آراء

قراءة في خطاب بوتين بمناسبة ذكرى نشوب الحرب الأوكرانية

هذه قراءة تحليلية لخطاب الرئيس الروسي فلادمير بوتين السنوي المنتظر الذي القاه يوم أمس الثلاثاء بمناسبة مرور عام على نشوب الحرب الأوكرانية أمام الجمعية الفيدرالية وبحضور جمع غفير من العسكريين، وتواجد رمزي صيني تمثل برئيس مكتب لجنة الشؤون الخارجية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني وانغ يي.

وقد بدا بوتين -كعادته- في خطابه ثابتاً متماسكاً مستقراً جاداً ذا رؤية ثاقبة وهو يستعرض استراتيجية روسيا الشاملة ذات المحددات الواقعية دون شطح للخيال أو التضليل، مؤكداً على الأسباب التي دفعت بروسيا إلى هذه الحرب الضروس، فَيُسْتَشَفُّ من عباراته المحددة والمركّزة إيمانه بالنصر الحتمي الذي لا تقبل روسيا غيره.. ملوحاً بالخيار النووي من خلال إعلانه تجميد روسيا لاتفاقية ستارك 2 التي أعيد تفعيلها في 25  مارس 2010 والتي تتضمن خفض نسبة الأسلحة الإستراتيجية الهجومية والتحكم بنسب تحريك ونشر الأسلحة النووية.. وهي رسالة مقلقة للغرب.

وأوضح في خطابه الذي جاء بعد نحو عام من بدء هجومه العسكري في أوكرانيا أن تدفقات المال الغربية للحرب لا تنحسر، وأن الغرب أخرج المارد من القمقم، مؤكدا أن "النخب الغربية لا تخفي هدفها: إلحاق هزيمة إستراتيجية بروسيا، أي القضاء علينا مرة واحدة وإلى الأبد".

فقد انتهج بوتين في خطابه لغة التحريض القائمة على القومية السلافية والدين المسيحي الأرثوذكسي ضد الخطر الغربي الداهم الرامي إلى تقسيم الاتحاد الروسي، قائلاً في سياق ذلك:

“نحن أصحاب حق، وسنقاتل حتى النهاية لإستعادة هذا الحق وتحقيق النصر”، وهو مؤشر إلى أن قرار الحرب مُبَرَّرْ فيما لا يمكن وقفه إلا وفق الشروط الروسية الضامنة لحقوق الروس في شرق أوكرانيا والقرم.

وللتذكير فقد أعلن بوتين منتصف سبتمبر 2022 ضم أقاليم لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون الأوكرانية بالإضافة إلى القرم للاتحاد الروسي، فيما يواصل الجيش الروسي تقدمه في كافة الجبهات، وقد أوشكت مدينة باخموت الأوكرانية على السقوط بيد قوات فاغنر الروسية التي تخوض مع الجيش الأوكراني المحاصر حربَ شوارع ملحمية.

وحاول بوتين في خطابه تبرير خطوته الاستباقية في الحرب التي نشبت في 23 فبراير 2022 من خلال استعراضه لمراحلها مشيراً إلى أن الغرب تجاهل مطالبه المشروعة في عدم قبول أوكرانيا بعضوية الناتو وضرورة مناقشة أمن أوروبا الشامل، بعيداً عن أسلوب المناورة وفق اعتراف المستشارة الألمانية انجيلا ميركل أثناء التوقيع غير الجاد على معاهدة مينسك لوقف الحرب في شرق وجنوب أوكرانيا عام 2014 مؤكدة على أنهم فعلوا ذلك لكسب مزيد من الوقت، بغية تسليح الجيش الاوكراني لكي يتصدى للجيش الروسي إذا ما اقدم على دخول الأراضي الأوكرانية.

حيث قال بوتين ذلك للتاكيد على أن أمريكا وحلفاءها، يتبنون استراتيجية تفكيك روسيا من خلال إثارة الصراعات المحلية واستثمار الحرب الأوكرانية لاستنزاف روسيا وبالتالي توسيع نطاقها من الثنائية بين روسيا وأوكرانيا -بالوكالة عن الناتو- إلى العالمية في إطار حرب نووية محتملة؛ ما يمثل تهديداً وجودياً للاتحاد الروسي مستوجباً الرد التصعيدي المناسب.

وقد أسهب بوتين الحديث في مخاطبة الغرب مؤكداً بأن الحرب الأوكرانية لن تنتهي قريباً، فيما دعا مواطنيه إلى ضرورة التعايش مع هذه الحرب وما يرافقها من حصار غربي شامل ، بغية فك الحصار وتحقيق النصر مؤكداً بكل ثقة على أنه لدى روسيا قوات احتياط قادرة على الاستمرار حتى النهاية، موحياً إلى أن إيقاف هذه الحرب يعني نهاية الاتحاد الروسي وتقسيمه.

ويستشف المراقبون من تهويل بوتين لنتائج الحرب الكارثية -فيما لو هزمت روسيا- على الاتحاد الروسي بأنه يهيء الشعب الروسي والعالم لتفهم استخدام السلاح النووي في سياق "الدفاع المشروع عن النفس بكل الوسائل المتاحة"، هذا إذا علمنا بأن المناورات الروسية المتعاقبة وكان آخرها في جنوب أفريقيا التي تشترك مع روسيا والصين في مناورات عسكرية بحرية قبالة دوربان التابعة لجنوب افريقيا على المحيط الهندي، إلى جانب إعادة انتشار منظومات الصواريخ القادرة على حمل الرؤوس النووية والغواصات التي تصول وتجول في البحر الأسود والبلطيق؛ كل ذلك يؤكد هذه النوايا التي تضمنها خطاب بوتين التاريخي بلغته التصعيدية الجادة.

وقد سلطت عدسات التصوير الضوء على حضور كبار القادة العسكرين بوجودٍ صينيٍّ ذي مغزى يتمثل بحضور رئيس مكتب لجنة الشؤون الخارجية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني وانغ يي، الذي اجتمع بالرئيس الروسي بوتين منوهاً إلى أن "الجانب الصيني سيلتزم بحزم، كما كان دائما، بموقف موضوعي وحيادي ويلعب دوراً بناء في التسوية السياسية للأزمة".

إلا أن الحضور الصيني بحد ذاته يخالف هذا الكلام ولا يعني إلا موقفاً منحازاً لروسيا.

وبعيداً عن التضليل الإعلامي الغربي من خلال الهجمة المستعرة على روسيا؛ فإن الشواهد على الأرض تؤكد نصر روسيا ميدانياً وتقدم جيشها في كافة الجبهات وإسقاطه الوشيك لمدينة باخموت، وحفاظ الروس على الاستقرار الاقتصادي من خلال تدفق عائدات الطاقة الروسية على الخزينة وثبات الروبل النسبي نتيجة السياسة الحكيمة للبنك المركزي الروسي التي لم تتأثر سلبياً وفق ما سعت إليه الاستراتيجية الغربية خلافاً للتضخم الذي أصاب دول حلف الناتو وعجزها عن انتاج الأسلحة والذخائر التي استنفدت في الحرب الأوكرانية حيث تُشَبَّه مجازاً بالثقب الأسود.

وقد أبدت روسيا تفوقها على خصومها الغربيين في تعويض نقص السلاح والذخائر والتحكم في مجريات الحرب الإلكترونية مع أن روسيا لم تضع كل ثقلها في الحرب التي من الممكن أن تتحول إلى حرب نووية تكتيكية أو شاملة؛ لو أن قادة الغرب لم يلتقطوا رسائل بوتين ممعنين في حشر روسيا بالزاوية.

فالحرب -تقليدية كانت أو نووية- تبدأ عادة بشرارة صغيرة حتى تأكل نيرانها الهشيم في لحظات.. فهل أصاب قادة الغرب العمى ليظلوا في غيهم يعمهون أم يستجيبوا لصوت العقل باعتماد خيار المفاوضات!

***

بقلم بكر السباتين

22 فبراير 2022

 

في المثقف اليوم