آراء

عبد السلام فاروق: حول مائدة واحدة

هناك موقف حدث فى بدايات رمضان الماضي تداولته وسائل التواصل عن مواطن مسيحى قام بإعداد مائدة رمضانية طويلة يشارك به المسلمين احتفاءهم بشهر رمضان الكريم.. لم يكن موقفاً إعلامياً.. ولم يكن الوحيد.. حدث ويحدث فى مصر فى كل محافظة ومدينة بشكل أو بآخر..

موائد الرحمن فى كل عام منذ نشأتها تجمع المسيحى والمسلم. بالعكس هناك مسيحيون يحبون موائد الرحمن ويحرصون على التواجد بها فقط لأنها تعبر عن روح المشاركة والترابط على المستوى الإنسانى قبل الدينى.. الأعياد والمناسبات السعيدة كانت دائماً هى الموائد التى تجمعنا جميعاً نسيجاً واحداً مكونا من عنصرين مسلم ومسيحى..

لو أردنا أن نتحدث عن مفهوم الوحدة الوطنية كمصطلح عام فإن المقصود به هو اجتماع كل المواطنين فى الدولة تحت راية واحدة من أجل تحقيق هدف مشترك يسمو فوق أى خلاف حزبي أو عرقى أو طائفى.. مثل هذا التعريف ينسحب على أى شعب ودولة.. هناك دول يمثل المسلمون فيها أقليات فهل تتمتع تلك الدول بوحدة وطنية؟ الأمر يختلف باختلاف القوانين والدساتير التى تحكم تلك الدول.. أما فى مصر فالأمر يتجاوز القوانين المجردة إلى ما هو أعمق وأرقى..

الوحدة الوطنية فى مصر لم تكن أبداً وطوال تاريخها الطويل مجرد شعارات أو قوانين تصاغ فتحكم العلاقة بين المسلم والمسيحى، أبداً.. فحتى فى غياب هذه القوانين أو غياب تطبيقها، كان المسلمون والمسيحيون يتعايشون بصورة رائعة لدرجة أنك فى كثير من الأحيان تجد جيراناً بينهم علاقات ود وتعاملات اجتماعية وتجارية من كل نوع ثم تكتشف من خلال الأسماء فقط أنهم مسلمون أو مسيحيون..لطالما سارت الحياة فى مصر بين مكونى النسيج الوطنى على هذا النحو...

نعرة التفرقة لم تظهر فى مصر سوى مع الاحتلال.. وربما لهذا كان أول ما فعله المصريون فى ثورة 19 أنهم أشهروا فى وجه عدوهم المحتل راية الوحدة الوطنية.

المنيا نموذجاً

لعل من أكثر محافظات مصر الشاهدة على مظاهر وحدتنا الوطنية كانت محافظة المنيا.. تاريخياً وجغرافياً..

أولاً هى عروس الصعيد الواقعة فى منتصف الوادى الخصيب، كأنها رمانة الميزان بين طرفيه.. وهى زاخرة بعشرات المساجد والكنائس والأديرة فى كل ركن ومدينة ، بعضها أثرى عتيق ضارب فى عمق التاريخ والبعض الآخر معاصر. مساجد الصحابة والأولياء كثيرة فى المنيا يقصدها المسلمون من كل مكان.. وفى المقابل يمثل دير السيدة العذراء بمدينة سمالوط مقصداً للمسيحيين من كل الأنحاء.. أنت أمام مشهد يعبر بكل جلاء ووضوح عن وحدة وطنية حقيقية عميقة وغير مصطنعة تبدو فى كل مظاهر الحياة والمعيشة اليومية بين سكان عروس الصعيد خاصة إذا توغلت فى شوارعها وقراها ورأيت كيف يعيش المسلم بجوار المسيحى فيتشاطران الحياة اليومية بكل مظاهرها حلوها ومرها وبكل أحداثها السعيدة والتعيسة..

نحن لا نشعر بكلمة الوحدة الوطنية لأننا نعيشها حقيقة واضحة.. لكن الذى قد يتعجب من مظاهرها الواضحة الجلية فى مصر هم الزائرون من خارجها..فالأجانب بعضهم لديه تصور مسبق مغلوط عن طبيعة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين بسبب ما تمارسه بعض قوى الشر المغرضة من محاولات لتأجيج صراعات فردية أو معارك مفتعلة من حين لآخر حقداً وبغضاً لتلك الحالة الفريدة الطبيعية والتاريخية من الوحدة الوطنية فى مصر..

شعار أم ضرورة

حتى فى أمريكا بلد الحريات لطالما كانت هناك تفرقة فظيعة بشعة فى أقسي وأعنف صورها بين الأمريكيين البيض من ناحية وبين فئات مجتمعية مختلفة على رأسهم الزنوج.. ثم المواطنين الأصليين من أحفاد الهنود الحمر، ثم الأقليات الأخرى من المهاجرين من دول أمريكا اللاتينية وغيرهم..هذه التفرقة كانت لها مظاهر اجتماعية وسياسية واقتصادية ودينية كثيرة شملت تضييقاً فى السكن والعمل والترقى الوظيفى والحقوق المدنية ومظاهر ممارسة العبادة وغيرها.. تلك المظاهر تفاوتت قسوتها وشدتها من حقبة زمنية لأخرى.. غير أنها كانت وما زالت موجودة بصورة أو بأخرى.. نحن فى مصر مختلفون عن كل هذا.. طبيعة البلد نفسها تستوعب وتهضم الاختلاف فى العقائد والعرقيات والطوائف  على مدار التاريخ.. وخير شاهد على هذا ما حدث من نزوح لأشقائنا العرب إلى مصر بالآلاف وانسجموا واندمجوا داخل النسيج المصرى دون أن يشعروا بأدنى تفرقة أو اختلاف.

الحق أن الوحدة الوطنية الطبيعية بين عناصر المجتمع المصري كانت دائماً ركيزة لحالة الأمن والأمان السائدة بين أرجائه.. لا يعكر صفوها إلا ما كان يحدث أحياناً من قلاقل نادرة إذا قيست بما يحدث حولنا فى أى مكان بالعالم.. طبيعى أن تكون فى كل مجتمع بعض العناصر الإجرامية أو المتطرفة لكنها تبقى مجرد استثناء يؤكد القاعدة..

فى التاريخ المصري نماذج كثيرة مشرفة من الأخوة الأقباط برزوا ولمع نجمهم فى كل مجال وموقع سياسي أو قضائى أو فنى أو طبى أو عسكرى.. ولو توقفت عند بعض الأسماء البارزة المعاصرة أو السابقة فلن يسعنى الوقت وسأظلم أسماء كثيرة قد أنساها.. الدور الوطنى نحو مصر لا يفرق بين مسلم ومسيحى ، فنحن جميعاً نتحرك مع وطننا ونحركه فى اتجاه النجاة.. ولو أن إحدى دفتى المسيرة توقفت فلاشك أن الوطن كله يتضرر..

سمات وحدتنا الفريدة

فى مصر ظهرت وحدة وطنية ذات شكل وفورم فريد قلما ترى مثله فى أى مكان بالعالم.. وهى وحدة لها سمات ومظاهر تشكلت عبر التاريخ وتجلت بوضوح فى أوقات الأزمات المشتركة.. بداية من المحاولات الاستعمارية الأولى خلال الحروب الصليبية..تلك التى أظهرت مدى قوة روح المواطنة لدى أقباط مصر الذين شاركوا المسلمين فى مقاومة المستعمر الغاشم حتى طردوه.. هذا أحد المظاهر المتكررة فى تاريخ الوحدة الوطنية المصرية الأصيلة ومشاركة المسلمين والمسيحيين معا فى طرد الغزاة منذ الحروب الصليبية وحتى حرب أكتوبر المجيدة..

الشخصية المصرية لها طابع متوارث شديد العمق والرسوخ لعل إحدى أهم سماته أصالة الطابع الوطنى فيه بغض النظر عن أية اعتبارات طائفية أو عرقية..

الوحدة الوطنية انتصرت دائماً وعبرت جميع مراحلها الصعبة  ونجحت فى تخطى سائر الاختبارات الصعبة بدايةً من ثورة يوليو 52 ومروراً بالعدوان الثلاثى ونكسة 67 وحتى حرب العاشر من رمضان.. وحتى عندما حدثت بعض حوادث التفجيرات التى اتضح أنها كانت مفتعلة وبتحريض من أطراف لا تحب لتلك الحالة من الانسجام أن تستمر فإن الوحدة الوطنية التى تجرى فى ثنايا الشعب المصري مجرى الدم فى العروق نجحت فى سرعة نبذ تلك الحوادث وتجاهلها باعتبارها أمر عارض عابر لا يؤثر على متانة العلاقة بين عنصري المجتمع المصري.

معارك التحدى والوجود

منذ أحداث 25 يناير ثم 30 يونيو ومصر تعيش حالة من التقلب أحيانا والتغير أحياناً والتطور أحياناً أخرى.. تحديات كثيرة واجهت المجتمع المصرى.. لكن العجيب أن الوحدة الوطنية بقيت كما هى لم تمس أو تتأثر.. بل وربما لا أبالغ

إذا قلت إن الارتباط بين المسلمين والمسيحيين ازدادت مظاهره وقويت أواصره..

وأعود لأؤكد أن تلك الحالة من الوحدة الوطنية الأصيلة بين عنصري النسيج المصرى هى الضمانة الكبري لدوام حالة الاستقرار وشيوع الأمن والأمان فى ربوع الوطن. وأن هذا المضمون والهدف يدركه كل مصرى ويعمل على ترسيخه والدليل أن وحدتنا لم تتأثر يوماً رغم كل ما واجه مصر من تحديات.

الشعب المصري أثبت دائماً أنه على وعى تام بأن بقاء الوطن وازدهاره يعتمد فى الأساس على بقاء تلك الحالة من الانسجام والوئام بين عنصري الوطن تحت الشعار الذى رسخته ثورة 19: "عاش الهلال مع الصليب"..

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم