آراء

حكومة الشراكة الوطنية وتفكيك الدولة العراقية

الدولة العراقية التي هشمت على يد دكتاتورية نظام حزب البعث وقضي الاحتلال الأمريكي ومندوبه السامي بول برايمر على ما تبقى منها، فاحتسبت وفي فترة زمنية قصيرة وبعد أن اختفت ملامحها لصالح سلطات عديدة ومتعددة، وباتت تدار مؤسساتها كإقطاعيات خاصة وبعشوائية وتضارب أهواء، فعدت واحدة من الدول الفاشلة بجميع المقاييس وبكل ما تعنيه الكلمة من حقائق.

ومن جملة البحوث في ميادين عمل الدولة وتبيان واقعها، ينظر المحللون لمداخيل الأفراد ومستوى معيشتهم وطبيعة الخدمات التي ينتفعون منها، كمعايير تؤشر لحقيقة  النجاح من عدمه لتلك البنية العامة المسماة  دولة.

شكل مستوى الفقر نسبا عالية بين أوساط الشعب العراقي، وأشرت الإحصائيات  لنسبة ربما تجاوزت الـ  20 %  ممن هم تحت خط الفقر، ونسبة عالية أخرى تعيش حالة الكفاف، ويترافق هذا مع تنامي متسارع لذوي الدخول العالية بشكل غير مسبوق. وكان المال العام المتراكم وغير المسيطر عليه والمضاربات والمشاريع الوهمية والرشا والاتجار بالممنوعات والمحرمات وعمليات السطو والابتزاز قد وفرت أبوابا مفتوحة لتصاعد أسهم وثروات هؤلاء ،الذين يعدون اليوم  تجارا في بازار السياسة والدين والأزمات المجتمعية، وليحتلوا الدرجات الأولى في سلم الأثرياء على حساب جوع الملايين من الشعب العراقي.

ما يصاحب الفشل في الميادين السياسية والاقتصادية، يشكل عامل ارتكاس في العديد من مفاصل الحياة اليومية للشعب. فالحقوق الإنسانية  تضمن للأفراد وعموم المجتمع المشاركة السياسية الحقيقية  في بناء الدولة وترتيب هياكلها، ولكن في حالة عراق اليوم  نجد أن اختفاء التركيبة السليمة للدولة العراقية، تؤشره تجليات عديدة وتفضحه تصاعد لغة القهر والخوف والتسلط والتضييق على الحريات المدنية، وتشوه وابتذال مفهوم الديمقراطية، وتجاوزات خطيرة على حقوق الإنسان، ويترافق كل ذلك مع بطالة كبيرة وتصاعد حدة التغرب بين أوساط المجتمع، ومثله التهميش والضياع وغياب كامل لمفهوم ومبادئ المواطنة. ومع انكفاء مفهوم المواطنة بات العراق بحدوده الجغرافية الحالية مهددا بالتشظي والضياع على يد أبنائه قبل غيرهم.

دائما ما كانت فرصة خلق مجتمع مدني عراقي متجانس وموحد فكرة ليست بسهلة المنال، ولم يظهر مثل هذا النموذج على أرض الواقع بشكل يبعث على الاطمئنان منذ ما قبل هزيمة الدولة العثمانية، وأكده دخول أول جندي بريطاني لأرض بغداد عام 1917.  وبالرغم من أن صورة العراق الواحد الموحد، دائما ما كانت حلما يراود الكثيرين من الذين أحبوا العراق كمسمى وطن جامع، رغم تعدد واختلاف نسيج مكوناته، وعشقوه أيضا كعمق تأريخي حضاري دون حدود واضحة ومتماسكة، ولكن ظهر وبمرور الزمن، أن إسقاط تلك الأحلام  على أرض الواقع، لم يكن سهلا، ولم يجد له الأرض الصلبة للوقوف على قدميه،  وبدت تلك الأحلام جد طوباوية مع رسوخ حكم حزب البعث بعد عام 1968 وحروبه وسياساته الداخلية، بالرغم مما كان يدعيه من فكر قومي عروبي وحدوي. كذلك وجهت لهذا الحلم صعقة قوية إثر احتلال العراق من قبل الأمريكان عام 2003 ما جعل محبي العراق الواحد يفيقون على واقع لا يمت بصلة لما كانوا يؤملونه أو يحلموا به، وبدت تطلعاتهم في نهاية المطاف، مهمشة وبعيدة المنال، بعد أن طفح الكثير من الغريب والمستهجن وغير المتوقع اجتماعيا وسياسيا، وتصاعدت حدة الصراع والانقسام في الشارع العراقي.

وفي عودة لتاريخ بناء الدولة الوطنية الحديثة وظهور أول سلطة وطنية حاكمة عام 1921 دائما ما كانت قوة الدولة المركزية ولحد عام 2003 ، تمثل عامل الصهر والإدغام لمكونات العراق المجتمعية بشكل قسري دون النظر لخصوصيات تلك الفروع. وكانت ظاهرة الارتباط الاقتصادي الاجتماعي لأجزاء العراق الأربعة بدول الجوار الشيء الملموس والمتداول، مع غياب السوق الاقتصادية العراقية المشتركة، واختفاء أي نوع من علاقات إنتاج اجتماعية اقتصادية حقيقية مشتركة، وكان هذا الملمح الطابع السائد في الاقتصاد العراقي.وبدوره شكل عوامل طاردة رسخت حالة التشظي بين مكونات الشعب العراقي، وفككت الكثير من الوشائج التي كان من الممكن لها أن تنمو لصالح التراص والوحدة وبناء الهوية الوطنية.

 ودائما ما كانت الفرعيات  القومية والطائفية تنحو دوريا وباستمرار لتثبيت هوياتها الفرعية دون المرور عبر الهوية الوطنية الجامعة، وفي الكثير من تلك المحاولات بدت لغة الخصومة والنفرة  المجال الأرحب لتوكيد الحقوق والهوية الخاصة. وعلى ذات المشهد من التفكك والتباعد، خلت الساحة العراقية من الرموز أو الرمز الوطني الذي يجتمع أو تلتف حوله الغالبية، بل حدث ما هو العكس، فاغلب الرموز العامة التي ظهرت في تاريخ العراق المعاصر، دارت ومازالت حولها خصومات وصراعات،  وبدت تلك الرموز في الغالب وكأنها سبب في تأزم الأوضاع ورفع حدة المناكفات والفرقة.

عام 2003 وهو عام الاحتلال الأمريكي قلب جميع المعادلات ووضع العراق بوجه عواصف عاتية، وأزاح عنه ومن حوله جميع المتاريس والمصدات ليواجه مصيره عاريا، دون مساحيق تجميل أو توريات أو مصدات وطنية، وجعله يقف ممزقا واهنا وكأنه في اليوم الأول من دخول جيوش هولاكو لبغداد . ذاك اليوم من عام 1258 لم تكن بغداد عاصمة الدنيا، بل كانت عليلة ضائعة، تتقاذفها الأزمات مثلما تتلاعب بها أهواء الملوك والأمراء، وتنازعها مطامع أعدائها وتخاذل أبنائها. بغداد في 9 أبريل عام 2003 كان حالها حال بغداد عام 1258 .فقد عاث الدكتاتور صدام وحزبه بمقدرات الشعب العراقي منذ تربعهم على عرش السلطة، وسفحت دماء الآلاف من أبناء العراق في حروب قذرة وزج الآلاف في السجون، وجاع وتشرد مثلهم جراء الحصار الاقتصادي، وأوغل النظام في سياسات القمع والتجويع، وأخيرا وضع الدكتاتور رأسه ورأس الشعب العراقي في سلة واحدة، ليقول للأمريكان إن أردتم رأسي فاقطفوا معه رأس الشعب العراقي ،وهذا ما كانت تسعى له وفعلته الولايات المتحدة الأمريكية بمختلف مسميات إداراتها وشخوصها.

إنهاء سلطة البعث الفاشي وقدوم الاحتلال بفلسفته حول شرق أوسط جديد تبدأ أشواطه إثر لحظة سقوط بغداد، ليظهر المشهد كواحد من أكثر مشاهد التأريخ سوءا واستهتارا بقيم وحضارة وتأريخ المنطقة، ولتدخل المنطقة فلسفة الفوضى الخلاقة لصناعة الديمقراطية!! وها هي نتائجها على أرض الواقع تنبئ بما أريد للعراق كوطن وشعب.

في متتاليات محسوبة جيدا ومنذ مؤتمرات المعارضة العراقية في بيروت وصلاح الدين ولندن، كان هناك سعي جاد من أطراف عديدة  للحصول على مغانم وتوزيع أرث سلطة صدام قبل نفوقها، لذلك وضعت قواعد لمحاصصة سياسية قومية طائفية بمباركة وتزكية من الإدارة الأمريكية، ولم يعترض أحد من جميع هؤلاء الذين شاركوا في تلك المؤتمرات، من التوصيف الذي طرح في المؤتمر على خلفية حالة التشرذم والتقسيم والتوزيع الطائفي والعرقي، وإنما قوبل التوصيف والتوزيع بفرح واستبشار، وتسابق المجتمعون  لتثبيت حجومهم القومية والطائفية حسب المنظور الحزبي، ومن ثم تأكيد حقوقهم ومستحقاتهم في السلطة القادمة، بعيدا عن فكرة إعادة بناء  وطن وتكريس هوية وطنية، خربت وأقصيت على مدى عقود طويلة. كانوا جميعا صدى لرغبات وسياسات الإرادة الأمريكية. وكما هو معلوم فإن الإدارة الأمريكية دققت شخصيات الجميع، ودرست طبيعة الشخصية العراقية، وواقع الحراك المجتمعي ، ونجحت في إحداث وقائع مربكة على الأرض، هيأت لجعل تلك الشخصيات الحزبية في مقدمة المشهد، ليكونوا دعاة بررة للمشروع القديم الجديد الساعي لتمزيق ما تبقى من الهوية الوطنية وتقسيم العراق، وقد أوفى الجميع بتعهداتهم وعمل دون كلل على فصم عرى ووشائج المجتمع على علاتها وضعفها، من خلال تصعيد لغة الخطاب القومي والطائفي المشحون بالعداء والكراهية، والذي بدأ على عهد حزب البعث وتبنته الولايات المتحدة كمشروع يعيد ترتيب الأوراق لمستقبل العراق القادم. وبعد إجراءات تزوير في وقائع العملية السياسية مع غياب كامل للوعي المعرفي للجماهير، وضع هؤلاء على رأس السلطة وبمسمى سلطة شراكة وطنية.

منذ أولى ساعات عمل تلك السلطة ظهر أن واحدة من المهام تتقدم الجميع في جدول الأعمال، ألا وهي تهميش وتفكيك مفهوم الدولة العراقية وبناء تراتيبيات لإدارة السلطة من خلال تقاسم  مؤسساتها ووظائفها والاستحواذ على جميع موارد الدولة ومنافعها وفق المصالح الشخصية والحزبية، وهذا الأمر شكل ومنذ البداية عصب التنازع والعداوة، ليس فقط بين الأوساط الحزبية وإنما كانت المهمة الرئيسية  التي قادتها تلك الشخصيات والأحزاب ولازالت ، هي ترحيل الشحن القومي والطائفي  ليكون سمة للتنازع والتقاتل بين الأوساط الشعبية العراقية، تستعر فيه المشاحنات والجرائم وسط الشارع العراقي وترافقه الدعاوى الكيدية وجرائم نهب المال العام والرشا، لتكون طبيعة لمعارك تمارس بين جميع تلك الأطراف الحزبية والشعبية دون وازع من ضمير وشرف مهني أو وطني، وباتت تلك المهمة أكثر الوسائل المستخدمة في التحريض والطعن بالأخر. ودون حياء تجري جميع تلك المسميات القذرة تحت يافطة حكومة سميت بحكومة الشراكة الوطنية.  

***

فرات المحسن

في المثقف اليوم