آراء

هزيمة أمريكية.. انتصار صيني!

فى تزامن فريد وعجيب.. حدثان نزلت أخبارهما على العالم كالصاعقة. أحدهما يصب فى صالح الصين وضد أمريكا، والثانى فُجع به الاقتصاد الأمريكي!

أما الخبر الأول فهو الاتفاق السعودى الإيرانى برعاية صينية.. وأما الثانى فهو إعلان إفلاس بنك وادى السيليكون. وكلا النبأين فوجئت بهما وكالات الأنباء وباتا فى غضون سويعات هما حديث الناس شرقا وغربا..

كلمة السر .. الصين

لطالما تحدثت فى هذا الموضوع وأشرت إلى أهميته منذ ما قبل كورونا..

أن علينا تحديد اتجاه البوصلة الاستراتيجية وإعادة تقييم أولوياتنا السياسية فى علاقاتنا الخارجية بالدول على أساس المتغيرات الحادة الحادثة حولنا.. وأننا لو لم نفعل فسوف يسبقنا إلى هذا آخرون..

تعال ننظر إلى ما فعلته الصين بالأمس وما تفعله بأمريكا منذ بداية الحرب الأوكرانية الروسية التى اتضح أنها فخ نصبته أمريكا لروسيا والصين.. هلم بنا نتذكر سلسلة أحداث ربما بدأت قبل هذا بقليل منذ ما قبل تولى بايدن مقاليد الحكم فى أمريكا واتهامه للصين بقيادة عملية تجسس كبري نالت من عدة جهات حكومية داخل أمريكا وانتهاء بمنطاد التجسس الصينى الذى ظل يتجول ويتوغل فوق أمريكا لمدة أسبوع كامل قبل أن تقرر أمريكا إسقاطه! فبات من الواضح للعيان أن الصين تسبق أمريكا بكثير فى مسارات عدة خلاف المسار الاقتصادى..

أمريكا حاولت جرّ أقدام الصين لغزو تايوان بنفس الطريقة التى استفزت بها روسيا لبدء حربها ضد أوكرانيا، فهل نجحت فى ذلك؟ نعم تحركت الصين، وبالفعل حاصرت تايوان، لكنها أبداً لم تقدم على اجتياح تايوان مع قدرتها على ذلك.. فلماذا لم تفعل؟

نترك هذا المشهد إلى مشهد قريب جداً استهلت به الصين العام الجديد 2023 مع ذكرى مرور عام على الحرب الروسية الأوكرانية عندما قدمت نفسها للعالم كحمامة سلام وكوسيط صلح بين الأطراف المتحاربة؛ فعرضت مبادرة للتهدئة وإنهاء الحرب وهى تعلم علم اليقين أن الطرفين كليهما سيرفضان! فلماذا تقدمت بهذه المبادرة الفاشلة؟

طوال الوقت والصين تنادى وتعلن وتؤكد مراراً أنها لا تهدف إلى قيادة العالم وإنما إلى رفاهية شعبها اقتصادياً،وأنها نفضت يدها من الحروب المهلكة للاقتصاديات.. إنها ركزت فقط على هذا الهدف الأوحد وأنها لا مطامع لها فى إذلال أمريكا كما تدعى الأخيرة.. ولهذا جاءت تحركات الصين تصب فى هذا الاتجاه.. دخولها فى عدة تجمعات وأحلاف اقتصادية آسيوية وإفريقية.. تجهيزها لطريق الحرير بإصرار عابر للعراقيل وللأجيال.. دعواها المتكررة لنبذ الحرب ومنع التدخل فى الشئون الداخلية للدول.. حتى جاءت خطوتها الأخيرة القاصمة. الصلح الإيرانى السعودى..

توب سيكريت

الصحف الأمريكية خرجت صباح اليوم التالى للصلح الثلاثى مذهولة فاغرة الأفواه.. تقول: كيف لم تعلم أمريكا بمخابراتها وأقمارها الصناعية بالنبأ؟ بل إن بعض الصحفيين عندما سأل بايدن عما تم بين الصين وإيران والسعودية سرا قبل إعلانه بدا بايدن كأنه آخر من يعلم! أمر عجيب..

أربعة أيام كاملة تمت فيها المباحثات السرية بين الأطراف الثلاثة قبل أن يخرجوا على العالم بالخبر الصادم. فأين كان السي آى إيه وأين كان الموساد وهما يسمعان النبأ من الفضائيات والصحف؟!

أما الخبر ذاته، فهو خبر الموسم بل قل خبر العام.. كيف لقطيعة دامت سبع سنوات أو أكثر أن تنتهى فى لحظات؟ فهذه عاصفة الحزم استمرت لسنوات طويلة سوداء على أهل اليمن والجنوب السعودى، وتهديدات مستمرة لحرب محتملة تنشب بين القوى الإقليمية كنتيجة للتحزبات نحو المعسكر الشرقى الآسيوي أو المعسكر الغربي. بعد كل هذا تأتى الصين لتقلب الطاولة على الجميع وتنهى الأزمة الخانقة للمنطقة خلال سويعات!! أى عجب..

إذا ضممت هذا الحدث لعدة أحداث سابقة تمت فى السعودية فأنت أمام مشهد مذهل بكل المقاييس.. فمنذ الصلح بين السعودية وقطر،وقرارات الأوبك برفع سعر برميل البترول لصالح المنطقة وضد القرار الأمريكي، ثم التقارب الصيني السعودى، واحتمالية كسر أسطورة البترودولار على أعتاب صعود اليوان والروبل! كلها أمور تقرأ منها مشهداً إقليمياً وعالمياً جديداً .. فما الذى يحدث؟!

إننا أمام خطوات انتصار تحققها الصين على الساحة العالمية وإن لم تدخل فى أتون أى حرب.. وفى المقابل هزائم متوالية تحدث للمعسكر الغربي الأمريكي وآخرها ما حدث فى الوول ستريت بالأمس القريب.. فما الذى حدث فى أمريكا؟ وما تداعياته عليها وعلى العالم؟

الدولار.. وبداية النهاية

كنت من أول المتسائلين عما سيصيب الاقتصاد الأمريكى بسؤال مصيري : من سيرث كعكة الدولار إذا سقط؟.. اليوم يبدو أن النبوءة قد بدأت تتحقق رويداً رويداً على أرض الواقع.. وربما استيقظ العالم يوماً على انهيارات مالية مهولة تتبع انهيار الدولار ..

لم يعد هذا بعيداً بعد خبر سقوط واحد من أكبر بنوك أمريكا، بنك وادى السيليكون.. إن كل الصحف العالمية تسابقت لتحليل تفاصيل هذا النبأ العظيم والحدث الجلل الذى أعاد للعالم ذكرى الانهيار الاقتصادى عام 2008.. فهل نحن مقدمون على ما يشبه الكساد العظيم القديم؟

البعض قد يتساءل: لماذا هذه الضجة الكبيرة على حدث عادى مثل إعلان إفلاس بنك؟ وكيف يمكن لمثل هذا الأمر أن يؤثر على اقتصاد أكبر دولة فى العالم وأقواها اقتصادياً؟

الحق أن الذهول الذى أتبع إعلان الخبر أمر طبيعى وله مبرراته.. لأن بنك وادى السيليكون ليس بنكاً عادياً أبداً.. إنه أحد أكبر البنوك الأمريكية برأس مال200 مليار دولار، أى بمقدار ميزانيات دول، فكيف له أن ينهار ويفلس؟ ثم أنه كان فى حالة نمو دائم منذ 2017 وحتى بدايات هذا العام، فمتى وكيف أفلس؟!

من بين التقارير التى صدرت فى هذا الصدد تقرير مجلة الإكونومست البريطانية التى شرحت أسباب انهيار البنك الذى كان من أهم بنوك الإقراض للشركات الناشئة فى قطاع التكنولوجيا، فقالت: أن ما حدث هو أن سعر سهم البنك قد بدأ فى الانخفاض خلال أسبوع ما قبل الانهيار من 60% إلى 70% وهو ما دفع البنك لمناشدة عملاءه بمساندته ودعمه وهى المحاولات التى قوبلت بالتجاهل حتى تم إيقاف التعامل بأسهمه فى الوول ستريت وتم الحجز على ودائعه ثم جاء السقوط وإعلان الإفلاس..

التكالب على الاقتراض من هذا البنك والذى بدا كأنه سبب نجاحه كان فى الواقع هو السبب الأول للسقوط؛ فنظرا لأن البنوك تجني الأرباح من الفارق بين سعر الفائدة الذي تدفعه على الودائع والسعر الذي يدفعه المقترضون فإن وجود قاعدة ودائع أكبر بكثير من دفتر القروض كان يمثل مشكلة يقتضي حلها حصول البنك على أصول أخرى تحمل فائدة.لذلك غامر البنك فأقدم على استثمار هائل بنهاية 2021 بلغت قيمته 128 مليار دولار، معظمها في سندات الرهن العقاري وسندات الخزانة بأسعار مرتفعة.. ثم تغير العالم -وفقا للتقرير- وارتفعت أسعار الفائدة مع ترسخ التضخم وانخفضت أسعار السندات، مما ترك بنك "إس في بي" مكشوفا بشكل فريد، وخفض العملاء ودائعهم من 189 مليار دولار في نهاية عام 2021 إلى 173 مليارا في نهاية عام 2022. واضطر البنك إلى بيع محفظته من السندات السائلة بالكامل بأسعار أقل مما كانت عليه، متكبدا خسائر بلغت نحو 1.8 مليار دولار تركت فجوة حاول سدها بزيادة رأس المال، لكنه لم يفلح.

معنى هذا أن قرارات البنك الفيدرالى الأمريكي باتت لها تبعات مباشرة على أرض أمريكا ذاتها.. وأن التبعات القادمة ربما كانت هى الأهم والأفدح..

وما خفى كان أعظم..

فى عالم السياسة بعيد الغور أشياء تجرى وراءها الصحافة وتتبعها ثم تعلنها وهى ليست إلا قمة جبل.. بينما يبقى الجزء الأعظم متوارياً فى العمق لا يعلم به أحد!

نبأ انهيار بنك السيليكون فالى ونبأ الاتفاق السعودى الإيرانى كلاهما قمة جبل من ورائه أخبار وفى أعماقه أسرار أكثر من أن تُحصى.. والتداعيات التى ستأتى بعدهما لابد أنها فوق التوقعات والتخرصات.. فما الذى تخفيه لنا الأيام من أحداث جسام؟ دعونا نرى..

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم