آراء

الملك غازي والسياسة

قيل الكثير عن عدم معرفة وإتقان غازي بالسياسة وأساليبها وفنونها وطيشه ونزقه بل وجنونه:

(ولنا أن نقول، إن الملك غازي قد غُلب على أمره وإستسلم لضغوط وقيود الحكومات، شاء أم أبى حتى النزع الأخير من حياته، لأنه لم يكن سياسياً مُحنكَاً، ولم تصقله التجارب أو تدركه الحيل في مواجهة أضداده من الساسة المخضرمين آنذاك) (1).

(درست تاريخ العرب والإسلام وآل عثمان، وتاريخ أوربا وملوكها، كنت أقرأ مثلاً أن ملكاً عظيماً خدم بلاده بكل ما أوتي به من حُبٍ وإخلاص حتى أوصل شعبه الى مراقي الفلاح، فإن مات وخلّف صبياً طائشاً نزقاً شبه مجنون، أنزل ولي عهده ذلك الشعب من قمة مجده الى حضيض الشقاء والتدهور، لأنه حلّ محل أبيه بالوراثة) (2). والصبي المقصود هو غازي.

والمصادر مملوءة بالمعلومات التي تشير لقلة فهم غازي وتطوره التعليمي البطيء لدرجة أن أباه فيصل قد أخذه الخوف على مستقبله ومستقبل البلاد عندما تكون بعهدته. أما المصادر البريطانية فقد أشارت بأن غازي قد أبدى قليلاً من التقدم عند دراسته في هارو بسبب قابلياته المحدودة وعدم إعداده بالمستوى المطلوب في صغره (3).

لكن هل كان غازي راغباً فعلاً في الدراسة في إنكلترا؟ وهل يرجع هذا التقدم القليل لخلل فيه؟ يقول د. لطفي جعفر فرج:

(والحق يُقال بأن عدم رغبة غازي بالدراسة في إنكلترة أو المكوث فيها لم يكن مرده الى نقص في الذكاء أو مجرد الحنين الى أهله وإنما هناك عامل آخر ألا وهو نقمته الشديدة على الإنكليز، حيث لم يستطع أن ينسى خذلانهم لجده الحسين بن علي وتخليهم عن وعودهم للعرب) (4).

هنا سنُمسك برأس الخيط في مقالنا الحالي، ونحاول أن نتأكد من هذا الزعم:

"لم يكن غازي سياسياً"، فهل فعلاً كان كذلك؟ لكن قبل ذلك لا بُد من المرور السريع على ولادة غازي ونشأته.

وُلِدَ غازي في مكة يوم 21 آذار 1912 (5). وهناك من يرى ميلاده في عام 1911 (6). وقد وصل لبغداد مع والدته وشقيقاته في 5 تشرين الأول 1924 (7). وتثقف على يدي إحدى المربيات الإنكليزيات، وسافر الى لندن ودرس في هارو ثم رجع الى العراق ودرس في الكلية العسكرية وتعلم ركوب الخيل بمهارة.

برأينا أن غازي لم يكن يفتقر الى الحنكة السياسية والمناورة مع البريطانيين والسياسيين العراقيين أيضاً، وسنُثبِتُ هذا من خلال شواهدَ تُفصِحُ عن هذه الحقيقة وبجلاء. لكن لا بُدّ من التأكيد الصارم على ما يلي:

عندما يريد الباحث الخوض في هذا الموضوع، لا بُد له من الإبتعاد عن مقارنة غازي بوالده، فنجم فيصل المُحَنّك سيُغطي ويحجب الضوء عن ولده غازي بكل تأكيد، إذ لا مجال للمقارنة بينهما من ناحية العُمر ـ تولّى غازي الحكم في 1933 وعمره 21 عاماً ـ والخبرة الميدانية. ثم إن الظروف التي جابهت غازي مختلفة جداً عن ظروف والده، فقد برز التوجه القومي والتدخل العشائري في السياسة، ثم تدخل العسكر وحدوث الإنقلاب العسكري الأول في العراق والمنطقة. وموقف الساسة العراقيين المُجَرّبين السلبي منه الى حد أن أصبح "سجيناً مُحتَرَمَاً"!

الشواهد:

أولاً: تصرف غازي أثناء نيابته عن والده بموجب الصلاحيات الدستورية المقترنة بنصائح والده، لكنه وقف موقفاً دستورياً صرفاً مُخالفاً لرغبات والده خلال أحداث الآثوريين، إذ كان موقفه مطابقاً لموقف الوزارة العراقية في تلك المشكلة (8).

ثانياً: تميزت الأيام الأول لعهد غازي بمجاراته للإنكليز، فقد أخذ يجتمع بالسفير البريطاني بصورة مستمرة ويؤكد له بأنه حريص على الأخذ بنصائحه وبأن العلاقة ستبقى كما كانت في أيام والده (9). وكُرهه للإنكليز معلوم جداً!

ثالثاً: وفي أشارة صريحة جداً على ما نجتهد في إثباته يقول د. فرج:

(إن عدم موافقة الملك غازي على إقتراح وزارة الكيلاني في حَلّ مجلس النواب فيها مؤشرات مبكرة توضّح شخصية غازي السياسية في السنة الأولى من توليه العرش، إذ لم يسمح للسلطة التنفيذية المتمثلة في الوزارة أن تطغى على صلاحياته الدستورية، كما خيّب آمال بعض الزعماء السياسيين الذين رأوا في حداثة سنه وقلة خبراته ما يجعله أداة بأيديهم. هذا بالإضافة الى أن رفضه شروط ياسين الهاشمي في تشكيل الوزارة وإختياره للمدفعي يدل أيضاً على أن الملك غازي حاول أن يكون فوق التكتلات الحزبية والرغبات الإنكليزية في هذا الشأن) (10).

رابعاً: أسند الملك غازي رئاسة الديوان الملكي لرشيد عالي الكيلاني، والأخير كما ترى بعض المصادر يحب دائماً أن يكون في الصف الأول. يقول د. عبد الله كاظم:

(وفي إعتقادي أن السبب الرئيس لتعيين الكيلاني، كان بهدف إيجاد موازنة يكون طرفيها نوري السعيد والكيلاني نفسه، لا سيما وأن الفكرة هذه قد تبلورت بشكل واضح لدى الملك غازي الذي رأى في الكيلاني نداً قوياً لنوري السعيد، وأن الإجراء قد تم بناءً على موافقته دون أن يُفرَض عليه ـ بحسب إعتقاده ـ، وبدت محاولة ناجحة للملك في مواجهة كبار السياسيين كما يرى خدوري. إذ لم يكن مرتاحاً من وزارة فُرِضَت عليه خلافاً لإرادته، خاصة وأن نوري السعيد بدأ العمل لإزاحة الملك عن الواجهة السياسية. والواقع أن تعيين الكيلاني مرة ثانية رئيساً للديوان الملكي، أثار لغطاً كبيراً، ولم يُقابَل بإرتياح البريطانيين ونوري السعيد) (11).

وهذه لعمري سياسة ما بعدها سياسة! رغم قول د. عبد "بحسب إعتقاده"، لكنها كانت محاولة ناجحة برأي خدوري.

خامساً: تمكّن رئيس الوزراء ياسين الهاشمي من شَلّ تصرفات الملك غازي وحوّله لمجرد رمز، خصوصاً بعد قضية هروب الأميرة عزة، هذه القضية التي إستغلها الساسة وجعلوها كقميص عثمان (12). لكن هل يعني هذا إستسلام الملك غازي؟ يقول د. فرج:

(إن خضوع الملك لضوابط ياسين لم تستمر طويلاً، ففي أوائل تموز 1936 ظهرت بوادر محاولاته لإستعادة سلطته، فقد أخذ الملك يُظهِر بعض المقاومة لخطط الحكومة المتعلقة بالإشراف على القصر، وبدأ يحاول إرجاع بعض الأشخاص الذين أُبعدوا عنه، بحيث شعر ياسين بأنها علامات خطيرة لإستعادة الملك لسلطته) (13). ولم تقف محاولات غازي عند هذا الحد، بل فَكّر في الإعتماد على الجيش من أجل التخلّص من وزارة ياسين الهاشمي وتهيئة أفكار الضباط لهذه المسألة (14).

سادساً: وفي خطوة تدل على التحدي والشجاعة في مواجهة ممثل عتيد للطبقة السياسية آنذاك، ترك غازي نوري السعيد الذي عاد الى العراق في 22 تشرين الأول 1938 وجاء لمقابلة الملك، تركه ينتظر طويلاً قبل أن يسمح له بمقابلة قصيرة لم يتحدث غازي خلالها إلا عن الأحوال الجوية! وهذا ما أزعج السعيد الذي أخذ يذم الملك (15).

سابعاً: إهتم الملك غازي إهتماماً خاصاً برجال الدين، فقد إستقبل في أثناء زيارته للنجف كُلاً من: أبو الحسن الأصفهاني، محمد حسين كاشف الغطاء، عبد الكريم الجزائري، جواد الجواهري. وحظي بالمثول بين يديه في بغداد روبين ميانسيان مطران الأرمن وإستقبل يوسف عمانوئيل بطريرك الكلدان (16). بماذا يُعَلّل د. عبد هذا الإهتمام من جانب غازي؟ يقول:

(وربما أراد الملك من ذلك كسب ود علماء الدين، والتأثير بواسطتهم للحصول على تأييد الرأي العام في صراعه الخفي مع البريطانيين وبعض الساسة الموالين لهم) (17).

وقد إهتم البلاط الملكي أيام ثورات العشائر في وزارة ياسين الهاشمي إهتماماً خاصاً ينم عن ذكاء ومرونة في صراعه مع الوزارة، يقول د. عبد:

(ومن المهم أن نشير إلا أن البلاط الملكي كان قد تعامل مع هذه الأحداث السياسية بأسلوب دبلوماسي مرن حاول فيه تفادي إراقة دماء أبناء الشعب ودفع شبح الخراب عن البلاد، فأصاب جهده مرة وجانب النجاح في الأخرى) (18). وقد حاول البلاط الملكي أن يتحول لمركز إستقطاب للشخصيات السياسية ونقطة إلتقاء الأطراف المتصارعة بعد إسقاط وزارة الهاشمي، مع ميل واضح الى إستغلال الأوضاع الى جانبه (19).

ثامناً: إنضمت اليمن "لمعاهدة الأخوة والتحالف" بين العراق والسعودية في 23 حزيران 1937 وقد عرف الملك غازي ـ يقول د. فرج ـ كيف يستغل مخاوف الإنكليز بإتجاه كسب تأييدهم لإنضمام اليمن الى هذه المعاهدة، فقد أخذ يُحذر الإنكليز من مشاريع الإيطاليين الطموحة مع اليمن، وأنهم سيحصلون على منافع كثيرة هناك (20). وقد حرص غازي في قضية سوريا على أن لا يُظهر من جانبه ما يمكن إعتباره مقاومة للمساعي السعودية تجاه سوريا بقدر ما يُظهر بأن السوريين أنفسهم يُنادون بالإنضمام الى العراق بزعامة غازي، فقد تجنب الأخير الإصطدام بالملك عبد العزيز حفاظاً على علاقاته الجيدة معه، وركز على كسب السوريين بتشجيعهم على الوحدة الوطنية والكفاح من أجل الإستقلال (21).

نتيجة المقال:

إتضح الآن بعد هذه النماذج أن القول بأن "غازي لم يكن سياسياً مُحَنّكَاً" يجب أن يوضَع بين مزدوجين، ويتم التحفظ عليه، فمن ذهب إليه فسيكون طريقه:

من خلال مقارنة غازي بأبيه، وهذا خطأ كبير كما أثبتنا في أعلاه. ومن خلال التغاضي عن سياق المرحلة شديدة الحراجة، فالظروف التي واجهها غازي مختلفة عن ظروف فيصل، هذا إذا علمنا بأن الطبقة السياسية المحيطة بغازي تتحمل جزءاً كبيراً من هذا الخراب الذي حَلّ بالمملكة، يقول د. الزبيدي في نص بالغ الأهمية:

(وهكذا يتبين لنا من سير الأحداث أن المسؤولية تقع على عاتق: رشيد عالي الكيلاني ونوري السعيد وياسين الهاشمي وجعفر العسكري وناجي شوكت بصورة مباشرة. فلو تعاون هؤلاء الساسة مع الملك غازي ووضعوا خبرتهم وتجاربهم في خدمة البلاد بعيداً كل البعد عن الأطماع والشهوات والمصالح الذاتية الضيقة لما حَلّ بالبلاد ما حل ولما وصلت الى ما وصلت إليه. ومع كل هذا فقد أسقطوا كل المشاكل التي خلقوها على الملك غازي متذرعين ب"جهله" تارة و"بقلة تجربته في الحياة" تارة أخرى أو بصغر سنه "زعطوط" وعدم نضجه. الى غير ذلك من الصفات التي كانوا يصفون بها الملك) (22).

ومن الأهمية الإستشهاد بما أثبته باحث آخر يُعَزّز ما ذهبنا إليه:

(لكننا لا يمكن أن نركن الى أن الملك الشاب يعاني من الضعف الذي تصوروه، بعد إن إستقطب إعجاب شعبه بكل فئاته حينما عبّر بشجاعة عن إنتمائه لشعبه وأمته في مواجهة 1933 التي وقف الإنكليز بقوتهم العسكرية ودهائهم السياسي في الطرف المضاد. لذلك لا نفترض مجرد إفتراض بأنه أفلح في تحشيد ما يمكن تحشيده لمواجهة خصومه وبالأسلوب ذاته الذي إنتهجه الخصوم، المناورة السياسية والدهاء والسرية التي تقتضيها الحالة. وحتى حينما فاجأوه بفضيحة شقيقته التي إستدرجها خادم إيطالي لقصة عشق لا تخلو من فعل مقصود

لخصومه بقصد تصعيد الحرب التي شُنت عليه، عسى أن تنال منه. لكن موقفه الحكيم فوّت على خصومه ما نصبوه له من شرك قاتل رغم الإجراءات أن التي إتخذوها لتحجيم دور الملك تجاوزوا فيها كل المقاييس) (23).

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

..................

الحواشي:

1ـ عبد الله كاظم عبد: تطور البلاط الملكي العراقي 1933 ـ 1939، مكتبة الرائد العلمية عمّان الأردن ط1 2007 ص332

2ـ ناجي شوكت "رئيس الوزراء الأسبق": سيرة وذكريات ثمانين عاماً 1894 ـ 1974، دار الكتب بيروت لبنان ط2 1975 ص104 حديث للمؤلف مع الملك فيصل

3ـ رجاء حسين حسني الخطاب: المسؤولية التاريخية في مقتل الملك غازي، منشورات مكتبة دار آفاق عربية بغداد ط1 1985 ص9 وكذلك:

محمد حسين الزبيدي: الملك غازي ومرافقوه، دار الحرية بغداد 1989 ص21

4ـ لطفي جعفر فرج: الملك غازي ودوره في سياسة العراق في المجالين الداخلي والخارجي 1933 ـ 1939، منشورات مكتبة اليقظة العربية بغداد 1987 ص33

5ـ المصدر السابق ص17 وكذلك/ الزبيدي: المصدر السابق ص7

6ـ الخطاب: المصدر السابق ص9

7ـ لطفي جعفر: المصدر السابق ص20 أما د. الخطاب فتجعل تاريخ الوصول في 1923 ص9

8ـ لطفي جعفر: المصدر السابق ص45

9ـ المصدر السابق ص66

10ـ المصدر السابق ص69

11ـ عبد الله كاظم: المصدر السابق ص50 و 51

12ـ الزبيدي: المصدر السابق ص132

13ـ لطفي جعفر: المصدر السابق ص112

14ـ المصدر السابق ص123 و 131 وقد ذكر د. القيسي دليلاً حَيّاً على ضلوع غازي بالإنقلاب، يقول: (أخبرني محمود صبحي الدفتري في مقابلة معه بتاريخ 11 آذار 1973 أن ناجي الأصيل تعيّن مديراً للتشريفات في البلاط الملكي قبل الإنقلاب بعدة أشهر، وهو الذي جَسّ نبض غازي ووجده مستعداً لتأييد الإنقلاب أو أية حركة تُطيح بالوزارة، فقام بنقل رغبة الملك الى حكمت وغير حكمت. كما أيّد ناجي شوكت في مقابلة معه بتاريخ 16 تشرين الأول 1972 أن الملك كان عالماً بالإنقلاب وقال بالحرف الواحد: إن الملك كان يعلم بالإنقلاب 100%) يُراجَع:

سامي عبد الحافظ القيسي: ياسين الهاشمي وأثره في تاريخ العراق المعاصر 1922 ـ 1936، منشورات دجلة المملكة الأردنية الهاشمية 2013 ص523

15ـ لطفي جعفر: المصدر السابق ص177 و 178

16ـ عبد الله كاظم: المصدر السابق ص261

17ـ المصدر السابق ص262

18ـ المصدر السابق ص271

19ـ المصدر السابق ص277

20ـ لطفي جعفر: المصدر السابق ص198 و 199

21ـ المصدر السابق ص202

22ـ الزبيدي: المصدر السابق ص132

23ـ حسام الساموك: الملك غازي ودوره في إنقلاب بكر صدقي عام 1936 وقضية هروب الأميرة عزة أخت الملك غازي وزواجها من خادم يوناني وأثرها على الإنقلاب، الدار العربية للموسوعات بيروت ط1 2005 ص61 و 62

في المثقف اليوم