آراء

أستراليا: الميزانية وجهة نظر مختلفة

الميزانية بيان اقتصادي سنوي لزيادة الضرائب أو خفضها والتحكم بالسياسة المالية والانفاق الحكومي، ومعظم الأحيان يتضمن خطط لسنوات عدة مقبلة، ويحمل توقعات اقتصادية مالية ونقدية لها أبعاد سياسية وأجتماعية وتنموية.

لكن هذا البيان السنوي قد يكون خبر قديم في خضم المعارك السياسية اليومية والتغيرات المتسارعة في الحياة العصرية وبغض النظر عن الحزب الحاكم تستخدم الحكومة والمعارضة كل ما لديها من الأمكانيات الدعائية والإعلامية للترويج وتسريب المعلومات التي تريد إيصالها دون غيرها للمواطنين لكسب معركة الرأي العام.

الرابحون والخاسرون المقاربة التقليدية لأي ميزانية في السنوات الخوالي، حيث كانت الحكومات تستطيع التحكم بمسار السياسة المالية لفترات قد تطول او تقصر وكانت السوق تتجاوب مع التوقعات وتبني سياساتها على هذه التوقعات.

لكن مع التطورات المتسارعة والسرعة الهائلة للزمن والدورة الإخبارية على مدار الساعة وترابط اقتصاديات العالم وفقدان القرار الوطني بنسب معينة ومتفاوتة جعلت من الميزانية تصبح بسرعة خبر قديم (كما تقدم) وقد تجاوزته الأحداث وتبدأ الحكومة باللهاث وراء الحدث أما للحد من التداعيات السياسية او لتعزيز رأسمالها السياسي اذا ما سارت الرياح كم تشتهي سفنها.

وفي عرض مبسط للميزانية التي قدمتها الحكومة الفيدرالية ألأسبوع الماضي ومن دون الدخول في تفاصيل أرقام النفقات ومن ربح ومن خسر نرى أن الازمات الدولية خصوصاً الحرب الأوكرانية كان لها تأثيرات سلبية واخرى إيجابية، ومن التأثيرات السلبية إرتفاع نسبة التضخم والتي أتت على القدرة الشرائية للمواطنين واضطرت البنك المركزي لرفع نسبة الفائدة إحدى عشر مرة خلال الأثنا عشر شهراً الماضية لتصل الى 3.85%.

أم التأثيرات ألإيجابية لتلك الحرب (وكما يقال مصائب قوم عند قوم فوائدُ) فكان ارتفاع أسعار الصادرات الأسترالية من المواد الأولية من الغاز والفحم والحديد و المنتجات الزراعية فارتفع الدخل الوطني الاسترالي مما جعل الميزانية تحمل فائض قيمته 4.2 مليار دولار لأول مرة منذ 15 عاماً، وقد ساهمت الضرائب على الدخل الفردي في تحقيق هذا الفائض حيث نسبة البطالة دون 4 بالمئة، هذا وسوف تنفق الحكومة حوالي 14.6 مليار دولار في السنوات الأربع القادمة على قطاعات الصحة والإسكان والعائلات والطاقة والعاطلين من العمل والباحثين عن عمل وغيرها.

لكن الميزانية لم تأتِ على ذكر اي شيء حول كيفية تأمين الواردات لتمويل الإنفاق العسكري الضخم، وبرنامج نظام إعانة ذوي الاحتياجات الخاصة، وقطاع رعاية المسنين التي تسحوذ على النسبة الأكبر من النفقات الحكومية الى جانب الفوائد التي تدفعها الحكومة على الدين العام الاسترالي الذي يقارب 900مليار دولار، وهذا ما سيكون له تأثير على مالية الدولة والميزانية العامة وهذا الأمر ليس صدفة، رغم ان الحكومة قالت في الميزانية سوف توفر عشرات المليارات من ميزانية وبرنامج نظام إعانة ذوي الاحتياجات الخاصة من خلال ترشيد الإنفاق والحد من الهدر والفساد في هذا القطاع.

رئيس الوزراء وصف الميزانية بأنها ميزانية حزب العمال بامتياز وطبعاً لا يمكن أن يقول غير ذلك، وبشكل عام فلسان حال حزب العمال يقول نحن نقوم بالكثير من الأشياء ، لكن لا يمكننا ان نقدم كل شيء دفعة واحدة.

لكن الخبراء الاقتصاديين يتخوفون من ارتفاع التضخم مما قد يدفع البنك المركزي لرفع نسبة الفائدة مجدداً، واذا ما حصل هذا الامر يؤكد ان الحكومة رغم نشوتها بالتقديمات الاجتماعية والصحية وغيرها التي ترضي البعض وتغضب البعض الآخر الذي لم يحصل على جزء من تلك التقديمات او تعرض لضرائب جديدة غير قادرة أي الحكومة على التحكم بمسار الأمور، عندها ستكون الحكومة في وضع لا تحسد عليه رغم تأكيدها في السراء والضراء على أستقلالية البنك المركزي لكن تلك الأستقلالية قد تسبب للحكومة وجع رأس سياسي كبير لان المواطن العادي يحمل السياسيين مسؤولية تراجع قدرته الشرائية، وعدم قدرته للوفاء بدفعات الديون العقارية وغيرها لأن البنك المركزي لا يواجه الناخبين والرأي العام والمعلوم أن حاكم البنك المركزي كان قد توقع أن أسعار الفائدة لن ترتفع قبل العام 2024 لكنه عاد ورفع سعر الفائدة الى 3.85% كما تقدم بسبب سياسة البنك المركزي للجم ارتفاع التضخم.

المعارضة الفيدرالية والتي ما زالت في غيبوبة سياسية نتيجة خسارتها انتخابات السنة الماضية ومع استمرار تراجع شعبيتها في استطلاعات الرأي وخسارتها انتخابات أستون الفرعية لأول مرة منذ 100 عام تخسر المعارضة انتخابات فرعية لصالح الحكومة، ترى المعارضة ان ميزانية حكومة العمال اضاعت فرصة لتعزيز الوضع الاقتصادي في البلاد.

زعيم المعارضة بيتر داتون في رده الرسمي على الميزانية أيد بعض بنود الميزانية وتحفظ على البعض الآخر منها الزيادة المتواضعة للباحثين عن عمل (40 دولار كل أسبوعين) وتحفظ داتون بشدة على زيادة عدد المهاجرين في ظل غياب البنى التحتية ورأى أن الميزانية سوف تساهم في زيادة التضخم معترفا ان عوامل خارجية لعبة دوراً في ذلك لكن العوامل الداخلية كان لها تأثيراً أكبر وهاجم سياسية الحكومة المتعلقة بتأمين الطاقة المستدامة وراى ان الميزانية تؤذي العائلات الاسترالية.

ينوي زعيم المعارضة جعل المهاجرين الورقة السياسية الرابحة مجدداً ليكونوا كرة في ملعبه السياسي هذه الورقة التي يجيد داتون استخدامها بامتياز، وفي حملة غير بريئة حذر داتون من زيادة أعداد الماهجرين مما قد يثير عاصفة شعبوية تحول المهاجرين إلى كبش فداء.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل يعتقد داتون ان هذا التخويف سوف يقدم له حبل النجاة السياسي في ظل إستمرار تراجع شعبيته في إستطلاعات الرأي؟

هنا لا بد من الإشارة وحسب صحيفة سدني مورننغ هيرلد الى أن حكومة الأحرار برئاسة سكوت موريسن التي شغل فيها داتون وزارة الهجرة وحماية الحدود ووزارة والدفاع كانت تنوي إحضار نفس العدد من المهاجرين قبل وباء الكورنا منذ عام 2019 واستيعابهم في العام 2022.

إذاً، تبقى الميزانية عملية توقعات عما سيحدث في الاقتصاد خلال تلك الفترة الزمنية ، وسيناريوهات حول ما يفترض حدوثه ولها تأثيرها من الناحية الإقتصادية على الناتج المحلي الإجمالي والتضخم والبطالة.

لكن محرر الشؤون الاقتصادية في سيدني مورنينغ هيرالد روس غيتنز يرى أن الاعلام يلعب دوراً محورياً في الترويج للميزانية في اليومين الأولين ويعطي انطباعاً ملائماً للحكومة، مما يجعل الميزانية تبدأ بداية جيدة مع الناخبين قبل الأطلاع على شياطين التفاصيل القذرة المخبأة بعناية ولكنها حقيقية.

أخيراً، مهما كانت التوقعات لكن قد تقع أحداث تطيح بكل التوقعات وتقلب الأمور رأساً على عقب خصوصاً أن هناك من يقرع طبول الحرب في جنوب شرق آسيا، وخير مثال على ذلك ما حصل قبل ثلاثة أعوام عندما تفشى وباء الكورنا، ومنذ عام عندما اندلعت الحرب الأوكرانية، وقبل فترة أنهيار بعض البنوك الأميركية والأوروبية وقبلها الأزمة المالية العالمية عام 2008.

***

عباس علي مراد - سدني

في المثقف اليوم