آراء

الاستيلاء على الدولة

على رجل السياسة أن يشارك في الشأن العام خلال دورة واحدة أو دورتين فقط، ثم يعود لحياته الخاصة، اما استمرار تمسكه بالكرسي لعدة دورات فمن شأنه أن يجعل من تجاوزه للقوانين التي سنها امرا اعتياديا.

من المؤسف ان اغلب من يتمكن من الاستحواذ على موقع متقدم في الحياة العامة سواء موقع وزاري او برلماني او اداري يظل متمسكا به الى اخر رمق، بل تتوقف الحياة عند استبعاده عن ذلك الموقع، وربما يلوث الحياة السياسية بالافكار السلبية انتقاما على فقده المنصب، او على عدم اختياره من قبل الناخبين.

حتى ان قضايا ملحة مثل التجديد وتحسين انتاجية العمل وسواها من الافكار المطروحة لتقدم المجتمع والدولة تتعثر بسبب استيلاء بعض الشخصيات على المناصب العليا لمدد متتالية ورفضهم التنازل عنها طواعية للغير، والتعامل مع الموقع كملكية خاصة ومغانم شخصية.

ثمة جدل طويل حول هذه الفكرة، هناك من يعتقد بأن التطوير يرتبط بالضرورة بالثبات واحتكار المناصب، استنادا الى ان الخبرة المتراكمة تلعب دورا اساسيا في اداء المهام الموكلة الى الفرد.

على سبيل المثال فان النائب في الدورة البرلمانية الاولى يطغى على اداءه طابع الاستكشاف لدهاليز الاداء البرلماني ومجالات العمل، وفرص التفاوض مع الحكومة، ويبدء في الانتاج العملي والمساهمة الفعلية في الدورات التي تليها.

وفقا لهذه الفكرة تعتقد شريحة من المجتمع بانه من الظلم المسارعة في الحكم على اداء اي وزير او قيادي او نائب داخل مجلس الامة خلال الدورة الاولى من عمله، وان الانصاف يقتضي منحه فرص جديدة وربما أكثر.

يعتقد انصار فكرة الثبات وعدم التجديد ايضا ان التعامل مع اشخاص محددين نعرفهم افضل من تغييرهم بافراد جدد تحمل تجربتهم شيئا من الغموض والابهام، حتى لو كانت عثرات القديم كثيرة، ولو كانت البدائل أفضل، ويقتنص هؤلاء عادة فرصة فشل النموذج الجديد لاثبات صحة رأيهم.

بينما يعتقد اخرون ان التجديد سنة من السنن الكونية، وان تغيير الوجوه يعني تغييرا في زوايا النظر ، وابعاد العمل، والتي تؤدي بالضرورة الى فتح افاق جديدة في العمل المؤسسي بشكل عام، اضافة الى ما يبثه التجديد من حماسة لازمة للبقاء في صدارة العمل، وتطويره وتحسينه.

والراجح ان التوفيق بين كلا الفكرتين هو الاصوب، فمن الطبيعي ان تفعيل الافكار والخطط والبرامج يتطلب حيزا من الوقت، اذ لا يكفي الحكم على اداء اي شخص خلال فترة وجيزة لا سيما في مجتمعاتنا العربية المتخلفة اداريا وسياسيا، ومن الطبيعي ان حتى رجال الاصلاح يواجهون حزمة من المشكلات التي تعيق عملهم وتؤخر او توقف انجازاتهم.

لكن في ذات الوقت لا يمكن قبول بقاء الفرد في المنصب لمدد زمنية مديدة، فمن شأن ذلك ان يخلق مشكلات خارجة عن حدود الفرد، وتدخل في حيز انتهاك حقوق ومصالح المجتمع، من قبيل نمو شبكات المصالح والشللية حول الموقع القيادي، والتي تتكاثر وتتوسع عادة بالفساد، وهي اشبه بالمياه الآسنة المتعفنة التي يمضي عليها الزمن دون ان تتجدد من الينبوع.

بل ان مجرد شعور الفرد بانه متمكن ومستقر في موقع ما هو كاف لانسياقه في تأمين حياته الخاصة، و.بدلا من ان يسخر الموقع الوظيفي او السياسي في خدمة المجتمع وتلبية احتياجاته، فانه يستغله في تحقيق مكاسب شخصية ومحدودة في حيزه العائلي الضيق.

وبتتبع سيرة عدد من القياديين او البرلمانيين الذين مضى على وجودهم سنوات مديدة فغالبا ما يكون المشترك بينهم انهم يخالفون القوانين واللوائح التي اقروها هم في السنوات الاولى من حياتهم العامة، في مفارقة غريبة ولكنها تكاد تكون مستقرة عند اعضاء السلطتين التنفيذية والتشريعية العرب.

من جهة أخرى فان انجاز الاصلاح لا يقتضي بالضرورة ان يستقر الاشخاص في اماكنهم القيادية لفترات طويلة، فتميز القيادي وانجاز الوزير ونجاح البرلماني يتضح من خلال طبيعة وجودة اداءهم في الاشهر الاولى من تكليفهم بالمسؤولية.

تشير التقارير الى القفزة الهائلة التي حققتها سنغافوره خلال سنوات قليلة من تصنيفها كأكثر الدول تخلفا وتبعية الى اكثرها تطورا وعصرية وذلك عبر  تبني نظام الجدارة الذي ابدعت فيه وجعلها في مصاف البلدان المتقدمة.

ترسم تجربة سنغافورة طريقا واضحا نحو النهوض والتنمية، وتعلن بأن مكافحة الفساد والسباق مع العصر، وتغيير موقع الدولة التنموي والرتبة الاجتماعية للمواطن ليست اسرارا حربية، وانما هي سياسات تنموية، وادارة بارعة.

 يتحدث مؤسس النهضة السنغافورية (لي كوان يو )عن نظرة الدولة للمواطنين واستراتيجية التعامل معهم: ” سواء كان والدك وزيرا أو محاسبا أو خبيرا محترفا أو عاملا عاديا أو سائق سيارة أجرة أو بائعا متجولا ، فإن موقعك وموقفك يعتمد فقط على أدائك وحدك في العمل".

بينما تسير  فكرة التجديد داخل مجتمعاتنا بخطى متعثرة، فابن الوزير وزير، وابن القاضي قاضي، وابن المدير مدير، وابن القيادي قيادي، ولهؤلاء تُفتح الفرص وتتعدد الخيارات، وتُجير القوانين، بينما تُغلق امام غيرهم خشية من اثار التغيير ومتطلبات التجديد.

وتنحصر المناصب السياسية والاقتصادية العليا داخل الدول العربية في اسماء محددة من ابناء الاسر الحاكمة والاسر التجارية والثرية، حتى لو كانوا من ادنى العقول في مجتمعاتهم وأكثرهم بلادة، فالاولوية في الدول العربية هي لفكرة الاستحواذ والاستيلاء، بينما في الدول الناهضة الاولوية لفكرة الانجاز والعطاء.

وحتى نتمكن من الاصلاح السياسي والوظيفي في العالمين العربي والاسلامي فينبغي ان نخفف مخاوفنا من الافكار الجديدة، والخطوات التجديدية بما فيها تغيير الوجوه والعقول، والايمان بفكرة تداول السلطة.

على القادة العرب ان يتخلوا عن نرجسيتهم في الحكم والادارة، وان يتحركوا طواعية في اتجاه التغيير او التخلي عن مناصبهم، والبحث عن عناصر كفوءة تحلل الافكار، وتقرأ التحولات، وتقود المشهد السياسي، بغض النظر عن ترتيبها الاجتماعي.

ربما تكون هذه المهمة صعبة جدا على القيادات السياسية في الدول العربية، التي اعتادت احتكار المناصب والاستيلاء على الدولة، والتعامل معها بوصفها ملكية خاصة، لكنه مسار التجديد، وسنن التغيير، فهي ولادة جديدة قادمة لا محالة وإن كانت متعسرة .

***

احمد شهاب

 

في المثقف اليوم