آراء

وجنت على نفسها براقش

ونحن نطلع على قرار تبني الأمم المتحدة (وهو قرار غير ملزم)، بشأن وضع آلية لتقديم التعويضات لأوكرانيا عن الخسائر التي تكبدتها جراء النزاع مع روسيا، والذي صوت إلى جانبه 94 دولة، وعارضت 14 دولة، بينما امتنعت 73 دولة أخرى عن التصويت، والحالة هذه لم تسعفنا الذاكرة الا باستذكار المقولة العربية الشهيرة "على نفسها جنت براقش" .

ومن منا لم يعرف هذه المقولة التاريخية، الا اننا وللتذكير، سنسلط الضوء على واحدة من الروايات التي تشرح سبب ظهور هذه المقولة، فقد اختلفت كتب التراث حولها، حتى قدّمت ثلاث حكايات، كما قدمت العديد من الصيغ لهذه المقولة الشهيرة، ولكن المعنى واحد، والقصة وما فيها، ان "براقش"، يعود الى اسم (حاشاكم الله)، الى كلبة، تسببت في مقتل قومها، وكانت تعيش في قرية صغيرة تحرسها، وتحرس المساكن من اللصوص والأعداء، فكانت الكلبة تقوم " بالنباح " كلما اقترب العدو، لتحذير أهل القرية، وفي إحدى المرات، هاجم أعداء أشداء القرية، فقامت براقش كعادتها" بالنباح " لتحذير أهل القرية للخروج من مساكنهم والاختباء، وبالفعل هذا ما حدث، فقد كان العدو أكثر قوةً من أهل القرية، مما دفعهم للخروج من المنازل والاختباء في مغارة قريبة حتى يخرج العدو من قريتهم، وبعد بحث الأعداء عن أهل القرية ولكن دون جدوى، وعندما هموا بالخروج من القرية، نبحت الكلبة "براقش" فرحًا بخروجهم من قريتهم وسلامة أهل القرية.. وعلى الرغم من محاولة صاحب " الكلبة " إسكاتها، إلا أن العدو انتبه إلى نباحها وهاجم المغارة واستباح أهل القرية فقتل منهم الكثير، كما قاموا بقتل الكلبة "براقش".

والحال هو الحال، ينطبق على الأمم المتحدة، ولكن مع اختلاف في النوايا، فقد تعودنا على سماع نباح "براقش"، ومنذ تأسيسها ولليوم، وهي تدافع للتغطية على الجرائم التي ترتكبها الولايات المتحدة و " ربيباتها "، وما يرتكبوه من " استهتار " بكل الأعراف والقوانين الدولية، وسرقة مقدرات الشعوب، وتدمير قدراتها، ونهب ثرواتها، والتي أودت حتى الان بمئات الملايين من الناس الأبرياء، والذين قتلوا او شردوا بمباركة كريمة من هذه المنظمة، التي أقل ما يقال عنها، بأنها تساير القتلة وقطاع الطرق، ولم تنصف يوما ومنذ ولادتها أي من الشعوب المستضعفة التي ترنو للاستقلال والحرية من استعباد الدول الاستعمارية العضوة فيها.

واليوم لم نفاجأ، بالقرار الجديد الذي يوصي بإعداد سجل الأضرار التي ألحقت بأوكرانيا جراء "الأعمال المخالفة للقانون الدولي من قبل روسيا الاتحادية"، ووضع آلية لتقديم التعويضات عن الخسائر، في إشارة واضحة لا تقبل التأويل أو التسويف، إلى أن الدول الغربية تسعى لاستخدام الأصول الروسية المجمدة لتمويل توريدات الأسلحة لأوكرانيا، واقل ما يقال عنه هو ان الأمم المتحدة تشرعن "النهب السافر"، خصوصا واذا ما علمنا انه في أكتوبر الماضي، قدر البنك الدولي الأضرار الناجمة عن القتال في أوكرانيا بنحو 350 مليار يورو، (وهو يقارب المبالغ الروسية المجمدة، لدى الدول الغربية ما مجموعه 330 مليار دولار من الأصول الروسية، وفي بريطانيا 18 مليار)، وأكد المستشار الألماني أولاف شولتز ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أن كييف لا تستطيع تحمل النفقات الضرورية وحدها، واقترح السياسيون تطوير "خطة مارشال" لأوكرانيا بمشاركة الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع (G7) والمؤسسات المالية والمنظمات الدولية والمستثمرين من القطاع الخاص.

ويؤكد القانونيون، أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن التعويض عن الأضرار التي لحقت بكييف "باطل قانونيا"، لأن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة من حيث المبدأ ليس لها قوة ملزمة، ولكن عندما تتعارض، من حيث محتواها مع ميثاق الأمم المتحدة والمعايير الأساسية للقانون الدولي، فإن هذا يجعل هذه القرارات، وكما أوضح نائب رئيس مجلس الاتحاد الروسي كونستانتين كوساتشوف، ليست مجرد قرارات تصريحية، بل "باطلة من الناحية القانونية"، ووفقا له، فإن هذا لن يوقف المبادرين والمؤلفين للسبب الرئيسي الذي بدأ من أجله هذا الإجراء المتمثل بـ "إضفاء الشرعية " على الأقل على أفعالهم غير القانونية المتعمدة للتجميد والحجز للأصول الروسية، ثم استخدامها لاحقا وفقًا لتقديرهم الخاص، وإن الشيء الوحيد المشجع إلى حد ما على الأقل، هو أنه في هذا التصويت، كان عدد الأقمار الصناعية للولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، أقل من نصف الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، 94 من أصل 193، وإن 94 دولة من أنصار العالم أحادي القطب، أو التي استسلمت تحت ضغطه، لا تزال كثيرة، ولكن لم يعودوا الأغلبية، ومن المهم تسجيل ذلك، وهذا يعني وكما اكد نائب مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة ديميتري بوليانسكي " بشكل عام، يعد هذا إخفاقا تاما بالنسبة لأولئك الذين يفرضون النظام القائم على القواعد على العالم بأسره، فقط هم لن يرغبوا في الاعتراف بذلك بالطبع .

وبات واضحا السبب الكامن وراء المبادرة الغربية، فهو مرئي بالعين المجردة، حيث يحاول الغربيون من خلال الجمعية العامة إضفاء بعض مظاهر الشرعية على محاولاتهم للاستيلاء على الأصول الروسية المجمدة في الغرب، أو بالأحرى سرقتها، وسيفعلون ذلك على المستوى الوطني، مشيرين إلى "إرادة المجتمع الدولي" التي يُزعم أنه تم التعبير عنها في الجمعية العامة، وأن آلية جمع "التعويضات" من روسيا، التي ينوي الغرب تمريرها من خلال الجمعية العامة، تهدف إلى إضفاء الشرعية على مصادرة الأصول الروسية المجمدة، بإجراءات نعد واحدة من أعظم السرقات في التاريخ.

وهنا نوافق الرأي لنائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري مدفيديف، الذي اكد فيه إنه يجب على الأمم المتحدة، أن تتبنى قرارا بشأن التعويض الكامل عن الأضرار التي لحقت بالدول من طرف الولايات المتحدة وبريطانيا، التي لحقت بكوريا وفيتنام والعراق ويوغوسلافيا والعديد من الضحايا الآخرين من الأمريكيين وحلف الناتو، وكانت الأمم المتحدة (براقش) شاهدة على الكثير من جرائم الحرب والانتهاكات لحقوق الإنسان، قدمت الدعم والمساعدة في بعضها، واكتفت بتعبيرها عن قلقها وإدانتها لبعضها الآخر، ولكن الأسوأ كان خذلانها وغضها الطرف عن جرائم أخرى.

كنا شهود عيان ولا نزال، على اكبر عمليات تخاذل من أعضاء الأمم المتحدة، الذين فقدوا أصوات نباحهم، من اجل درء العديد من الجرائم في المقدمة منها الجرائم الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، والعراق الذي تم ذبحه بسكين (لم تسنها) الأمم المتحدة، ليبقى وحتى يومنا هذا معذبا بجراحه، وتدميره، وتشريد شعبه، ونهب ثرواته، كل ذلك امام انظار وصمت صوت نباح " براقيش "، ولا يختلف الحال ما جرى ويجري في ليبيا حتى اليوم، من تدمير منسق من قبل براثن الناتو، بمباركة مباشرة من الأمم المتحدة، ولا ننسى ما يجري في سوريا الحبيبة، وقوافل التهجير للسوريين تنتشر هنا وهناك، وتدمير البلاد على ايادي المخربين والقتلة وجماعة الانغلو ساكسونية من الإرهابيين، والذين يعيثون في ارض سوريا الفساد، دون ان يحرك ذلك شعور الأمم المتحدة أو سماع نباح " براقيش "، الذي من المفترض ان يكون صوتا يشعرنا بالأمان، لا ان تخدعنا الأمم المتحدة، ليكون نباحها، كنباح " براقيش " بدلا من تحذير شعبها، قتلتهم " بنباحها " .

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

في المثقف اليوم