آراء

الناجون من الزلازل.. هل تدرون ماذا سيعانون؟!

توطئة: بلغ عدد القتلى الناجم عن الزلازل المدمرة التي ضربت تركيا وسوريا فجر السادس من (شباط/فبراير 2023) بقوة (7.8) على مقياس ريختر، اكثر من (46) ألف قتيل بواقع (40642) في تركيا و(5800) في سوريا، واكثر من (25) مليون متضررا بلا مأوى، وذلك لغاية (18 / 2/ 2023)، وفقا لـ بي بي سي، ليرتفع العدد الى 47 الف قتيل بعد آخر زلزالين في (19 / 2/2023).

ومع ان العالم العربي والدولي قدم المساعدات المطلوبة، غير ان الجميع لا يخطر على بالهم ما سيحصل للناجين والذين سحبوهم من تحت الأنقاض، والذين شهدوا انهيارات العمارات والأبنية، وحالات الرعب والهلع الجماهيري.. من اضطرابات نفسية شديدة بعد انتهاء الحدث بأشهر وحتى سنوات!. وهذا ما سنتحدث عنه ونقدمه الى وزارات الصحة في تركيا وسوريا والعالم العربي، والى أسر واقرباء ومحبي الذين سيعانون حالات نفسية شديدة.. بعضها ينتهي بها الحال الى الأنتحار.

البداية.. حرب فيتنام

يواجه الإنسان في حياته اليومية ضغوطاً نفسية متعددة.ويعني الضغط (stress) أحداثا خارجة عن الفرد، أو متطلبات استثنائية عليه، أو مشاكل أو صعوبات تجعله في وضع غير اعتيادي فتسبب له توتراً أو تشكل له تهديداً يفشل في السيطرة عليه.

ولقد جرى تشخيص هذه الاضطرابات ودراستها بصورة منهجية تبعاً لوضوح أعراضها وشيوعها، والتقدم العلمي في مجالي علم النفس والطب النفسي. ويمكن تحديد " الهستيريا " بوصفها أول اضطراب من مجموعة الاضطرابات التي تعقب الأحداث الضاغطة يتم دراسته وتوصيف أعراضه بصورة منهجية، فيما يعد اضطراب ما بعد الضغوط الصدمية( Post Traumatic Stress Disorder – PTSD) آخراضطراب في هذه المجموعة يتم الأعتراف به في التصانيف الطبية النفسية.

ويعود السبب الرئيس في تعرّف هذا الاضطراب بالوصف الذي عليه الآن إلى الحرب الفيتنامية .فقد لوحظ في السبعينات (1970) على الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في حرب فيتنام أعراض اضطراب ما بعد الضغوط الصدمية، وذلك بعد تسعة اشهر إلى ثلاثين شهراً من تسريحهم من الخدمة العسكرية . وقد أثارت هذه الملاحظة دهشة الباحثين، فالمتوقع هو حصول أعراض هذا الضغط في أثناء المعركة أو بعدها بأيام، وليس بعد انتهاء الحرب بسنتين أو ثلاث!. بل أن قسماً من اولئك الجنود ظلوا يعانون أعراض هذا الاضطراب بعد مرور اكثر من ربع قرن على تلك الحرب، تقدّر الدراسات عددهم بنصف مليون من الجنود الذين شاركوا فعلاً في حرب فيتنام!

وقد وصفت التصانيف الطبية والمرشد الطبي النفسي الأمريكي اضطراب ما بعد الضغوط الصدمية بأنه أية حادثة تكون خارج استجابة مدى الخبرة المعتادة للفرد وتسبب له الكرب النفسي، او تكون استجابة الضحية فيه متصفة بـ" الخوف الشديد، والرعب، والشعور بالعجز".. فيما نبهت تصانيف أخرى الى ضرورة التمييز بين اضطراب ما بعد الضغوط الصدمية (PTSD) وبين اضطراب الضغط الحاد (Acute Stress Disorder)، حيث يستعمل الثاني لوصف الحالة التي يكون فيها تماثل سريع للشفاء من ضغط الحادث الصدمي، فيما يستعمل اضطراب ما بعد الضغوط الصدمية (PTSD) لوصف الحالة التي لا يحصل فيها شفاء سريع من هذا الضغط.

والتساؤل هنا: اذا كان ما حصل للجنود الأمريكان من ضغوط نفسية حادة استمرت لأشهر ولربع قرن.. فكيف الحال مع ملايين الناجين من زلازل تركيا وسوريا.. والكارثة اوجع وافجع؟!

ما سيعانيه الناجون

تشير الدراسات الى ان الذين يصابون باضطراب ما بعد الضغوط الصدمية، او اضطراب الكرب التالي للصدمة، يعانون من الأعراض الآتية:

الاستيقاظ في الليل عدة مرات، مصحوبة بكوابيس متكررة لها علاقة بالزلازل.

ذكريات وافكار ومدركات اقتحامية وقسرية ومتكررة عن حدث الزلزال تسبب الحزن، الهمّ، التوتر، القلق، الأكتئاب، العنف، والتوتر.

الشعور كما لو ان الزلزال سيعاود الوقوع في اية لحظة.

تذكّر الحدث على شكل صور او خيالات.

انزعاج انفعالي شديد لأي تنبيه يقدح زناد ذكريات الحدث.

صعوبة التركيز على اداء نشاط كان يمارسه .

وفقدان الاهتمام بالحياة اليومية، الشعور بالذنب، وافكار انتحارية.

واذا علمنا ان عدد الناجين والمشردين وأسر وأقرباء ومحبي الضحايا والذين شهدوا حالات الرعب والفواجع والانهيارت الكبيرة للعمارات والبيوت في زلازل تركيا وسوريا يتجاوز الثلاثين مليون شخصا، وأن الدراسات تشير الى أن ما لايقل عن 9% من الذين تعرضوا للكوارث الطبيعية يعانون من اعراض اضطراب ما بعد الضغوط الصدمية فان عدد الذين يصابون بهذه الاعراض يتجاوز الثلاثة ملايين شخصا، بينها حالات تحتاج الى علاج نفسي سريع يمتد الى اسابيع أو اشهر، واخرى تمتد فيها المراجعات والأشراف النفسي الى سنوات.

وانطلاقا من هذه الحقيقة، وادراكا من منظمة الصحة النفسية العالمية التي عمدت الى ادراج الصحة النفسية في اطار الاغاثة في الكوارث، فاننا ندعو وزارات الصحة في تركيا وسوريا والبلدان العربية الى اتخاذ التدابير لمعالجة من يعاني من تلك الأعراض، وبينها حالات تحتاج الى سنوات، والبدء من الآن باقامة دورات تدريبية يشارك فيها اختصاصيون بالصحة النفسية ( اطباء نفسيون، استشاريون نفسيون.. .) ومتدربون يتلقون في البدء محاضرات نظرية تشمل الذكريات الأقتحامية، التغيرات السلبية في التفكير، الحالات المزاجية، ردود الفعل الجسدية.. وحالات الخوف الشديد، الرهاب، نوبات الذعر، الأكتئاب، لوم الذات، العزلة الاجتماعية.. حرقة المعدة المزمنة، تشنج العضلات، الأسهال الشديد.. .والأفكار الأنتحارية، وصولا الى خيارات العلاج النفسي المناسبة لكل حالة ما اذا كانت تتطلب مضادات اكتئاب او علاجا سلوكيا معرفيا او جلسات ارشاد نفسي جماعي.. وأخرى.

ان هذا المشروع الانساني الذي نتقدم به عبر جريدة الزمان، يتطلب البدء به من الآن، وان ادارة الجريدة ورئاسة الجمعية النفسية العراقية يسعدهما التعاون مع وزارة الصحة العراقية.. لتكون المبادرة عراقية، نحن على يقين انها ستحدث تاثيرا على مستوى العالمين العربي والدولي لصالح ملايين ستظهر عليهم اعراض ما بعد صدمة زلازل القرن.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

 

في المثقف اليوم