا" في وقت سابق، من الفوز فى انتخابات 2002 ثم أعيد انتخابه سنة 2006 بعد فوزه بـ 60% من الأصوات.

واستطاع دا سيلفا في غضون عشر سنوات التي تمثل فترة حكمه، صناعة معجزة البرازيل قبل أن يدركها الإفلاس قبل عام 2002 حسب تقرير صندوق النقد الدولي آنذاك.

والتزاماً منه بالدستور، لم يستجب لضغوطات النخب التي كانت تثق بمسيرته الجادة وقدرته على التصدي للأزمات؛ لتغيير الدستور بغية تمديد فترة رئاسته حتى لا تتقاطع تجربته الناجحة مع مصالح خصومه في الدولة العميقة ما كان سيعرض بصماته على التنمية في البرازيل إلى التشويه، فتشهد البرازيل من جراء ذلك أزمات اقتصادية قد يصعب حلها لاحقاً؛ لكنه آثر الانسحاب الطوعي من المشهد البرازيلي السياسي كونه استنفد فرص ترشحه لفوزه مرتين متعاقبتين في رئاسة البلاد وفق الدستور.

ويسجل ل"لولا دا سيلفا" أنه انقذ البرازيل من الإفلاس، حينما كانت ترزح تحت وطأة الديون المتراكمة لصالح صندوق النقد الدولي، والذي بدوره توقف عن إقراضها ودعم مشاريع التنمية فيها؛ لأنها عجزت عن جدولة ديونها وتوفير الدخاخيل تلبية لشروط لإقراض.

* سياسة فرض الضرائب على الأغنياء ومعالجة جيوب الفقر

وتطبيقاً لخططه الطارئة أقدم على فرض الضرائب الطائلة على فئة الأغنياء والشركات العاملة في البرازيل، والمستثمرين من أصحاب المشاريع العاملة أو ممن تقدموا بطلبات استثمار مقابل تسهيلات لوجستية قدمتها الدولة لتلك الفئات الهامة، وبالتالي حُوِّلَ جزءٌ من الأموال التي تم جبايتها لمعالجة جيوب الفقر من باب التنمية الاجتماعية.. وتعزيز التنمية الاقتصادية من خلال مساهمة الفقراء إذا ما تحسنت ظروفهم المعيشية في توسيع نطاق السوق المحلي، كأحد أهم عناصر تشجيع الاستثمار.

وبالتالي تكون خطط دا سليفا قد عالجت جيوب الفقر، وعززت من قدرة المواطنين على رفع مستوى معيشتهم،. وهذا كان من شانه أن يحرك السوق إيجابياً، وبالتالي تحقيق عائدات كبيرة على الاستثمار واستقطاب الرساميل.

وأثناء تقدم عجلة التنمية بفعل خطط دا سليفا، تقلصت ظاهرة عدم المساواة بين المواطنين، حيث ازداد دخل 10% من السكان الأكثر فقرا بخمس مرات أسرع من دخل أغنى 10% من البرازيليين في تلك الفترة، كما تم تقليل معدل التضخم الذي كان قد خرج عن نطاق السيطرة في الفترة ما قبل 2002.

أيضاُ تراجعت البطالة إلى مستوى قياسي منخفض، وانخفضت الأمية، بمعدلات عالية.

* تعزيز الموقف المالي في ظل تجربة البرازيل الاقتصادية

ولتفسير علاقة خطط دا سيلفا في تعزيز الموقف المالي للبلاد، وانعكاس ذلك على حجم الاقتصاد البرازيلي، دعونا نوضح الأمر على النحو التالي:

فقد تجاوب الاقتصاد البرازيلي بكل عناصره مع قرارات البنك المركزي بغية معالجة التضخم، وخاصة المواطن البرازيلي الذي يمثل جزءاً من السوق الاستهلاكي وخاصة بعد استقطاب عدد كبير من فئة الفقراء الذين ارتقت بهم الظروف إلى وضع أفضل،

والمعروف أن المواطنين البرازيليين كانوا وما زالوا هم المحرك للسوق من خلال تنشيط حركة السحب والإيداع في ظل تداول نشط لحركة الأموال بين المستهلك والبنوك التي يتحكم بسياساتها النقدية، البنكُ المركزي البرازيلي المحنك.

ولعل من أهم إجراءات البنك المركزي آنذاك لمعالجة التضخم، كان بتشجيع الموطنين البرازيليين على الإيداع في البنوك من خلال رفع الفائدة؛ لتخفيض مستوى الطلب على السلع المعروضة فوق طاقة السوق، وبالتالي خفض الأسعار وتنشيط حركة الشراء.

ولتشجيع هذا التوجه الاستهلاكي لدى المواطنين من خلال سحب جزء من مدخراتهم؛ كان يتم خفض سعر الفائدة من قبل البنك المركزي البرازيلي وبالتالي تنشيط حركة البيع والشراء في السوق، والنتيجة استثمارات ضخمة في كافة المجالات كانت تهل على البلاد بفعل هذه السياسة الحكيمة التي تُجَيَّرُ لجهود دا سليفا التنموية وخططه الذكية في التصدي للتضخم.

ومن أهم هذه الاستثمارات التي ازدهرت في عهد دا سيلفا، تطوير التعليم لرفد مشاريع التنمية بالموارد البشرية ذات الكفاءة العالية، واستغلال الموارد والثروات في باطن الأرض.. وحصل النمو رغم إيقافه لصناعة السلاح من منطلق مبدئي.

ومن جراء الجهود التنموية المبذولة، فقد بلغ حجم الاقتصاد البرازيلي 2.62 ترليون دولار بفضل خطط "لولا دا سيلفا" الاقتصادية الفذة التي بدأ في تنفيذها منذ عام 2003، وأصبحت البرازيل ضمن العشرة الكبار عالمياً، ومثالاً تنموياً يحتذى., وتحولت البلاد في غضون فترة رئاسته من دولة غارقة في الديون مشارفة على الإفلاس إلا دولة مانحة للقروض؛ وذلك بعد سداد البرازيل كلّ ديونها (كما ذكرنا آنفاً)، لا بل وأقرضت صندوق النقد الدولي ما يصل إلى خمسة مليارات دولار، اعتباراً من نهاية عام 2010، أي آخر فترة دا سليفا الرئاسية بعد أن كان الصندوق الأممي على وشك الانهيار عام 2002 بسبب التضخم الذي شهده العالم، وعجز الدول النامية عن السداد.

أيضاً ارتفعت قيمة العملة البرازيلية بأكثر من الضعف أمام الدولار الأمريكي. وأصبحت البلاد صاحبة سابع أكبر اقتصاد في العالم عام 2010.

* "دا سليفا" و "بولسونارو،" ما بين فلسطين و"إسرائيل"

أما على صعيد سياسي استشرافي.. فإن المرحلة القادمة -كما يبدو- ستذهب بالبرازيل إلى استقلالية القرار وعدم التبعية لأمريكيا وتفعيل الدور البرازيلي في مجموعة بريكس التي تضم كل من روسيا والصين والهند وجنوب افريقيا بالإضافة إلى البرازيل.

ويتوقع مراقبون أن يعزز "لولا دا سيلفا" من دعم بلاده للقضية الفلسطينية وانبرائه للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني في كل المنابر المتاحة، ربما يعود ذلك لسببين:

أولاً:- إعادة السياسة البرازيلية الخارجية إلى مسارها الذي كانت عليه خلال فترة حكم دا سيلفا، ناهيك عن كونه رئيساً يسارياً داعماً للقضية الفلسطينية بكل أبعادها، ضد الرؤية الصهيونية المتطرفة والقائمة على احتلال أراضي الفلسطينيين بغير وجه حق، وممارسة سياسة الفصل العنصري بحقهم، كما هو حال موقفه إزاء الفاشية من منطلق أخلاقي وإنساني.

ثانياً: تشويه مواقف البرازيل الدولية من قبل الرئيس المنتهية ولايته بولسينارو إزاء القضايا المحورية وعلى رأسها قضية فلسطين، والارتماء في أحضان أمريكا و"إسرائيل" على حساب مكانة البرازيل الدولية، بتأثير من الدولة العميقة.

وقد وصل الأمر بزوجة الرئيس السابق بولسونارو، إلى ارتدائها العلم الإسرائيلي اثناء دخولها غرفة الاقتراع نكاية بالرئيس الجديد دا سليفا الذي طوق رقبته بالكوفية الفلسطينية المرقطة،

والجدير بالذكر ان بولسونارو أقام علاقات قوية بالصهاينة والفاشيين، ومن دون أي قيد أو شرط، وأعلن خضوعه التام للولايات المتحدة.

من ناحية أخرى، تجاهل دور البرازيل البارز في منتديات مثل السوق المشتركة الجنوبية "ميركوسور"، وتكتل مجموعة بريكس الاقتصادية، لا بل شرع في تخفيف فاعلية علاقات البرازيل البينية مع دول أفريقيا والشرق الأوسط استجابة لمصالح الدولة العميقة صاحبة النفوذ الكبير على كافة الصعد.

وفي الحقيقة ان دا سليفا كان يمثل تهديداُ لمصالح الدولة العميقة في البرازيل؛ لذلك سعت تلك القوة التي تتحرك في منطقة العتمة والظل، إلى محاولة اغتياله سياسياً عام 2017 في عهد الرئيس ميشال تامر، حتى تخلو الساحة لهم، فوجهت إليه اتهامات بالفساد وغسيل الأموال، وحكم عليه مدة تسع سنوات ونصف، قضى منها عام ونصف ثم أفرج عنه بموجب حكم جديد قضى ببراءته من التهم المنسوبة إليه.. ومنحه الحق بالترشح للرئاسة من جدد.

* دا سليفا ومكانته بين الثنائيات في التجارب العالمية الناجحة

ربما يرى البعض بأن ما يعنينا في هذا الزعيم أنه نصير للفلسطينيين فقط؛ ولكنني اذكر بأن افتقارنا إلى نموذج قيادي يسترعي منا الانتباه إلى تجربة هذا الزعيم الاستثنائي. كونه يشكل حالة في القيادة الناجحة والملهمة التي تأنف الفساد وتسعى لاجتثاثه من جذوره الضاربة في الدولة العميقة، فيمثل بمواقفه وجهوده التنموية ثنائية "الدولة الناهضة وبانيها" وأقصد هنا (البرازيل التي اقترنت نهضتها بدا سيليفيا)، حيث لا تجد مثيلاً لها إلا في ثنائيات البلدان التي حققت معدلات نمو استثنائية على نحو ماليزيا ومحمد مهاتير، روسيا الاتحادية وبوتين، تركيا واردوغان، وأخيراً جنوب أفريقيا ومانديلا.

وقد صنف دا سيلفا في وقت سابق حسب مجلة التايم الأمريكية كالزعيم الأكثر تأثيرا في العالم. كما لقب بأشهر رجل في البرازيل من الجيل الحديث، بل ولقب بأشهر رجل في العالم.

ونقول للشعب البرازيلي مبارك عليكم هذا الزعيم الاستثنائي.. بينما أقول للدول النامية وعلى رأسها وطننا العربي حظاُ اوفر للجميع.. عجبي

***

بقلم بكر السباتين

1 نوفمبر 2022

في المثقف اليوم