آراء

بَغْدَاد.. سَرقةُ الدَّهرِ العّارُ والشَّنارُ!

لم أعتد وضع إهداءٍ في كتابٍ، إلا «لُصوص الأموال والنُّصوص»، أهديته: «إلى لُصوص العِراق المتقدمين منهم والمتأخرين»، والإهداء شمل لُصوص ما أذيع بـ«سرقة القرن»، وسأسميها «سرقة الدَّهر»، وعُذري ما قاله أبو هلال العسكريّ (ت: 400هج) القَرن «مَن يكون مِن النَّاس في مدة سبعين سنة» (الفروق اللُّغويَّة)، ثم جُعلت مئة سنة. بمعنى سيذهب خبرها مع ذهاب النَّاس. لكنَّها تستحق اسم «الدَّهر»، حاوي القرون والأوقات.

أعلن السَّرقة رئيس الوزراء محمَّد السُّودانيّ، كان الإعلان استجابةً، لكثرة المنكوبين الذين يفضحون ما يُخلس عنه، فال ماءٍ كان في فمِ وزير الماليَّة المستقيل، وفمِ رئيس وزراء تصريف الأعمال، منعهما مِن كشف ما خُطط ونفذ في وقتهما. هل سكتا مجاملةً للفاسدين أم خشية اغتيال، أو تورط ما لهما، فتجميد الرّقابة في زمن الفساد يُعد مشاركة في سرقة الدَّهر؟

كان المبلغ، حسب السُّوداني، ثلاثةَ تريليونات وسبعمائة وأربعة وخمسين ملياراً وستمائة واثنين وأربعين مليوناً وستمائة وأربعة وستين ألف دينار عراقي، قيمتها نحو ثلاثة مليارات دولار. كنا نسمع بالتِّريليون لحساب مسافات الفضاء، لا لعدِّ النُّقود! إحدى الشَّركات السَّارقة اسمها «القانت»! ومعلوم ما «القنوت»، ففي الكتاب: «وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ» (الأحزاب: 35). هذا نموذج للتمادي في توظيف الدِّين واستغلاله.

قصدت «سِرقة الدَّهر» أموال الضّرائب، بعد إلحاح اللجنة المالية في البرلمان لتسهيل الإجراءات، بتجميد دور الرّقابة المالية، اعتمدته وزارة لتَّصريف بأريحية، ولتخفيف الصَّدمة ظهر السُّوداني معلناً استرجاع مقدار جزئي، فصار الخبر بمثابة نُكتة على ألسنة المسروقين، شأنها شأن التّصريحات وراء كلِّ عملية اغتيال تقوم بها ميليشيات (المقاومة والممانعة)، وفي العمق يؤخذ رأي ميليشيا بلبنان، وانتظار ما يأمر به قيادي الميليشيا محمد كوثرانيّ، ولتكذبنا وزارة التَّصريف!

حاولتُ إيجاد قرينة في التَّاريخ لسرقة الدَّهر، لتبرير إهداء كتاب «اللُّصُوص»، وجدتُ أخطر سرقتين لبيت المال، الأولى بسامراء (231هج)، أيام الواثق بالله (ت:232هج): «نَقبَ قومٌ مِن اللُّصُوصِّ بيتَ المالِ، الذي في دار العامة، في جوف القصر، وأخذوا اثنين وأربعين ألفاً مِن الدَّراهم، وشيئاً مِن الدَّنانير يسيراً، فأُخذوا بعدُ، وتتبع أخذهم يزيد الحلواني، صاحب الشُّرطة»(الطَّبري، تاريخ الأمم والملوك).

حصلت الثَّانية ببغداد لرَواتب الجُند، فهدد المعتضد بالله (ت: 289هج) رئيس الحرس: «هذا المال للسُلطان والجُند، ومتى لم تأتِ به أو بالذي نقبه وأخذ المال، ألزمك أَمير المؤمنين غرمه» (المسعوديّ، مروج الذّهب). أتي بمشتبهٍ به، حقق الخليفة شخصياً معه، فاعترف، والخليفة يريد أعوانه. أُخفي المال تحت أكوام وقود الحَمَّام.

كانت الأخيرة أُمَّاً للصُوصية بنك «الزُّوية» (7/2009) ببغداد، مِن قِبل حماية نائب رئيس جمهورية وقيادي في المجلس الإسلامي. وبدلاً مِن وقود الحَمَّام أخفيت السَّرقة تحت طاولات صحيفة، اسمها يشع بالحقِّ: «العدالة»! مثلها مثل شركة «القانت»، وزاد المتأخرون بقُتل حراس «الزُّوية»، لتجري محاكمة هزلية، وصلتني رسالة مِن ذوي حارسٍ مقتول، شارحاً ما جرى.

قال لِّصٌ: «لَمْ يخلُقِ اللهُ شيئاً كُنتُ أُبغِضهُ/غيرَ العُجوزِ وغَيْرَ الكَلبِ والقَمرِ/هذا نُبوحٌ وهذا يُستضَاءُ بهِ/وهذهِ شَهلةٌ قوَّامةُ السّحرِ»(المعريّ، الفصول والغايات). هذا عند المتقدمين، أمَّا المتأخرون فلا ضوء قمرٍ يخشون ولا صلاة سحر يهابون، أتباع رؤساء جماعات عابثة وأحزاب لها بيوت أموال، خزائنها السَّرقات، والقول للفرزدق (ت: 110هج): «وإنَّ أبا الكرشاءَ ليس بسارقِ/ ولكنّه ما يَسرقُ القَومُ يَأكلُ» (التَّوحيديّ، الإمتاع والمؤانسة). كانت «سرقة الدَّهر» تتويجاً لكبائرَ، عارٌ وشنارٌ كافة. أقول: أليس مِن حقّ النَّاس تصديق سرقة جسر مثل جسر المسيب؟!

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

 

في المثقف اليوم