آراء

الصراع العربي الصهيوني والدراسات المستقبلية

لقد قادت الخبرات المعرفية المتراكمة لدينا إلى تبلور يقين لا يتزعزع حول حتمية الانخراط الجاد في حقل الدراسات المستقبلية، إذ نعتقد أنه من المهم أن تُركِّز الدراسات المهتمة بقضايا الصراع العربي االصهيوني، على المستقبل عبر الإجابة عن سؤال (ماذا لو؟)، ومن ثم ما هي سبل الاشتباك والمواجهة مستقبلًا.

فالحديث عن المستقبل من شأنه أن يدفعنا نحو استشراف وبناء عدد من السيناريوهات المحتملة لمستقبل هذا الصراع، تلك السيناريوهات المتكئة على حيثيات الحاضر ومعطياته، ومن ثم تبنّى سيناريو بعينه ومحاولة تحقيقه وإنفاذه في عالم الواقع.

حقيقةً أن هناك نقصًا حادًا في الدراسات المستقبلية العربية، في ظل خفوت الرؤية المستقبلية في بنية العقل العربي ذاته، فغارقة هي عقولنا العربية في وحل الماضي ولا تريد أن تبرحه قيد أنملة، فهذا العقل مسكون بغواية إعادة إنتاج الماضي، وهو ما دعا البعض لأن يردد تلك المقولة الساخرة:"العرب يتنبئون بالماضي ويتذكرون المستقبل".

ولكن كيف يمكن تجذير الدراسات المستقبلية في العالم العربي؟ كيف للعقل العربي المهجوس بالماضي أن ينفتح على المستقبل استشرافًا وبناءً وتخطيطًا ومن ثم توجيهاً وتنفيذًا؟

الأمر قطعًا بحاجة لجهود فكرية كبيرة، شريطة الإيمان المُسبق بأهمية الدراسات المستقبلية ودور الإنسان في صناعة مستقبله، والقدرة على الاختيار من بين أكثر من بديل، فالقناعة التي يتحتم تأكيدها وغرسهل في الوعي الجمعي للأمة هي وجود مستقبَلات عديدة وليس مستقبل واحد.

لقد أضحى استشراف المستقبل فريضة مركزية وضرورة ملحة في عالمنا العربي الذي يسير بهلامية وعشوائية وارتجالية منقطعة النظير في لحظته الراهنة، ولا يدري أين سيضع قدمه، فها هو عالم المستقبليات العربي مهدي المنجرة  يحذرنا من استعمار جديد هو"استعمار المستقبل"، يقول المنجرة:"إن عالمنا إن لم يخطط لمستقبله فإنه يوشك أن يُستعمر بدوره كما استُعمِر ماضيه وحاضره".

ومن ثم فنحن بين خيارين لا ثالث لهما: إما أن نرسم نحن ملامح مستقبلنا تأسيسًا على قناعاتنا وتطلعاتنا، أو يرسمه لنا آخرون وفقًا لمصالحهم ونزوعهم الأيديولوجي.

بل إن رسم مسارات للمستقبل، وكما يذهب البعض، قد أصبح حتمية إنسانية عالمية في ظل المصير الكارثي الذي ينتظر البشرية إن ظلت تسير بذات الطريق المحكوم بالصراعات المتصاعدة حيث مراكمة القوة وسباق التسلح في عالم تتزايد فيه الأصوليات المتطرفة مقابل تزايد التيارات الإلحادية والقومية المتطرفة، وهو استقطاب حاد أدى إلى تفاقم النزعات العرقية والانفصالية والقومية والصراعات الأيديولوجية، وإن لم يتم التدخل سريعًا سينفجر العالم في ظل الخيار النووي الذي أصبح متاحًا بيد كثيرين.

وبالعودة للصراع العربي الإسرائيلي فعملية بناء السيناريوهات يجب أن يسبقها إعادة صياغة خريطة إدراكية لواقع الكيان الصهيوني تكون أكثر التصاقًا بهذا الواقع وتعبيرًا عن الحراك الديني والاجتماعي والسياسي داخله.

ومن ثم يأتي دورنا في بناء سيناريوهات المواجهة تأسيسًا على معطيات ثلاث: متغيرات المجتمع الإسرائيلي، متغيرات العالم العربي، متغيرات النظام الدولي وموقفه من هذا الصراع، ثم حساب اتجاهات ومقدار هذه المتغيرات والوتيرة التي تسير بها والعوامل المحفزة والأخرى المثبَّطة.

وهي من دون شك عملية معقدة تأسيسًا على تعقد الدراسات المستقبلية ذاتها، فهي سياق منهجي عابر للتخصصات والحقول المعرفية، يتطلب جهودًا من علماء في تخصصات عديدة، فالسمة الأساسية للدراسات المستقبلية، وكما يذهب البعض، أنها مزيج معقد بين العلم والفن، وبين الكمي والكيفي.

لقد ذهب نموذج حدود النمو لنادي روما إلى أن مستقبل البشرية سيكون محفوفاً بالكثير من المخاطر التي قد تقود لكوارث كبرى إن استمرت المتغيرات السلبية الراهنة تسير بذات الوتيرة، وأن الوضع لن يتحسن إلا في حال كبح هذه المتغيرات أو تغيير مسارها بشكل جذري.

يقول جون تايلور، وهو محق في ذلك:"علينا أن نحاول بناء ملامح الطريق الذي يجب إتباعه خلال الثلاثين عامًا المقبلة لمنع الإنسان من إبادة نفسه".

وهو أمر لن يتأتى من دون الانخراط في دورة حضارية جديدة عبر تطوير منتج فكري حضاري يتأسس عليه نظام عالمي جديد من شأنه الحد من لا قيمية النظام العالمي القائم وفقدانه لبوصلة أخلاقية.

وتتطلب عملية بناء السيناريوهات إبداعًا وخيالًا فكريًا عميقًا، على أن تتأسس قناعة مسبقة بأن المستقبل هو أمر مفتوح على كافة الاحتمالات، والانعتاق من الجبرية الحديدية التي طالما حكمت وعينا الجمعي لقرون طويلة.

ومن دون شك فعملية بناء السيناريوهات تتطلب مناخًا من الاستقلال الفكري للقائمين علي تلك المشروعات المستقبلية: بعيدًا عن الأيديولوجيات المسبقة بتجنب أي انحياز أيديولوجي مسبق من ناحية، وبعيدًا عن سطوة السلطات الحاكمة ونزوعها المصلحي من ناحية أخرى.

فالمشكلة المركزية أن الدراسات المستقبلية لا يمكن لها أن  تنمو إلا وسط مناخ ديمقراطي حر، إذ في ظل أنظمة ديكتاتورية سيتم إنتاج أشباه دراسات مستقبلية تؤيد خيار الوضع القائم وتنزع نحو تثبيته مؤكدة أن من دونه الفوضى، وأن ليس في الإمكان أبدع مما هو متحقق في الواقع المتعين على كل إكراهاته وارتكاساته.

في حين أنه يجب دراسة المستقبل دراسة مفتوحة على كافة الاحتمالات والسيناريوهات، من منطلق الإيمان بالمقدرة الهائلة الكامنة داخل الأمة على تجاوز الواقع، ومن ثم اعتماد عدد من السيناريوهات المختلفة ثم تعيين القدرات اللازمة لإنجاز أي مسار مستقبلي منها.

على ألا نتورط في الدعوة إلى سيناريوهات مثالية غير قابلة للتحقق ومنفصلة عن ملابسات الواقع، أو أن نستسلم لارتهانات الواقع وتكريس الوضع الراهن، بل التأسيس لفرضيات متجاوزة مع قابليتها للإسقاط على الواقع المعاش في آن،  فلا تغالي في مثاليتها ولا تتحجر وتتكلس عند لحظة زمنية معينة، بل تتطور دائمًا لتلاحق متغيرات الواقع الذي هو في صيرورة مستمرة.

وفي المجمل فهناك السيناريو التشاؤمي، والسيناريو التفاؤلي وهو نوعان:  تفاؤلي خيالي، وتفاؤلي قابل للتحقق، هذا الأخير هو ما يجب السعي لتحقيقه وإنفاذه في الواقع.

فالمستقبل، وكما يؤكد المتخصصون، لم يعد مجرد "المنطقة التي ينبغي استكشافها، وإنما المنطقة التي ينبغي صناعتها وبناؤها".

وهذا ما يتحتم انجاز وبناء بعض ملامحه من أجل صياغة مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي واقتراح سيناريوهات المواجهة.

"ليس مهما صناعة الأحداث، الأهم من ذلك هو المقدرة على توظيفها وقت حدوثها"، تلك رؤية فلسفية عميقة على عالمنا العربي أن يتمعنها جيداً لتصبح قناعة لدية، ومن ثم وضع استراتيجية مُحكمة للاشتباك مع معطيات الواقع الراهن ومسارات تمددها.

هي إذن رؤية تفترض التعمق في حقل الدراسات المستقبلية ومن ثم حسن توظيفها من أجل الانخراط في المبادرة والفعل دون أن نقبع دائماً وأبداً في خانة الدفاع ورد الفعل، وذلك عبر بناء سيناريوهات عديدة للمستقبل في ظل المعطيات الراهنة والعوامل المتحكمة بها، ومن ثم إمكانية التدخل في لحظة معينة تحددها الرؤية الستقبلية ذاتها.

ولنأخذ الأزمة الأوكرانية هنا كمثال، حيث تتبدى لنا من الوهلة الأولى ملامح الاخفاق العربي في التعامل مع تلك الأزمة، فلم نقرأ المعطيات ونضع السيناريوهات القبلية والسابقة على اندلاع الأزمة، مع أن كل الشواهد كانت تشير لحرب تلوح في الأفق، بل اكتفينا بدور المتفرج، فانتظرنا وقوع الحرب ثم بدأنا في الصراخ من تداعياتها وآثارها الكارثية علينا، هكذا هي آلية تعاملنا مع كثير من الأزمات الني حدثت قبلها.

كما لم نتمعن جيداً مردودها على الصراع العربي الصهيوني سواء على الداخل الصهيوني، أو الداخل الفلسطيني، أو الصهيونية العالمية في تأييدها للكيان الصهيوني، أو الموقف العالمي: الرسمي أو غير الرسمي من هذا الكيان الغاصب ومدى تأثره بتلك الحرب.

وكذلك إمكانية تشكل وانبثاق تحالفات جديدة من رحم تلك الأزمة وكيف يكمن توظيف ذلك في خدمة قضيتنا الفلسطينية.

وأخيرًا يبقى تساؤل مركزي يطل برأسه من وحي تلك الدراسة، هل حقًا أن المجتمع الإسرائيلي،وكما يذهب البعض، هو مجتمع معقد ولا يمكن التنبؤ بسلوكه، إذ تحكمه عوامل داخلية وخارجية كثيرة؟ وأنه انطلاقًا من هذه الرؤية لا يمكن الجزم بمستقبل الصراع العربي الإسرائيلي اعتمادًا على تحليل معطيات هذا المجتمع؟

نعم إن المجتمع الإسرائيلي ـــ ككل المجتمعات الإنسانية ـــ هو مجتمع معقد تعقيد الظاهرة الإنسانية ذاتها؛ فلا يمكن بأية حال تحليلها في سببية بسيطة أو أن تؤدي نفس المقدمات لذات النتائج دائمًا, إن هذا يمكن أن ينطبق على العلوم الطبيعية, أما في  الظواهر الإنسانية؛ فالأمر جد مختلف, وأكثر صعوبة, وهي الصعوبة التي تزداد بازدياد تعقد هذه الظاهرة وذلك المجتمع كما في المجتمع الإسرائيلي موضوع دراستنا هذه.

ومع هذا كله فإن دراسة المجتمع الإسرائيلي بشكل معمق اعتماداً على مناهج وأدوات الدراسات المستقبلية الحديثة هي ضرورة ملحة، باعتبار أنه يمكن بناء أكثر من سيناريو ـــ وليس القطع بسيناريو واحد ـــ لمستقبل هذا المجتمع , وبالتالي محاولة التدخل لتحقيق سيناريو بعينه, واستبعاد وتحييد الآخرين.

تلك هي القيمة الحقيقية من وراء مثل هذا النوع من الدراسات, أن تنطلق من الماضي والحاضر وعينها دائمًا صوب المستقبل.

وفي التحليل الأخير يبقى القول أن توظيف الدراسات المستقبلية فيما يتعلق بمجريات الصراع العربي الصهيوني قد بات فعلاً مصيرياً، إذ من شأن تلك الدراسات أن تقودنا إلي اقتراح أكثر من سيناريو ثم وفي لحظة ما يتم تبني سيناريو بعينه لمستقبل هذا الصراع ومن ثم الدفع نحو إنفاذه في عالم الواقع دون أن نقبع في موقع المدافع ورد الفعل دائما وأبداً.

فإذا ما أردنا أن نتحكم في خيوط هذا الصراع ومن ثم دفعه للوجهة التي نريد علينا ألا نظل ننظر تحت أرجلنا ولا خلفنا، بل نعمد إلى تكوين رؤية عامة وشاملة، رؤية بعين طائر، للمشهد ككل وتوقع حركته المستقبلية عبر دراسة كافة السيناريوهات المتوقعة ومن ثم إمكانية دفعها للوجهة التي نتغياها.

وفي النهاية فإن ما يبعث الأمل ويُبقي جذوته مشتعلة في أعماقنا هو أن كثير من الدراسات الصادرة من داخل الكيان الصهيوني ذاته قد أكدت احتواء هذا الكيان الغاصب على عوامل تفجيرية كامنة في أحشائه، فقط تنتظر الفعل المُحفِّز للدفع نحو تسريعها، بل أكد كثير من المفكرين اليهود أن إسرائيل أشبه بسفينة (تيتانيك) وقد أوشكت على الاصطدام بجبل الجليد لتكون النهاية، فالاحتلال وكما يؤكد مفكرنا جمال حمدان سيبقى جملة اعتراضية في حياة الشعوب.

***

دكتور محمد عمارة تقي الدين

.............................

* للمزيد بشأن الدراسات المستقبلية راجع كلًا من:

مجلة إستشراف للدراسات المستقبلية، الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عدد 2016م ، ومحمد إبراهيم منصور: توطين الدراسات المستقبلية في الثقافة العربية، الصادر عن وحدة الدراسات المستقبلية، مكتبة الإسكندرية، القاهرة،2016م

 

في المثقف اليوم