آراء

بكر السباتين: أكبر سر تحتفظ به المقاومة الموحدة في غزة

المواجهات بين المقاومة الموحدة و"إسرائيل" أماطت اللثام عن تطور استراتيجي حصل في معادلة التوافق بين فصائل الفلسطينية في غزة للرد على العدوان الإسرائيلي المستمر وهذا يسجل للمقاومة الموحدة.

إنه اشتباك غير معهود منذ تأسيس غرفة العمليات المشتركة من خلال إعادة توزيع الأدوار وخاصة بين الفصيلين الكبيرين حماس والجهاد الإسلامي وفيه تداخل ذكي ما بين السياسي المعلن والميداني الفعّال في غرفة القيادة المغلقة فلا يتسرب منها سوى ما يندرج في خانة الإعلام العسكري في سياق بيانات رسمية.

وهذا من شأنه أن يفسر ذلك القصف الصاروخي الكثيف للعمق الإسرائيلي من قبل غرفة العمليات المشتركة، بتطوير التكتيكات العسكرية لاستنزاف القبة الحديدة، من خلال إطلاق قذائف الهاون غير المكلفة بغزارة، وبذلك يتم إهدار طاقات القبة الحديدية التي ارتبك أداؤها فلم تعد قادرة على مشاغلة صليات الصواريخ الكثيفة متفاوتة المدى بكفاءة.. مع العلم بأن تكلفة كل صاروخ فيها يتجاوز ال 100 ألف دولار مقابل قذائف هاون لا تتجاوز كلفتها الخمسين دولار وصواريخ لا تكلف سوى بضعة آلاف.

والنتيجة أن الصواريخ المحسنة تجاوزت غلاف غزة حتى عمق 80 كم نحو جنوب تل أبيب والقدس وبيت لحم على اعتبار أن كل هدف منها يشكل رسالة ذات دلالات أمنية وسياسية.

ورغم أن عمليات الرد على العدوان الإسرائيلي كانت مشتركة من قبل جميع فصائل المقاومة بما فيها حماس التي تسيطر على قطاع غزة وذلك تحت قيادة الجهاد الإسلامي التي تصدرت المشهد، إلا أنه بدا وكأن حماس توارت في الظل ولو إعلامياً ما ترك موقفَها عرضةً للتكهنات- سنقف على سر ذلك لاحقاً في سياق هذا المقال-.

وهو ما يسعى الإعلام الإسرائيلي إلى إظهاره وفق استراتيجية حكومة اليمين الإسرائيلية المتطرفة في خطابها الإعلامي الجديد بغية شرذمة المقاومة الفلسطينية الموحدة وتفكيك غرفة العمليات المشتركة والتأثير سلبياً على قاعدتي الحركتين الجماهيرية وستكون بمثابة "ضربة معلم" بالنسبة لنتنياهو لو أصاب هدفه، وذلك من خلال التركيز على فصيل دون الآخر.. في عملية أطلقوا عليها اسم"القوس" مستهدفة قادة الجهاد الإسلامي الأمنيين الخمسة بغية إرباك عملية قصف الصواريخ، وهذا لم يحصل إذْ أن الضبط والربط كان السمة البارزة في أداء الجهاد الإسلامي الذي توسع في قصف العمق الإسرائيلي باقتدار. وعلى رأي المثل: "كأنك يا أبو زيد ما غزيت".

وتمسكاً منها بمطالبها الثابتة فقد أطلقت المقاومة على العملية اسم"ثأر الأحرار" لأنها تسعى من خلالها إلى تحقيق عدة أهداف أولية طياً لهذه المرحل العصيبة التي فرضت عليها:

-ردع الاحتلال ومنعه من استهداف قادة حركات المقاومة.

-تسليم جثمان الشهيد خضر عدنان القائد في الجهاد الإسلامي الذي قتله الإهمال الطبي الإسرائيلي الممنهج.

-وقف مسيرة الأعلام الإسرائيلية التي ستنطلق بعد تسعة أيام انطلاقاً من باب العامود مروراً بالحي الإسلامي حتى باب المغاربة" وفق ما قالته القناة 12- العبرية.

وهي شروط أبلغتْ بها المقاومةُ الوسطاءَ (مصر وقطر ومبعوث الأمم المتحدة).

إن محاولة إثارة الفتنة بين فصائل المقاومة من أهم أهداف عملية"ثار الأحرار" وهذا ما يؤكده تركيز بيانات الحكومة الإسرائيلية على الجهاد الإسلامي فيما أخذت تتعامل مع حماس كطرف محايد لا يجب أن يتدخل في قصف العمق الإسرائيلي.. موحية إليه بما يشبه الاتفاق الضمني فيما لو اقترفت حماس ذلك؛ فإن القصفَ سيستهدف المواطنين في غزة دون حساب. وعلى رأي المثل القائل" أكلت يوم أكل الثور الأبيض".

كل ذلك يثبت بأن صمت حماس النسبي ليس تنسيقاً سرياً مع الاحتلال كما يوحي إليه الخطاب الإعلامي الحربي الإسرائيلي؛ بل هو استراتيجية مدروسة بالتوافق مع حركات المقاومة أل(12) المنضوية تحت غطاء "غرفة العمليات المشتركة".. في إطار إعادة توزيع الأدوار التي حافظت على زخمها، وذلك للتهرب من ضغوطات ثاني اكبر حلفاء حماس بعد إيران.. والمقصود هنا (تركيا) كون حماس تدير قطاع غزة، ولديها حسابات دبلوماسية مع داعمي القطاع تنموياً، مع مراعاة بقاء رد المقاومة إزاء كل عدوان متنامياً في إطار وحدة الساحات؛ لذلك حافظ القصف الصاروخي على زخمه رغم استشهاد أهم قادة الجهاد الإسلامي الميدانيين.

وتعلم القيادة الإسرائيلية بأنه دون حماس سيكون إرباك قيادة الجهاد في مثل هذه الظروف هو الموقف المتوقع وهو ما لم يحصل.

ولا ريب أن هذه اللعبة كانت مكشوفة لقادة الاحتلال الإسرائيلي وعلى رأسهم نتنياهو؛ الذي آثر غض الطرف عنها لحفظ ماء الوجه أمام الإسرائيليين الذين هم على استعداد لقلب الطاولة على حكومته وخلط أوراقه السياسية، وبالتالي العودة إلى خيار الانتخابات المبكرة والنتيجة أن نتنياهو سيزج به في السجن على خلفية قضايا سابقة.

فزخم حماس العسكري موجود في غرفة العميلات المشتركة ضمن قواعد اشتباك تقليدية ولكن هذه المرة دون المساس العشوائي بالمواطنين من قبل الطيران الإسرائيلي كما كان دارجاً في السابق والمرهون بمشاركة حماس المعلنة- وفق ما سنرى-.

وتمهيداً لتفسير التَغَيُّرِ الحمساويِّ الشكليِّ وثباته جوهرياً؛ لا بد من معرفة أن حركة الجهاد الإسلامي لا تتلقى الدعم إلا من قبل محور المقاومة الذي يناصب "إسرائيل" العداء المعلن، خلافاً لما تعانيه حماس التي تتلقى الدعم المفتوح من محور المقاومة كعضو فاعل فيه، إلى جانب داعمي التنمية في غزة وهم: قطر وتركيا والجزائر.

وكانت تركيا التي استعادت زخم علاقاتها مع "إسرائيل" قد خَلُصَتْ -من منطلق مصالحها الاقتصادية- إلى تفاهمات ضمنية مع حماس بضمان عدم مشاركتها في أية عمليات ضد الاحتلال مقابل عدم استهداف المواطنين في غزة عشوائيا من قبل الطيران الإسرائيلي كما كان معهوداً في السابق حرصاً من أنقرة على سلامة المواطنين في القطاع وحماية تنميته المتعثرة، وإرضاءً للشريك الإقليمي الجديد في اتفاقية مرور خط الغاز الإسرائيلي عبر تركيا إلى أوروبا.. وعليه فقد اكتفت تركيا بالحدِّ من تحركات قادة حماس السياسيين فيما دفعت بالقادة العسكريين إلى الخروج من أراضيها تباعاً.

هذا ما يستشف مما قالته صحيفة هآرست في مايو 2022 على إثر التقارب مع "إسرائيل" وتبادل السفراء بين البلدين في أن الطرف الإسرائيلي آنذاك طلب من تركيا إخراج قادة حماس من أراضيها.

وظلت تركيا تلعب دور الوسيط ولكن من خلال الدور القطري الفاعل بحكم التحالف بينهما.

لذلك قامت حماس بترتيب الأدوار في غرفة العمليات المشتركة كما ذكرنا آنفاً.

وعليه.. فبعد ثلاثة أشهر من التفاهمات أعلاه، تم تطبيق استراتيجية حماس الجديدة بالمشاركة في غرفة عمليات مشتركة تقودها الجهاد الإسلامي مع توفير الغطاء السياسي لها في عملية "وحدة الساحات" أوغسطس 2022 حيث استفردت "إسرائيل" بالجهاد الإسلامي موحية بإكذوبةِ حياديةِ حماس التي قامت بدورها الكامل في الظل، بغية تأمين عدم التعرض للمواطنين وفق التفاهمات مع تركيا، فيما أدت دورها العملياتي باقتدار باعتراف الجهاد الإسلامي.

وهذا مجرد افتراض يجيب على سؤال ملحٍ ما لبث قائماً منذ ذلك الوقت.

صحيح أن القيادة الإسرائيلية ليست غافلة عن الأمر وقد فشلت في استغلال ذلك لزرع الفتن بين فصائل المقاومة المتلاحمة؛ لكن الجماهير الإسرائيلية المتضررة معنوياً تلقت الرسالة عكسياً والأسئلة تعصف برؤوسهم المصدوحة:

أإلى هذا الحد يتمكن فصيل واحد وهو الجهاد الإسلامي من إلحاق كل هذا الضرر ب"إسرائيل"! فماذا لو شاركت حماس! لا شك أنها ستكون وخيمة وقاضية.

وإمعاناً في التضليل الإعلامي، طلب نتنياهو عدم تهديد حماس إعلامياً.

جاء ذلك رداً على ما قاله الوزير وعضو المجلس الأمني الوزاري المصغر، يسرائيل كاتس، (ليكود) الثلاثاء الماضي: “إنّه في حال شاركت حركة حماس في الرد سنشرع باغتيال السنوار والضيف.

وتدخل نتنياهو لمنع مثل هذه التصريحات وكأنه معني بحيادية حماس في صورة إعلامية كاذبة سعى لترسيخها، وقد فشل في ذلك على صعيدين فلسطيني وإسرائيلي.

وفي ذات السياق، رأى عاموس هارئيل، مُحلِّل الشؤون العسكريّة في صحيفة (هآرتس) العبريّة، الثلاثاء الماضي، أنّ قيام "إسرائيل" باغتيال ثلاثة من قادة الجهاد الإسلاميّ في غزّة سيؤدي إلى جولة تصعيدٍ ستستمِّر بحسب التقديرات عدّة أيّامٍ، بيد أنّ دخول حماس في المعركة سيؤدّي إلى تحسين القدرات الفلسطينيّة، وقد تتسبب بإشتعال الجبهات الأخرى.

وقد فشل الوسطاء بإرغام الطرفين على هدنة طويلة بسبب رفض "إسرائيل" لشروط المقاومة (حماس والجهاد).

لكن احتدام الاشتباكات وخاصة استهداف العمق الإسرائيلي المستمر بالصواريخ الدقيقة، إلى جانب الخسائر التي يتكبدها الاحتلال بسبب فشل القبة الحديدة في رصد ربع الصواريخ التي أصابت أهدافها في العمق الإسرائيلي، بسبب التكتيك الجديد الذي تبنته المقاومة من خلال استنزافها، بتصديها لقذائف الهاون التي كانت تطلق لهذا الهدف قبل كل صلية صواريخ، فإن هذا كله سوف يرغم "إسرائيل" على القبول بهدنة ظل يكابر على قبولها.

إن ردّ المقاومة المؤثر والذي حيد نسبياً القبة الحديدية أظهر فشل نتنياهو في لجم صواريخها حتى بهتت صورته أمام مؤيديه.

فكلما كان يدّعي بقرب انتهاء عملية (القوس) بعد تحقيق الأهداف الإسرائيلية كان يواجه بقصف صاروخي يطول حتى مدن جنوب العاصمة تل ابيب!

فعلى صعيد سياسي فإن خسارة نتنياهو ستكون فادحة لأن قراره أضر ب"إسرائيل" وأثبت هشاشتها؛ وذلك وفق ما قاله خبراء ومراقبون من خلال البرامج التحليلية واللقاءات التي سجلت في الشارع عبر القناة 13 الإسرائيلية، فقد عجز نتنياهو عن إقناع الإسرائيليين بأن العملية حققت أهدافها لمعرفتهم بأنه فعل ذلك لتصدير الأزمات الداخلية إلى غزة فكانت النتيجة معاكسة.

حيث تعطلت الحياة في "إسرائيل" ما زاد من فاتورة العملية الباهظة المفتوحة.

لا بل أنها أثبتت وجود ترهل في الجيش الإسرائيلي إلى جانب عزوف الشباب عن الالتحاق بالخدمة العسكرية، فيما تزايدت الرغبات المتصاعدة في مغادرة الحلم الإسرائيلي الذي حولته المقاومة إلى مصيدة للموت.

كل ذلك أدّى إلى انخفاض شعبية بن غفير الذي ورّط الجيش الإسرائيلي في مواجهات فضحت فشله الذريع في التصدي لصواريخ المقاومة.

خلافاً لذلك، نجحت المقاومة في اللعب بأعصاب الإسرائيليين المختبئين في الملاجئ، من خلال صمت ما قبل العاصفة الذي انتهجته قيادة غرفة العمليات المشتركة في سياق رهاب المستقبل.

***

بقلم بكر السباتين

13 مايو 2023

في المثقف اليوم