آراء

الباحثة ريفا سبيكتورسيمون والأصول العسكرية للطغيان في العراق

كتبت أستاذة التاريخ في جامعة يشيفا الأمريكية كتاباً حول هذا الموضوع المهم "العراق بين الحربين العالميتين / الأصول العسكرية للطغيان" بترجمة مهند طالب الحمدي، جمهورية العراق / وزارة الثقافة والسياحة والآثار ـ دار المأمون للترجمة والنشر بغداد ط1 2022

سيتصور القارىء للوهلة الأولى ـ  كما حدث مع كاتب هذه السطور ـ أن البحث مُختصٌ بحركة رشيد عالي الكيلاني 1941، أي أن الباحثة ستُسَلّط الضوء عليها لتخرج بنتيجة تُدينها وتكتشف "الأصول العسكرية للطغيان في العراق". لكن ما إن يبدأ القارىء بالكتاب حتى يتبين أن هذه النظرة كانت قاصرة وبشدة! فعمل سيمون إمتد بعيداً جداً، الى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، أي العهد الحميدي "السلطان عبد الحميد"، فكان عملها "أركيولوجياً" بإمتياز. حفرٌ عميق في التعاون العثماني الألماني في المجال العسكري، وما أدى إليه هذا التعاون من زرعٍ للروح القومية الألمانية في نفوس الضُباط العراقيين عندما كانوا ضُباطاُ عثمانيين، وبعد أن أصبحوا ضمن المملكة العراقية الحديثة التي أسّسها البريطانيون في  عام 1921.

يُقال دائماً بأن 14 تموز 1958 هي من أسّست لتدخل العسكر في السياسة وفتحت المجال واسعاً أمام الضُباط لولوج حقل السياسة، وما نتج عنها من تسلطٍ عسكري وطغيان لم يشهده العراق سابقاً. ونحن بدورنا قد أثبتنا تهافت هذا الرأي في الكثير من كتاباتنا السابقة (1)، لكن سيمون اليوم قد جاءتنا بإكتشاف جديد ومُذهلٍ فعلاً. فتدخل العسكر ـ كما هو معلوم ـ في العمل السياسي قد خرج من رحم الملكية العراقية، إنقلاب الجنرال بكر صدقي في عام 1936 ضد حكومة ياسين الهاشمي، هو أول إنقلاب عسكري في العراق والمنطقة. لكن سيمون قد أضافت تفسيراً جديداً من خلال طرح سؤال مركزي في البحث:

لماذا بدأت مجموعة من ضباط الجيش الذين سيطروا على الحكومة العراقية في عام 1941 بشنّ حرب كارثية عقيمة ضد بريطانيا العظمى؟ ولماذا رفض هؤلاء الضُباط القيم الديمقراطية والليبرالية البريطانية وإتجهوا بدلاً من ذلك نحو ألمانيا العسكرية؟ ص9

وتُرَكّز سيمون كثيراً على التعليم (هو المفتاح لتحليل أسباب الإرتباط الألماني ـ العراقي في عام 1941، والذي يُعدّ في جوهره تتويجاً لعملية بدأت قبل الحرب العالمية الأولى) ص10

وهذا ما دفع ناشر الكتاب الى القول: (يتميز هذا الكتاب الذي تضعه دار المأمون للترجمة والنشر بين أيدي قُرّائها بأنه من الكتب النادرة التي تُخَصّص حيزاً مُهماً لدور التعليم في بناء الدولة العراقية وتأثيره في غرس الأفكار القومية وبالنتيجة التحكم بتوجهات الجيل الجديد وببوصلة توجهاته السياسية) ص6، وقد ركّزت سيمون بإسهاب على تجربة المربي الكبير الأستاذ ساطع الحصري في العراق وما نتج عنها لاحقاً.

تمتدّ جذور "الطغيان العسكري" بعيداً الى ما قبل تأسيس الدولة العراقية كما أسلفنا، بل إن هذا الطغيان سيمتدّ في المستقبل بعيداً أيضاً - وهذا ما يُحسب للتحليلات السيمونية بكل تأكيد -، الى توتاليتارية حزب البعث ودكتاتورية صدام حسين!

تحليلٌ عميق ونظرات بعيدة فعلاً، فالطغيان العسكري لم يُولَد في تموز 1958، بل كان موجوداً في الدولة العراقية الملكية، ويسير بصوتٍ عالٍ في ثلاثينيات القرن الماضي، وبصمتٍ وخنوعٍ في ما بعد 1941، الى أن كشف عن وجهه في 1958. وقد نقلت سيمون حادثة لها مغزىً كبير هنا:

أصبح الضُبّاط مع إقتراب نهاية الثلاثينيات بؤرة للإقتتال السياسي الداخلي، إذ كان رشيد عالي الكيلاني ونوري السعيد يُغدقان عليهم النبيذ والأكل والويسكي، ويتنافسان على الحصول على دعمهم السياسي ص133.

(ساسة الملكية الكِبار يُغازلون ضباط الجيش للحصول على دعمهم! فهل فعلاً كان الجيش بعيداً عن السياسة كما يُشاعُ غالباً من قِبَلِ الملكيين؟!)

غنيٌ عن القول بأننا لا نؤيد جميع ما أثبتته سيمون، وإلاّ فهي تنقل عن الإستخبارات البريطانية أن 95% من العراقيين مؤيدون لألمانيا في عام 1942 ص50، أي أن المشروع "الديمقراطي الليبرالي" البريطاني قد فشل في العراق! ولعمري فهذه إجابة على ما جاء في سؤالها المركزي المذكور أعلاه! وهو سبب مهم في الإتجاه لألمانيا، فعدو عدوي صديقي كما يقول المثل الذي ذكرته سيمون نفسها في ص9

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

.....................

1- مثلاً مقالنا الموسوم: 14 تموز 1958 يوم خالدٌ في تاريخ العراق المعاصر، المنشور في هذه الصحيفة الموقرة بتاريخ 10 شباط 2023

 

في المثقف اليوم