آراء

محمد محفوظ: نظرات في مآلات دول الربيع العربي

تثبت الأحوال والتطورات التي تجري في الدول التي أسقطت أنظمتها السياسية، ودخلت مرحلة بناء نظام سياسي جديد، وتوافقات مجتمعية جديدة، أن الهدم مهما كانت صعوباته وعقباته، أسهل بكثير من مشروع البناء لما يحقق التطلعات والطموحات العامة.. لأنه دائما لحظات الانتقال السياسي والاجتماعي من نظام سياسي إلى آخر ومن شبكة مصالح مستقرة وقائمة، إلى بناء شبكة أخرى وفق شروط ومواصفات مختلفة أقول أنه دائما لحظات الانتقال، يرافقها بروز لكل الطموحات والتطلعات بحيث يسعى كل مكون اجتماعي أو سياسي للتفكير في مصالحه ورفع الصوت من أجل عدم التعدي أو تجاوز ما يعتبره هذا المكون أو ذاك أنه مصالحه الحيوية..

أسوق هذا الكلام ليس من أجل تحبيذ سياسة إبقاء  ما كان على ما كان، وإنما للقول: إن مرحلة البناء في أي فضاء اجتماعي أو سياسي أو وطني، يتطلب لياقات وإمكانات بشرية قادرة على تجاوز كل العقبات وعدم تضييع البوصلة في زحمة الأزمات والاستحقاقات المتفاوتة.. ولكي تتضح هذه الرؤية بشكل دقيق ومفصل وانطلاقا من تجربة دول الربيع العربي خلال عام وأشهر في بناء واقعها السياسي الجديد أذكر النقاط التالية:

1 - ثمة أطراف محلية وإقليمية ودولية عديدة، تعمل بوسائل مختلفة على وأد الربيع العربي وعدم وصوله إلى نهاياته السياسية في بناء دول ديمقراطية – تعددية.. ولا شك أن حضور القوى الحية في الشعوب العربية وإصرارها على النزول إلى الميدان والمعترك السياسي، سيساهم في إفشال الإرادات المحلية والإقليمية والدولية المضادة..

2- تؤكد تطورات الأحداث في دول الربيع العربي، أن قوى الإسلام السياسي أمام فرصة تاريخية للمساهمة في مشروع التحول الديمقراطي في المنطقة.. وهذا يتطلب من قوى الإسلام السياسي الالتزام بمسألتين أساسيتين وهما:

1- الالتزام بالديمقراطية بكل آلياتها وميكانيزمات عملها، بوصفها الخيار الوحيد لإدارة المجال العام على أسس جديدة في المنطقة العربية.. فالديمقراطية ليست تكتيكا للتمكن السياسي، وإنما هي خيار نهائي..

إذا تمكنت قوى الإسلام السياسي من الالتزام بالديمقراطية ومقتضياتها، فإن هذه القوى وبزخمها الشعبي، ستساهم بإيجابية في عملية التحول الديمقراطي في المنطقة..

2-عدم اسقاط المنطقة في الفتن الطائفية والمذهبية وهذا يتطلب من قوى الإسلام السياسي، خلق مقاربة فكرية وسياسية جديدة لحقيقة التعدد الديني والمذهبي في المنطقة..

ولا ريب أن انزلاق قوى الإسلام السياسي نحو الفتن الطائفية والمذهبية، سيضيع فرصة مشاركتها الفعالة في مشروع التحول الديمقراطي..

3- يبدو من مجموع المعطيات السياسية والإستراتيجية والأمنية المتوفرة، عن بلدان الربيع العربي، أنها تتجه إلى توزيع مصادر القوة في الاجتماع الوطني بين العسكر والحركات الإسلامية بكل تشكيلاتها وأطيافها وألوانها.. بحيث تكون الدولة والخيارات الاستراتيجية بيد المؤسسة العسكرية، أما السلطة كفضاء للتنافس والتداول، فسيكون في أغلب هذه الدول بيد الحركات الإسلامية..

وطبيعة المستقبل السياسي المنظور لدول الربيع العربي، ستكون مرهونة إلى حد بعيد إلى طبيعة العلاقة التي ستتشكل بين العسكر والإسلاميين.. فإذا كانت العلاقة قائمة على أساس التناغم التام، فإن الأمور تتجه إلى أن تكون دول الربيع العربي أشبه ما يكون إلى النموذج الباكستاني.. أما إذا كان الإسلاميون ينشدون بناء دولة مدنية – ديمقراطية، ويبادرون باتجاه بناء كتلة سياسية – ديمقراطية واسعة تتجه صوب هذا الهدف، وتحول دون هيمنة العسكر، فإن النتيجة حتى ولو كانت هناك صعوبات حقيقية آنية من جراء التنافس والتدافع والصراع، هي اقتراب دول الربيع العربي من النموذج التركي..

4- في سياق التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يتم الخلط الدائم بين الفكرة الديمقراطية التي قد لا تختلف عليها القوى السياسية والاجتماعية.. وبين النظام الديمقراطي، الذي يتطلب في المرحلة الأولى تفكيك النظام السابق وشبكة المصالح القائمة وبعد ذلك تأتي مرحلة إرساء معالم النظام الديمقراطي الجديد..

فالفكرة الديمقراطية هي فكرة حالمة، لأنها تتحدث عن ما ينبغي أن يكون، دون الوقوف أمام مشاكل الانتقال وطبيعة الانقسامات والصراعات الاجتماعية والسياسية الناتجة من تناقض المصالح أو الخوف من ضياعها وخسارتها.. وبين النظام الديمقراطي الذي يتطلب وقائع اجتماعية جديدة وممارسة سياسية واجتماعية تعتني بإدارة اللحظة بكل زخمها وتبايناتها وتناقضات القوى المختلفة التي تشكلها.. فبناء الديمقراطيات يتطلب مغالبة دائمة لكل نزعات الاستبداد، وتأسيس مستمر لوقائع وحقائق الحرية والديمقراطية في الفضاء السياسي والاجتماعي.. ووجود أزمات ومشاكل وانقسامات اجتماعية ونزاعات سياسية، كلها ظواهر طبيعية في مجتمع يريد الانعتاق والتحرر.. كما أن الديمقراطية لا تنهي هذه النزاعات والانقسامات، وإنما تنظمها في إطار تنافس سياسي – سلمي، محكوم بقواعد دستورية وقانونية..

وإن شروط نجاح جهود المصالحة والانصاف في مجتمعات الربيع العربي هي الآتي:

1- الالتزام بمقتضيات التغيير الديمقراطي – السلمي في الدولة والمجتمع..

2- بناء التحالفات السياسية والاجتماعية الواسعة..

فالتحالفات السياسية العابرة للمشارب الأيدلوجية والفكرية والسياسية، هي القادرة على إنجاز المصالحة والإنصاف، وضبط نزعات الثأر والانتقام..

3- الديمقراطية حق الجميع: لعل من الأخطاء الكبرى في مرحلة العدالة الانتقالية، والتي تساهم في شحن النفوس والبحث عن آليات للدفاع عن الجماعة الخاصة، هو العمل بعقلية (ديمقراطية الاستثناء) التي تتجه لاعتبارات معينة في استبعاد شريحة أو فئة من الواقع السياسي الجديد..

4- فالاستثناء والإقصاء يخرب العملية السياسية، ويفتح المجال للنافذين إلى التلاعب في هذا الحق.. وهذا بطبيعة الحال يقتضي إعطاء أولوية إلى بناء مرجعية قانونية ودستورية حتى يتم التنافس بين مختلف القوى في سياق مرجعية دستورية، تكون هي الحكم والفيصل حين النزاع، أو في تحديد الأولويات وجدول الأعمال الوطني للإصلاح والتغيير..

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

في المثقف اليوم