آراء

مع الدكتور البياتي.. وقفة قصيرة

كتب الصديق د. أحمد جليل البياتي دراسة بعنوان "الدولة والبداوة / دراسة في طروحات د. علي الوردي" الطبعة الأولى لدار المرهج ودار ألواح بغداد 2023

يسعى الكتاب لتوضيح ما يمر بالعراق اليوم، وكيف يمكن التعامل مع الظروف الحالية بما يخدم مستقبل العراق لا حاضره، معتمداً على مؤلفات عالم الإجتماع العراقي المعروف د. علي الوردي ص9

سيتساءل القارىء المُطلع على الأرجح:

هل تصلح أفكار الوردي للوقت الحالي؟!

لم تغب هذه الإشكالية عن البياتي، فقد عمل على تطوير وتحديث النظريتين: الخلدونية والوردية، ليتناسبا مع روح العصر. وإلاّ فستصبح مجرد أحفوريات فاقدة لأي قيمة عملية ص9 و 10

يُذَكّرُني البياتي هنا بالمفكر المغربي الراحل د. محمد عابد الجابري وما قام به في "تبيئة" المفاهيم الخارجية لتكون صالحة داخل البيئة المعرفية العربية. نعم قد يُقال الآن بأن العمليتين مختلفتان! فالمفاهيم الجابرية "مستوردة" من الخارج، أما المفاهيم الخلدونية الوردية فهي في النهاية مفاهيم عربية!

فعلاً فهي مفاهيم عربية، لكنها أصبحت الآن من الماضي، فالمجتمع العربي الآن مختلف عن وقت صياغة هذه المفاهيم بكل تأكيد، وهذا ما دفعنا لهذه المقارنة، أي أن البياتي يعمل الآن على "تبيئة" المفاهيم الخلدونية الوردية لتتناسب مع الواقع العراقي.

سنضرب مثالاً على هذه "الطريقة البياتية":

العصبية والبداوة وجهان لعملة واحدة بحسب تحليل د. البياتي ص22، وجميع سمات البداوة التي إقترحها الوردي تنطبق على الجماعات المتعصبة العراقية التي ظهرت بعد 2003 ص28. وينقل البياتي العصبيتين "الخلدونية والوردية" بعيداً عن الصحراء لتناسب روح العصر ص34 في خطوة منهاجية ناجعة برأينا.

صَنّف البياتي الدول الى ثلاثة أصناف:

أولاً: دول ذات عصبية سلبية واحدة "الدول الدكتاتورية"

ثانياً: دول ذات عصبيات متعددة "الديمقراطية الناشئة"

ثالثاً: دول ذات عصبية إيجابية "الدول الديمقراطية المؤسساتية" ص37

ثم يُناقشها واحدة واحدة، فدكتاتورية صدام حسين، نموذجاً للأولى. والعراق بعد 2003 نموذجاً للثانية. ودول الغرب الديمقراطية نموذجاً للثالثة. ويذهب البياتي ـ نؤيده في ذلك ـ الى أن الدول ذات العصبيات المتعددة أفضل من الدول الدكتاتورية. فأصنام متعددة أفضل من صنم واحد ص42 وهذا ما دفع البياتي للدعوة الى الحفاظ على التجربة العراقية الحالية رغم الأخطاء والنواقص.

يقول في نص سننقله لأهميته:

(هنا قد يقول أحدهم، النظام الحالي في العراق فاسد ويجب أن يزول. بالحقيقة هو نظام فاسد وفاشل وغير مؤهل، ولكنه على الأقل ضامن لإستمرار دولة العصبيات المتعددة التي هي الطريق الوحيد نحو دولة العصبية الإيجابية. لذا يجب أن يتم تأهيله وتحسين الأنظمة والقوانين من داخله لضمان إبعاد الفاسدين ومحاسبتهم ودفع عجلة التحسينات الى الإمام. هذا التأهيل والتحسين يجب أن يكون من خلال النظام نفسه، ما دام يسمح بحرية التعبير والممارسة الديمقراطية. أما إزالته من جذوره والبداية من الصفر فهذه مغامرة لن تُقدّم شيء جديد سوى المزيد من القتل والدماء والإضطرابات وقد ترجع البلاد الى مربع العصبية السلبية الواحدة المقيت) ص86

وهذا ما دفع البياتي لنقد نظرية التيار الصدري "شلع قلع" ص86، وكذلك الى نقد "مظاهرات تشرين" وزج الشباب في المظاهرات (لا يأتي الإصلاح من الشارع والمظاهرات وإنما يأتي بتدعيم المؤسسات وتقويتها ومحاربة الفاسدين وفضحهم بالأدلة لا بالكلام والشعارات) ص107

بطبيعة الحال لا مجال للإسهاب هنا، فالإختصار هدفنا كما هو واضح من العنوان.

وقفة نقدية سريعة:

سنُرَكّزُ في هذه المحطة على بعض الأمور، وأرجو أن يتسع صدر الدكتور البياتي لنا، فهو أعرف منا بهذه المسألة: فلا غِنىً للبحث العلمي عن تعدد الآراء.

1- ينقل البياتي موقفاً مع صديق أثناء فترة الربيع العربي وإنتظار ثورة شعبية ستُطيح بنظام الملالي في إيران ص41

وينقل أيضاً حادثة عائلية له أثناء زيارته للمغرب العربي ص65

أقول:

كان الأولى بالدكتور البياتي وضع الحادثتين في الحواشي بعيداً عن متن البحث، فهي حوادث شخصية لا يتحملها المتن كما هو معمول في الأبحاث الأكاديمية.

2- يرى البياتي أن الفيصل في "الديمقراطية والإسلام" هو ما ذهب إليه المفكر الإيراني محمد مجتهد شبستري، ثم ينقل قوله في فقرة محددة ص51

لكن الإشكال هنا أن قول شبستري معلقٌ في الفراغ! فلا وجود لأي مصدر لشبستري أو غيره! لا في الحاشية ولا في المتن.

وينقل أيضاً قولاً ـ وينقده البياتي بشدة ـ لأحد الكُتّاب، وقد أحالنا قبل أن ينقله الى "جريدة الصباح العراقية في عام 2007". أين العدد؟ التأريخ؟ إسم الكاتب؟ لا وجود لها.

3- في سياق حديثه عن المجتمعات الدينية والمنغلقة ثقافياً، يذكر البياتي الموقف المعارض للمرجع الشيعي كاظم اليزدي من تأسيس أول مدرسة للبنات في مدينة النجف عام 1929 ص50

لا أعرف، هل الخطأ يعود الى الطباعة أم الى الكاتب نفسه؟ فقد توفي السيد محمد كاظم اليزدي عن عُمر تجاوز الثمانين في 30 نيسان عام 1919، يُنظَر:

حميد أحمد حمدان التميمي و عكاب يوسف الركابي: السيد علوان الياسري / الزعامة العشائرية والعمل الوطني ـ دراسة في سيرته ومواقفه الوطنية في تاريخ العراق المعاصر 1875 - 1951، العارف للمطبوعات بيروت ط1 2013 ص78 حاشية رقم 2 و ص79

وفي الختام، نُحيي الدكتور البياتي على هذا العمل المهم.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

في المثقف اليوم