آراء

قدح الشاي الذي أقضّ مضاجع الغرب

كلنا من يعرف المثل الشعبي "الصديق يعرف بالشداد"، او "الصديق وقت الضيق"، وتعابير أخرى تختلف طبقا للهجات العامية في دول العالم، ولكن جميعها، تشير الى ان التعرف على حقيقة " صداقة " صديقك، فإنها تبان، أو تظهر "معدنها" الحقيقي، عندما تمر بظروف صعبة، وللأسف اليوم، قليل من يحتفظ بصديق " صدوق "، فما أكثر الأصحاب حين تعدهم، ولكنهم في النائبات قليل .

وزيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ، هي تجسيد، لعمق العلاقة التي تربطه والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي التقاه لأكثر من 30 مرة، وعشرات المكالمات الهاتفية، أسهمت في تكوين صداقة عميقة بينهما، ويطلقون على بعضهم البعض اسم الشركاء الأكثر موثوقية، "الأصدقاء الأقرب والأكثر موثوقية" بين الزملاء الأجانب، وأسهمت هذه الصداقة القلبية بين رئيسي الدولتين بالارتقاء بالعلاقات الصينية الروسية إلى مستوى جديد وعززت التعاون بين الصين وروسيا في مختلف المجالات لتحقيق مثمر.

الزيارة هذه المرة، حيرت القريب والبعيد، والصديق منهم والعدو، فرغم كل التحديات والتهديدات التي تلقاها الرئيس الصيني، لإلغاء زيارته الى العاصمة الروسية، لأن نتائجها بالتأكيد، لن تحمل أي معنى سوى إنها، زيارة " دعم " لروسيا والرئيس فلاديمير بوتين، أمام هجمة لا يمكن وصفها الا " بأشرس " هجمة غربية عرفها العالم، وعقوبات ظالمة تنزل "كالمطر" تستهدف كل مرافق الحياة، في محاولة غربية، لتجويع الشعب الروسي، وإيقاف عجلة التقدم الحضاري والصناعي والعلمي في روسيا وتقسيم البلاد، لذلك اخذت الزيارة بعدا " حميميا "، أكثر مما كان متوقع، من ان تكون مجرد زيارة روتينية .

وما زاد من " حميمية " هذه الزيارة، قبول الرئيس الصيني دعوة " صديقه " الرئيس الروسي، لشرب الشاي في شقة الأخير الموجودة بالقرب من الكريملين، بعيدا عن المراسيم البروتوكولية، والجلوس وشرب الشاي بجوار مدفأة، ما أوقعت جميع من يهمه الامر، في حيرة كبيرة، عما تم في هذا اللقاء، وخصوصا، عندما أعلن الرئيس بوتين، انه ناقش مع " صديقه "في حفلة الشاي هذه " كل شيء "، تعبير زاد من الامر تعقيدا وقلقا وفضولا، للتعرف عن ما هو المقصود " بكل شيء "، وقال بوتين "نحن لا نشكل أي تحالف عسكري مع الصين، نعم، لدينا أيضا تعاون في مجال التعاون العسكري -الفني، ونحن لا نخفيه، لكنه شفاف، ولا يوجد سر هناك"، وبالتالي زاد الرئيس بوتين " الطين بلة"، في حيرة الغرب وتوقعاته عما يدور في خلد الرئيسين لقوتين كبيرتين الأولى نووية والثانية اقتصادية .

بوتين وشي، صديقان قديمان مرتبطان ببعضهما البعض من خلال اتصال متنوع وغني، وقدموا لبعضهم بعض الهدايا، وسافروا في قطار فائق السرعة معًا، وخبزوا الفطائر معًا، وتذوقوا العسل الروسي والكافيار معًا، وأصبحت كل لحظة من اتصالاتهم جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الصداقة الصينية الروسية، و إنهم يدعمون بعضهم البعض في أهم الفعاليات، ففي أوائل عام 2014، قام الرئيس الصيني شي جين بينغ برحلة خاصة إلى روسيا لحضور حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي، وتأثر الرئيس فلاديمير بوتين بشدة بهذه التحية من الرئيس شي جين بينغ، "عندما يحظى أحد الجيران بأحداث سعيدة، سأحضر بالتأكيد لأهنئه شخصيًا"، وفي عامي 2017 و 2019، زار فلاديمير بوتين بكين مرتين للمشاركة في منتدى الحزام والطريق الدولي، وقدم مقترحات بشأن هذه المبادرة الصينية، وفي عام 2021، دعم فلاديمير بوتين دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، وحضر زيارته الوحيدة للدول الأجنبية المقرر إجراؤها حاليًا في عام 2022 حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في العاصمة الصينية.

وفي عام 2015، زار الرئيس شي جين بينغ روسيا، لحضور الاحتفالات بالذكرى السبعين للنصر في الحرب الوطنية العظمى، بينما زار الرئيس فلاديمير بوتين الصين لحضور احتفالات الذكرى السبعين لانتصار الشعب الصيني في حرب المقاومة اليابانية، والحرب العالمية ضد الفاشية، وفي الاحتفالات التي أقيمت في الساحة الحمراء، ترك الرئيس فلاديمير بوتين المكان الأكثر تكريمًا - عن يده اليمنى - للرئيس شي جين بينغ، وكان حرس الشرف للفروع الثلاثة لجيش التحرير الشعبي الصيني (PLA) آخر من شارك في هذه العرض، ليصبح العدد النهائي لمسيرات القوات الأجنبية، وفي العرض العسكري في 3 سبتمبر، رافق الرئيس شي جين بينغ الرئيس فلاديمير بوتين على طول الطريق إلى منصة تيانانمين، ومثل هذه اللحظات الصادقة لا تعكس الصداقة الودية بين رئيسي الدولتين فحسب، بل تعكس أيضًا الأهمية الكبيرة التي توليها الصين وروسيا لبعضهما البعض، فضلاً عن العلاقات الودية بين الشعبين الصيني والروسي.

وفي مواجهة انتشار COVID-19، سار الصديقان القديمان "جنبًا إلى جنب"، لتقديم مساعدة نكران الذات لبعضهما البعض، فروسيا هي أول دولة من أرسلت وفدًا من الخبراء لمكافحة الوباء إلى الصين، والصين بدورها دولة رئيسية في تزويد روسيا بوسائل مكافحة الوباء، وفي بداية عام 2020، عندما عانت الصين أكثر من COVID-19، زودت روسيا الصين بـ 183 مترًا مكعبًا من البضائع الإنسانية - والإمدادات الطبية ومعدات الحماية الشخصية، ومع ذلك، استمرت جائحة COVID-19 في روسيا في التصعيد لاحقًا، لينتقل ليس فقط الى مستوى التزويد المتبادل للإمدادات الطبية، ولكن إلى مستوى التعاون الشامل ومتعدد المستويات، وحافظت الصين وروسيا على تواصل وتعاون وثيقين طوال الوقت، وتضافرت جهودهما للمساهمة في المعركة العالمية ضد الوباء، وفي قمة قادة مجموعة العشرين الخاصة بشأن الاستجابة لوباء COVID-19، أعرب شي جين بينغ وبوتين عن موقفهما بالإجماع، داعيا المجتمع الدولي إلى بناء الثقة والعمل معًا والتحدث بصوت واحد، في حين أكدت روسيا تصميمها على الوقوف إلى جانب الصين، وأشار مسؤولون روس مثل الرئيس فلاديمير بوتين ووزير الخارجية الروسي مرارًا وتكرارًا للولايات المتحدة إلى أنه من غير المقبول، نقل مسؤولية COVID-19 إلى جمهورية الصين الشعبية.

وتقف الصين وروسيا إلى جانب بعضهما البعض في القضايا ذات الاهتمام الحيوي، فبعد زيارة رئيسة مجلس الشيوخ الأمريكي بيلوسي الى تايوان، وعندما قررت ليتوانيا (البيدق في يد الغرب) للقوات المعادية للصين، تجاهلت السيادة الصينية وأعلنت عن إنشاء ما يسمى بـ "ممثليتها " بالتعاون مع الانفصاليين المؤيدين لـ "استقلال تايوان"، أجرى الرئيسان محادثة هاتفية في أغسطس202، اكد خلالها بوتين، إلتزام روسيا الحازم بسياسة صين واحدة، وتدعم الموقف الشرعي لجمهورية الصين الشعبية في الدفاع عن مصالحها الأساسية في الأمور المتعلقة بتايوان وهونغ كونغ وشينجيانغ وبحر الصين الجنوبي، وتعارض بشدة تدخل القوى الخارجية في الشؤون الداخلية للصين، كما عكست المحادثات الهاتفية بين قادة الصين وروسيا، التي أجريت في لحظات مهمة من تطور الجانبين، الدعم المتبادل والتفاهم والثقة بين الصين وروسيا بشأن القضايا الرئيسية، وهي دليل على المستوى العالي للصين- العلاقات الروسية.

النظام العالمي يواجه اليوم تحديات غير مسبوقة، فقد أعرب قادة الصين وروسيا عن موقفهم من حماية التعددية والعدالة الدولية خلال المحادثات الهاتفية وجسور الفيديو، هذا ليس فقط انعكاسًا لدعم التوازن الاستراتيجي العالمي، ولكنه أيضًا دليل على مسؤولية بلديهما كقوتين عالميتين، باعتبارها أعلى شكل من أشكال التبادلات الدولية، تلعب دبلوماسية رؤساء الدول دورًا مهمًا ولها قيمة استراتيجية لا يمكن استبدالها بتبادلات أخرى.

أن التقارب بين روسيا والصين، من وجهة النظر الغربية، بات يشكل مصدر قلق خطير في العواصم الغربية، حيث يعتبرون هذا الثنائي (روسيا والصين) منافسا محتملا للولايات المتحدة وحلفائها،خصوصا وان التفاعل بين روسيا والصين على الساحة الدولية يساعد على تعزيز المبادئ الأساسية للنظام العالمي وتعدد الأقطاب، وحذر الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ من تنامي التعاون العسكري والاقتصادي بين روسيا والصين معتبرا ذلك تهديدا للنظام العالمي الذي أنشأه الغرب، وأن الصين باتت ولأول مرة تدعم مطالب روسيا بإغلاق أبواب حلف الناتو وتتبنى وجهة النظر الروسية حول دوافع العملية العسكرية في أوكرانيا.

ويمر العالم حاليًا بتغيرات عميقة لم نشهدها منذ قرن من الزمان، وطالما أن الصين وروسيا تقفان جنبًا إلى جنب وتتعاونان بشكل وثيق، فسيتم ضمان السلام والاستقرار العالميين بقوة، وستتم حماية العدالة الدولية بشكل موثوق، وتحت قيادة رئيسي الدولتين، سيصبح التعاون الاستراتيجي الصيني الروسي في العصر الجديد أكثر استقرارًا وقوة، وستستمر الصداقة بين الشعبين بلا شك إلى الأبد، كما إن دبلوماسية رؤساء الدول على هذا المستوى الرفيع أمر نادر الحدوث في العلاقات الدولية الحديثة، وأبى الرئيس الصيني أن يغادر موسكو، دون أن يسعد" صديقه "، بكلمات على مبدا " أتكلم معاك يا أبنتي، واسمعي ياكنتي "، فقال شين مخاطبا بوتين، " هناك تغيرات جديدة لم تحصل منذ 100 عام، وعندما نكون معا نقود هذه التغيرات "، ليرد عليه الرئيس بوتين بالقول (أوافقكم الرأي)، كلمات نظن أنها لا تحتاج الى تعليق !

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

في المثقف اليوم