آراء

تأريخهم بأقلامهم

عندما نريد أن نُكَوّنَ صورة دقيقة عن: مذهب فكري - جماعة دينية - حزب سياسي، فلا بُدّ من قراءة هؤلاء بأقلامهم أولاً. فهذه الخطوة من أبجديات البحث العلمي الأساسية، إذ لا يجوز محاكمتهم من خلال خصومهم. نعم، قراءة الجميع ضرورة مُلحّة، لكن الخطوة الأولى هي "قراءتهم بأقلامهم".

من يريد الإطلاع على تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، فعليه أن يتجه لمصادر هذا الحزب أولاً، قبل أن يتجه للمصادر الأخرى. وبين يَدَي الآن مصدرٌ شيوعي ممتاز، ألا وهو كتاب "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"  للأستاذ عزيز سباهي، وهو كتاب ضخم بثلاثة أجزاء صادر عن شركة الرواد المزدهرة في بغداد ط2 2007.

أما المصدر الآخر فلا يقل أهمية عنه، وهو كتاب "محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" للأستاذ جاسم الحلوائي، وقد صدر عن الدار  المذكورة نفسها. يتناول فيه الحلوائي كتاب سباهي بالنقد.

وبطبيعة الحال لن يتسع المقام للكلام عنهما، وعليه فسأرُكّز على نقطتين لهما أهمية كبيرة في تاريخ هذا الحزب، إذ تُثار دائماً بهدف النيل منه ومن تاريخه الطويل. وهُما:

1- إرتباط هذا الحزب بالخارج، أي بالإتحاد السوفياتي والسير على تعليماته بعيداً عن خصوصية الواقع العراقي.

2 - موقف الحزب من القضية الفلسطينية.

(يلمسُ المرء ميلاً خاصاً نحو تحميله ـ الحزب الشيوعي - مسؤولية بعض ما مرّ على البلاد من مشاكل، وهناك من يغالي في هذا الشأن) هذا ما ذكره سباهي في ج1 ص11، وفعلاً فهذا الإتجاه واضحٌ جداً ويطفو على السطح في هذه الأيام.

برأينا، أن هذا الرأي فيه من التسرع و "المراهقة العلمية" الشيء الكثير. فكما ذكر سباهي ج1 ص11 و 13:

يبدو أن إحساس الحزب العالي بالمسؤولية تجاه الشعب، وإصراره على مكاشفته بالأخطاء، قد أغرى الكثيرين في أن ينسبوا له حتى ما لا علاقة له به وتحميله مسؤولية الجرائم التي إرتكبها خصومه. ثم إن هذا الحزب لم يكن فقط ثمرة للتوزع الطبقي، بل هو إبن البيئة الإجتماعية وعصبياتها، جاء يحمل مزاياها وعيوبها، فطبيعة العامل الذاتي من نفس طبيعة العامل الموضوعي.

صراحة، وأنا أقرأ هذا التحليل القيّم من سباهي، وجدتُ نفسي أمام قلمٍ مسؤول، إذ لم تمنعه أيديولوجيته من أن ينظر من زوايا أخرى ستعمل على إثراء الموضوع بكل تأكيد.

لنُناقش النقطة الأولى الآن:

هل فعلاً كان الحزب الشيوعي العراقي يأتمر بأوامر السوفيت بعيداً عن الخصوصية العراقية؟ يتلقاها على طريقة "نفذّ ولا تُناقش"؟

يقول الحلوائي في ص191: (هناك نظرة تبسيطية أحياناً لحقيقة العلاقة بين قيادتي الحزبين الشيوعيين العراقي والسوفيتي، وتُصوّر هذه العلاقة أحياناً وكأنها علاقة تابع بمتبوع، في حين أن آراء السوفيت كانت دوماً إستشارية، تُقبَل أو تُرفَض) ويضرب الحلوائي مثالاً وهو تجاهل الحزب الشيوعي العراقي "موضوعة الطريق اللارأسمالي" التي تبناها الحزب الشيوعي السوفيتي في ستينات القرن الماضي، لأكثر من عشر سنوات.

وينقل الحلوائي شهادة لزكي خيري تُلخّص حقيقة هذه العلاقة، وهي صادرة بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي ص192:

(كان الرفاق السوفيت يردّون على كل إستفسار نُوجّهه إليهم في المنعطفات السياسية الحادة ويُقدّمون لنا النصح الخالص. ولم يكن رد الفعل من جانبنا إيجابياً دائماً، ولم يُقاطعونا بسبب توترنا بل يواصلون الحوار بروح رفاقية ونَفَس طويل. وكُنّا نحن الذين نعرض عليهم خلافاتنا وعلى أشقائنا الشيوعيين الأجانب لنتسلح بفتاويهم في جدالنا مع بعضنا)

النقطة الثانية:

تتحدث بعض المصادر عن (تَبَنّي الحزب الشيوعي العراقي لوجهة النظر الصهيونية من الصراع العربي ـ الصهيوني) سمير عبد الكريم: أضواء على الحركة الشيوعية في العراق ج1 1934 ـ 1958 دار المرصاد ص5 مقدمة د. صلاح محمد.

يُذَكّر سباهي القارىء بحقيقة مهمة وفريدة ج1 ص377 و 378 (أُذَكّر القارىء أولاً، بأن الماركسيين كانوا هُم السبّاقين الى الدعوة الى التظاهر ضد زيارة الداعية الصهيوني الوزير البريطاني ألفريد موند في عام 1928، وفي مقدمة من إعتقلتهم الحكومة في المظاهرة الصاخبة ضد ألفريد موند كان حسين الرحال وعزيز شريف وعبد الفتاح إبراهيم وزكي خيري)

أصدرت الأمم المتحدة قراراً بتقسيم فلسطين في عام 1947، وقد أيّد الإتحاد السوفيتي هذا القرار، وهذا ما سينعكس بطبيعة الحال على الحزب الشيوعي العراقي. فما هو موقف الحزب من هذا القرار؟

تَبَنّى الحزب الشيوعي العراقي هذا القرار بتأثير الموقف السوفيتي. لكن إن وقفنا هنا فسنقع بخطأ فادح! فبشأن التقرير الموسوم "ضوء على القضية الفلسطينية 1948" يقول سباهي ج1 ص398 (ليس واضحاً كيف جرى تبني الحزب الشيوعي العراقي لهذا التقرير) بل إن قيادة الحزب التي أطبق عليها السجن آنذاك مُمثلَة بفهد، قد إستاءت من نشره، فقد أوقف فهد قارىء التقرير دون أن يُخفي إستياءه ص399

ولم تنفرد المصادر الشيوعية بهذه الحقيقة، يقول هاني الفكيكي:

(غير أن فهد وهو في سجنه تردد في التسليم بطروحاتها وتَمَنّع عن قبولها كسياسة للحزب، تاركاً القرار ليهودا صدّيق ومالك سيف اللذين أقرا الوثيقة) أوكار الهزيمة / تجربتي في حزب البعث العراقي، دار سطور بغداد ط1 2022 ص35

بل إن القيادة الميدانية قد أصدرت قبلها في عام 1947 بتوجيهات من فهد "رفض قرار التقسيم بشكل قاطع" كما ذكر الحلوائي في ص43 فضلاً عن قول فهد (لا أدري كيف إعترف الإتحاد السوفيتي بدولة اليهود!) ص49 الحاشية.

أما الحلوائي فقد أدلى برأي مهم ص48:

(ولم يكن بمقدور الحزب التخلف عن الركب أو السبَاحة ـ في النص: السبح ـ ضد تيار الحركة الشيوعية العالمية، خاصة بعد أن أصبح تقسيم فلسطين أمراً واقعاً في آيار 1948)

خلاصة المقال هو ضرورة قراءة تاريخ الحزب الشيوعي العراقي من خلال كوادره، فهي الطريقة الأسلم، وكتاب سباهي يفرض نفسه بكل تأكيد، فالنقد الذاتي حاضر وبقوة فيه.

ومما يجدر ذكره هنا، أن د. سيف عدنان القيسي "الباحث في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي"، قد أعطى رأيه لنا في تعليق خاص على صفحات التواصل الإجتماعي:

(لا يمكن الإستغناء عن كتاب سباهي، فأغلب مصادره وثائق شيوعية قبل هدم أو حرق أرشيف الحزب في جيكوسلوفاكيا). 

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

في المثقف اليوم