آراء

هواري بومدين كما كانت تراه جمعية العلماء المسلمين

هواري بومدين لم يكن سياسيا بل كان واحدا من الشعب، يشهد على ذلك البسطاء وسكان الأرياف الفئة التي كانت أكثر ضررا جراء ما فعله المحتل، فهو يعلم أنها مناطق فلاحيه تمثل مصدرا للتموين الغذائي بشكله البسيط المنحدر من موروث ثقافي اقتصادي عريق، فخطابه لم يكن مؤدلجا غير أن سياسة القطب الواحد التي كان له السبق في محاربتها، وبالتالي وجد نفسه مضطرا لتمليح عزيمة المواطن الجزائري بالاشتراكية كجملة من الأفكار الاقتصادية تناغما مع المعسكر الشرقي بالمسمّى القديم (الاتحاد السوفياتي) الذي هدم الغرب بنيانه بأيدي صحوة مريضة (مع الأسف) بعد نجاح فرنسا والمُفرنسين وبقايا أعوانها في حملتهم بأنه ديكتاتور، الحملة التي نجحت في الجزائر وفي مصر لكنها لم تنجح في العراق وسوريا وليبيا حيث تدخل الغرب بشكل مباشر لاستكمال الإطاحة بمن تعتبرهم أقطابا مناهضة، اعتبارا أنهم نشطاء لإثراء أفكار القطب الشرقي البديل تحت زعامة روسيا، ولا تزال روسيا إلى هذه اللحظة تدفع ثمن تماهيها مع الدول التي تناهض القطب الغربي المهيمن، غير أن بومدين استحدث دمجا غير مسبوق بين الاشتراكية وبين مصطلح (التويزة) في شكله البسيط، وتوظيف فعل الشراكة كمفهوم لغوية على تماس مع ما يطرحه الفكر اشتراكي الذي لم يكن الشعب - ذلك الوقت - مؤهلا لفهم عمقه الفلسفي، ومن ذلك امتد إلى صياغة المواطن المغاربي ومنه إلى الأفريقي، وكاد يصنع معسكرا موازيا لكل من المعسكرين الشرقي والغربي (القطب الشمال أفريقي) ليحضر هواري بومدين في مجلس الأمن الدولي بقرارات وأفكار وأطروحات مختلفة عن المعهود، ولعل خطابه في مجلس الأمن سنة 1975 لدليل على ذلك، حيث بدأ كلمته بالبسملة والصلاة والسلام على سيدنا محمد في سابقة كانت أولى ومع الأسف كانت أخيرة، حينئذ خاف الغرب على قراراته من خطاب اعتبروه ذلك الوقت متطرفا وإرهابيا، لأن هواري بومدين كان يعرف أن سياسة الغرب لم تستفد منها القضية الفلسطينية بشيء، حيث قرّر قيام الدولة الفلسطينية الافتراضية بجميع تفاصيلها، إلى جانب ذلك رأي أيضا أن الخطاب الغربي لم تستفد منه الشعوب الخارجة حديثا من وطأة الإحتلالات المتعاقبة والمختلفة (فقر، أمراض، أوبئة، ألغام، ثروات منهوبة، لغة منهارة، ثقافة مهترئة، دين مشوه بالفتن والشعوذة ومختلف الطرق.) فشكل جبهات للصمود بالتنمية الاقتصادية عبّرت عليها تظاهرات عيد العمال في الشوارع الجزائرية ثم سارت على أثرها كثير من الدول العربية.

هواري بومدين كانت له تجربة سابقة في الدفاع عن الجماعة كمفهوم ديني قريب من الفهم العام بما يتوافق مع نسبة كبيرة من الأمية تجنبا للشرخ الموجود الآن، فهو من أسس الصحوة في جانها العلمي العملي البناء المفيد، وليس بما هو سائد الآن من خطابات داعية إلى التفرقة والتبضّع وإثراء الجماعات والطوائف والفرق والأحزاب.. هواري بومدين شكل خطرا فعليا على وجود المحتل كوكيل اقتصادي بعد أن زعم انسحابا سياسيا ملغّما بتبعية شنيعة القبح، فقرار تأميم المحروقات قرار لم يمر على السياسة الفرنسية الانتهازية بسهولة.

هواري بومدين هو من جمع بين فرقاء الدين، وفرقاء الفكر، وفرقاء الفلسفة، وفرقاء الثقافة، وفرقاء السياسة، في نشاطات ثلاثية شهيرة بنجاحه في بناء اتحاد مغاربي، ومنه إلى صرح شمال أفريقي، ومنه إلى توحيد المرجعية الفقهية بما كانت تطرحه ملتقيات الفكر الإسلامي، أيامها كانت ملتقيات أدب المرأة والكتابة النسوية على (قدم وساق) فوق منصّات ولاية الجلفة بالشكل الذي كان متعارفا عليه (سلبا) لدى العامة، هذه العامة التي اختلط عليها الأمر بين انشغالات ملتقى (أدب المرأة) الذي كان من المفروض أن يكون فكرة متقدمة، وما كان منوطا بالاتحاد النسائي أن يقدمه به من نشاطات على الصعيد السياسي والاجتماعي، حينها كنا نرافق حضورا ومشاهدة ملتقيات الفكر الإسلامي التي كانت تجوب الوطن إلى جانب (سيرك عمّار) كهامش للتسلية والنقاهة في خضم ما كانت تدعو إليه سياسة بومدين من بناء وتشييد (الثورة الزراعية، السد الأخضر، ألف قرية اشتراكية).

هواري بومدين كان يفرق جيّدا بين ما هو معتدل في الصحوة الإسلامية، وبين ما هو متطرف أو ملتبس أو متخلف، بدليل أنه نفى الكثير ممن كانوا يعتبرون أنفسهم إصلاحيين، ولأنه كان أيضا يفرق جيّدا بين ما هو ثقافة عند قبائل الأمازيغ وبين ما هو خرافات وخليط بثقافات دخيلة، ويفرق أيضا بينما أصالة تاريخية وما دجل ومس شيطاني من طريف سياسة فرنسية كائدة ويهودية عريقة في مؤامراتها، بدليل أنه نفى كثيرا من الشخصيات التي أعلنت فيما بعد بشكل صريح فكرة الانفصال، هواري كأنه قد تنبأ بالغوغائية الموجودة الآن على أصعدة دينية وثقافية وفنّية.

هواري بومدين استطاع أن يخرج من الضغط الدولي الذي ألزمه بعودة الّلاجئين الذين كانوا مزجا من اليهود الذين كان الكيان الصهيوني يحافظ على حياتهم، ومن المواطنين الجزائريين الذين تخلوا عن الثورة بما عُرف بالأقدام السوداء، فعاملهم مقتديا بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقبل برجوعهم مع الاشتراط عليهم أن يظلوا موظفين عاديين، فمنع عليهم الترقية إلى مسؤوليات تنفيذية في الدولة توقيرا للشهداء والمجاهدين، أولا عقابا للجزائريين بسبب تخلّيهم عن الثورة، وثانيا لأنهم قد اُشربوا بلهجة واحدة، فلا تعرف اليهودي منهم من الجزائري الأصل، فهجّن الطرفين بالمصطلح الشهير (نصف مواطن) وكان ذلك بمثابة الدهاء السياسي، لكن بعد (رحيله) اختلط الحابل بالنابل ودخلوا قبّة البرلمان وحتى إلى سدة الحكم. بناء على ذلك فالمواقف الميدانية الفعلية الحيّة هي التي تقّدس المرء وليست تلك الانفعالات الزائفة التي لا تخرج عن الخطاب اللغوي والأناشيد وابتكار الشعارات، أو في التشيّخ المجمل في مظهر خلاب المتوقع في كوة من البياض والعطر، فلا يعدُ ورشة لصناعة الفتوى في نمطها المتعنصر الفاتن المبتذل الاستعمال من طرف دول معادية بالشكل الذي يثير الحذر الآن.

***

عبد الباقي قربوعه

في المثقف اليوم