آراء

قصة حظر الكحول عراقياً.. من ألف السياسة إلى ياء الاستثمار

يمكننا وصف كثير من العراقيين، إذا قرأنا تاريخ بلادِهم القديم، تحديداً، الجزء الذي وثَّق صِلَتَهُم مع المشروبات الكحوليَّة، بأنهم "بيرويَّون" – نسبة إلى البيرة – ولم تُفلِح آلاف السنين، عشرات الاحتلالات، وتنوَّع الأديان التي اعتنقوها، أن تُغيَّر طبيعتهم "البيرويَّة" هذه.

انفق العراقيون حتّى الربع الأول من 2023، ما كانت قيمته، مائة وخمسون مليون دولار أمريكي على البيرة، شهرياً. الخمسون مليون الباقيَّة، من هذهِ العملة الصَّعبّة، اُنفِقت على مشروباتٍ كحوليَّة أُخرى.

العراقيون المتديَّنون – الديانة الإسلاميَّة غالباً –  استخدموا الخمسين مليوناً، لتبريرِ إدمانِهم، على إضفاء وصف "العرقجية" (تُلفظ عراقيَّاً بالجيم والكاف المُعجَّمتين)، على مُختلف الشرائح، المنتمية إلى المجتمع المدني. أيضاً، الفرد في هذا المجتمع المدني، يوصف بأنَّه " عَلماني"، لتقليلِ شأنِه، وتبخيس قيمة حِراكِه النقدي في المجتمع، وتبكيتاً لِنشاطه السياسي.

العلاقة المُلتبِسة بين الكحول والعراقيين، بلغَ عمرُها الموثَّق، ستة آلاف عامٍ. تعقدت تلك العلاقة ما بعد 2003، بشكلٍ أكبر. عام 2016م، وصلت مرحلة تشريع قانونٍ برلماني، يُحرِّم كُل عِلاقةٍ للعراقي، مع المشروبات "الروحيَّة" (الوصف العراقي الأكثر شيوعاً للمواد الكحوليَّة) .

خوف السياسيين من "ردَّة فعل المجتمع الدولي بالأساس، دفعهم إلى هجر العمل بالقانون، وتخلَّت الأحزاب الإسلاميَّة عن متابعة تنفيذه"، بحسب مصدري المقرَّب، من الفاعلين في العملية السياسية.

إذاً من هم أصحاب البطولة، في إحياء قانون واردات البلدية في 2023، والذي اُعتُبِرت مادتُه الرابعة عشر، أكثرُ المواد تعسُّفاً، لأنها منعت استيراد، بيع، وتصنيع المشروبات الكحولية!؟

الجواب التمهيدي: نيابي سابق، رجل دين، وسياسي يحتلُ منصِباً مهماً، في إحدى مؤسسات الدولة العُليا. لكن من المُفيد أن نبدأ الحديث، عن بدايات تخمير هذا القانون، في البراميل السياسيَّة منذُ 2016م، لكي نفهم بعدها، سبب تعبئته، في جريدة الوقائع العراقية الرسميَّة، في فبراير 2023م.

بداية الرحلة

النظام السياسي في العراق، بعد 2003م، انخفضت درجةُ حرارته، في تنفيذ واجباتِه الرِقابية والتنظيميَّة؛ فيما يخصُّ المشروبات "الروحيَّة"، إلى الدرجة صفر. التداعياتُ كانت، غليان الفواعل اللاحكومية – تلطيف وصف الميليشيات المُسلَّحة خاصَّةً العقائديَّة منها - بدرجة مائة "سيليزي"، في سوق " المشروبات الروحية"!

شهد نوفمبر عام 2016م، وقبل أشهر قليلة من القضاء، على تنظيم "داعش" الإرهابي، في الموصل، الموافقة النيابية، على مُقترحِ قانونٍ، قدَّمهُ النائب علي العلاق، عن ائتلاف "دولة القانون"، بموجبه: " حُظِرت المشروبات الكحوليَّة، وكان للقاضي والنيابي السابق، محمود الحسن – نفس فريق العلاق السياسي - الدور الأعظم في صياغته"، وبحسب المصدر أيضاً: "كان الخوف من ردُّ فعلِ المجتمع الدولي، هو الكابح الأكبر، أمام تنفيذ القانون".

الأرجح إنَّ هذا التشريع، كان المُراد منه، تحقيقُ هدفٍ ذا شقَّين: مُغازلة الحكومة للقوى المُسيطرة على الأرض "الحشد الشعبي"، والذي ترتبط أغلب مكوِّناته السياسيَّة وفصائِله المُسلَّحة، عقائدياً، بولاية الفقيه الإيرانيَّة. أمّا الهدف الثاني؛ فهو استخدام القانون، كمغناطيس، لجذبِ الناخب الملتزم دينيّاً، في انتخابات 2018م.

سهولةُ نوم القانون، هذا "المدلول" – وصف عراقي يُطلق عادةً على الأشخاص المُرفَّهين – لمدَّةِ ستة سنين، في أدراج البرلمان، بدون أن نسمع شخيراً له، يعودُ فضلُه، إلى صمت الدستور العراقي، عن مصير القوانين المُشرَّعة، إن لم تُنشر في جريدة الوقائع العراقيَّة الرسمية، والتي هي الإلزام الوحيد؛ كي يكون القانون المُشرَّع فاعِلاً (بعد خمسة عشر يوماً من تاريخ النشر)، كما أن أهمَّية مصادقة رئيس الجمهورية، على القوانين، بروتوكولية لا حقيقية.

عاد القانون للحياة، في فبراير 2023م. بسببِ طلبٍ: " قدَّمهُ نائِبٌ عراقي سابق، من الدورة البرلمانيَّة الثانيَّة، إلى رئاسة الجمهورية". الجدير بالملاحظة، إنَّ النائب المسؤول عن إيقاظِ "المدلول"، مشهورٌ بـ "المدنيَّة"، وترقيص "اللبراليَّة" على لِسانه. المصدر وضَّح لي بعدها، إنَّ النيابي السابق، قام بذلك بـ : " التعاون مع أحد رِجال الدين المُتشددين في بغداد"، على حدِّ تعبيره.

المُفارقة اللطيفة، إنَّ الطرف الثالث والأخير، في نفضِ الغُبار عن القانون، هو صاحِبُ منصِبٍ مهم، وقد ساهم في إيصال القانون إلى: "الرئاسة النيابية، قبل تثبيته رسميّاً. قبل مالا يقل عن أسبوعين تقريباً، من امتلاكِه صلاحيات المنصب".

لوَّن مصدري بعد ذلك، أريحية هذا المسؤول، في تأريخ المخاطبات الرسمية، بالمقارنة التالية: " هل يمكن مثلاً أن استحق وصف نائب في البرلمان العراقي، قبل قيامي بتأديةِ القسم داخل قُبَّتِه؟".

حبر الصفقة وملفات المصالح

الصفقة التي جمعت بين النيابي السابق، ورجل الدين "المُتشدِّد"، كانت: "ضمان حصوله على أصواتٍ انتخابيَّة، تكفيه كي يعود نائباً، في الدورة البرلمانية القادمة". رجلُ الدين هذا، وبحسبِ المعلومات المُتاحة: " مُقرَّب من زعيم إحدى التحالفات السياسيَّة، والذي كان قد أشهر تديُّنه في الفترة الأخيرة. أمّا صاحِبُ المنصِب المهم؛ فهو مدعومٌ من الزعيم أيضاً".

ركائز نجاح هذه الصفقة، كانت تحتاجُ اتحِاداً، مع أحد الأحزاب الإسلامية "الشيعية"؛ التي تمتلِكُ ميليشيات على الأرض، بشكلٍ مُعلن. نجحَ النائب السابق، في الحصول على: "دعم أحدِها، والمنتميةُ بدورِها، لإحدى التحالفات الكبيرة "الشيعية".

 هذا الحزب، يتشاطرُ مع "مجموعةٍ عقائديَّة "شيعية" أخرى، توفير الحماية مقابل "اتاوات"، لمحال ومخازن بيع المشروبات الكحوليَّة في بغداد/ قضاء الكرخ".

الحزب وشريكه، كُتِب عنهما، وعن نشاطاتهِما بهذا الخصوص، مرَّاتٍ عدَّة، في صُحفٍ عربيَّة وعالميَّة. النتيجة خُتِمت الصفقة، وتحققت الوحدة الوطنيَّة، بلا شوائبٍ مذهبية وبدونِ قرونٍ إيديولوجية!

مخاطر الصراع على عالم صناعة الكحوليات ومصائب الحظر

الحظر، جاء بعد ستة أيّام، من إعلان الحكومة، رفع الضرائب المفروضة، على استيراد المشروبات الكحولية، إلى مائتين في المائة! الحكومة ستحرمُ بذلك، من وارداتٍ ضريبية كبيرة، وستدفعُ تكاليفاً إضافيَّة، لعمل القوى الشُرطيَّة والأمنيَّة. مثالُ ذلك، ما حصل في الولايات المتحدة، خلال عشرينيات القرن الماضي، والسنين الثلاث الأولى من ثلاثينياته، عندما طبَّقت الحظر.

إيجابياتُ بقاء الحظر كثيرة. منها – استخدمنا المؤشِّرات الهندية لعدم وجود نظيرة عراقية - ارتفاع مستوى صحة المواطنين بشكلٍ عام، جسدياً وعقلياً، هبوط نسبة العُنف خاصَّةً المنزلي منه، وانخفاض نسبة المُصابين بأمراض القلب. الأهم إنَّ عوائل المدمنين على هذه المشروبات؛ ستجِدُ مالاً إضافياً، لتوفير احتياجاتِها الضرورية، على أقلِّ تقدير.

سلبيات بقاء القانون، عديدة أيضاً. منها ارتفاع نسبة الجريمة المنظمة، لجوء المدمنين إلى مُنتجات أُخرى للتعويض. غالباً ما ستكون المُخدَّرات؛ التي أصابت لعنتُها العراق ومجتمعاته، بعد أن كانت البلاد، محطةَ عبورٍ لها فقط، زمن النظام السابق.

الأسوأ، إنَّ السوق السوداء لبيع هذه المشروبات، بشكلٍ لا قانوني؛ ستزدهر. هذه السوق، ستُنتِجُ محليَّاً، أو تُهرِّب للبلاد، مُنتجات رديئة النوعية وملوَّثة، تُشكِّلُ خطراً على الصحة.

الحظر سوف يؤثِّرُ كذلك، على ارتفاع نسبة القضايا التي تنظرُها المحاكم العراقية، والخاصَّة بانتهاكات القانون. بالتالي إنهاك النِظام القضائي العراقي، والذي يُعاني أصلاً من قلَّة عدد القضاة، والمُدَّعين العامين، مما قد يُسبِّبُ اللجوء، إلى ما يُعرف أمريكياً بـ "أسلوب شطب الدعوى"، كما حصل مع السيد نور زهير، في القضية التي باتت تُعرف بـ "فساد القرن"، مقابل إرجاعه قسم من الأموال التي بحوزتِه. ورغم إنَّ هذا تعبيرٌ أفضل عن الحقِّ العام؛ الذي يكتفي بالسجن عادةً، مُسبِّباً ضياع المال العام. إلَّا إننا لا نعرف، إن كان ذلك، يتناسبُ مع طبيعة مجتمعنا العراقي، وإن كان هذا الإجراء القضائي؛ سيُساهِم على المدى المتوسط والبعيد، في ترجيحِ كفة القضاء، ضد الفساد المستشري، في مؤسسات الدولة. الحظر سيقضي بدوره، على "مائتي ألف فُرصة عمل، مُتاحة للعراقيين" (يونادم كنا، صحيفة الغارديان). ويسبِبُ ركوداً اقتصادياً، في أسواقٍ عديدة، مُرتبِطة بالمشروبات الكحوليَّة، ومن المؤكَّد ضياع فُرص العمل فيها.

أجِدُ إنَّ على النُخب المجتمعية، النُخب الدينية الإسلامية، النُخب السياسيَّة، والأهم من هؤلاء جميعاً الحكومة، أن تختار نوعية العراقيين؛ الذين سوف تتعامل معهم مستقبلاً، إن بقي الحظر أو أُلغي قانونه: الكريستاليون، مجرمون عُتاة، أم "البيرويَّون"!؟

العراقيون الآخرون، والذين لا ينتمون للأصناف الثلاثة، سوف يذوقون الأمرَّين من الصنفين؛ الأول والثاني. أمّا الصنف الثالث؛ فهو يبدو غير مؤذٍ، بالمقارنة معهما.

أعتقد إنَّ على القضاء العراقي، أن يُبيَّن مخاطر تجربة "الصح والخطأ"، في تشريع القوانين العراقيَّة، مُحذِّراً صُنَّاع السياسات العامَّة؛ الذين يعاني معظمهم، من الأُمَّية الثقافية والتاريخية - استناداً إلى تجارب السنين الماضيَّة - في فهمِ طبيعة مجتمعنا العراقي، من حشرِ أنوفهم الحزبية، في مسائلٍ، لا ناقة للصالح العام فيها ولا جَمَلٌ اقتصادي.

الفرد العراقي مُطالب أيضاً، سواء كان العَلماني أم الملتزم دينياً، أن يفهم، إنَّ إيقاظ "المدلول"، ورائه منافسة اقتصادية، على تجارة وصناعة المشروبات الكحوليَّة، التي تدرٌّ أرباحاً بمليارات الدولارات.

المنافسة هي بين رجال أعمال، يودون الالتزام بالضوابط القانونية، وميليشيات مُسلَّحة تابِعة لأحزاب، تودُّ إبقاء هذه الصناعة في قبضتِها، وإنَّ قانون الحظر، كان تعبيراً منها، عن الرُعب الذي أُصيبت بهِ، من توجّه الدولة، نحو تنظيم هذه الصناعة بالضرائب، والإجراءات القانونية الواضحة.

أخيراً، أُشير إلى عدم حصولي، على إجاباتٍ لأسئلتي، بخصوص هذا الموضوع. كُنت قد أرسلتُها، إلى كُل من: رئاسة الوزراء، اللجنة القانونية في رئاسة مجلس النواب، ورئاسة الجمهورية. أمّا حزب الاتحاد الوطني الكردستاني؛ فقد عادت الرسالة، لعدم إمكانية إيصالِها، إلى بريده الإلكتروني!

***

قصَّة/ مسار عبد المحسن راضي

كاتب، صحافي، و باحث عراقي

في المثقف اليوم