آراء

رشيد الخيّون: عبد الملك وابن الفرات.. ودرسان نادران!

كان صدى مقالنا السَّابق: «تدريس جرائم البعث.. إحياءٌ للبعث»(الاتحاد: 22/11/2023) واسعاً لدى: مَن رضي واستحسن، ومَن غضب واستقبح، بين الفئة الأولى بعثيون، يريدون التَّماهي، فذاك زمن مضى، وبينهم ممَن أتلف النّظام السّابق حياته، لكنه ليس مِن أهل الثّأر، غرضه بناء عراق يُعز به أهله بأطيافهم كافة.

أمَّا الذي استقبح، وهدد بالانتقام مِن كاتب المقال، فهذا قلق على ضياع ما حصل عليه شخصياً مِن مركزٍ وثروةٍ، لا يُرجى منه إصلاحاً وصلاحاً، فقد تربى على التَّفجيرات والمقاتل، لموظفي خطوط جوية، أو مغني ومذيع قُتلا بتفجيره لبوابة الإذاعة، أو لمراجعين أبرياء لسفارة، فجرهم في مدخلها، واعتبر الانتحاري شهيداً، ولا يهمه تفجير الحضرة العسكريّة بسامراء، إذا كانت تفي بغرض رد الجميل لجهة أجنبيّة، بإشعال الطّائفيَّة!

وجدتُ في تصرف الخليفة عبد الملك بن مروان(ت: 86هج)، والوزير العباسيّ ابن الفرات(قُتل: 312هـ)، درسين نادرين على النّظر إلى الأمام، في حالة الخليفة إلى مستقبل مُلكه، وفي حالة الوزير النّظر إلى استتباب الأمر ببغداد لخليفة عصره.

نجدهما درسين نادرين، لكثرة القاتل والمقتول، عبر التّاريخ، وليس أكثر سفكَ دماءٍ مما سُفك على الإمامة، السُّلطة بعينها، وحال الباحث عن تجارب أبعدت الثَّأر انتقاماً، كالطالبِ ذرة ذّهب تحت كثيب رملٍ. قيل قديماً في شأن السُّلطة: «أبيحت بسببها الأموال والدّماء»(رسائل إخوان الصّفا)، و«ما سُل سيفٌ... مثلما سُل على الإمامة في كلِّ زمانٍ»(الشّهرستانيّ، الملل والنّحل).

روى المضاء بن علون كاتب مصعب بن الزُّبير (قُتل 72هج)، أمير العراق لأخيه الخليفة بالحجاز: «دعاني عبد الملك بعدما قَتل مصعباً، فقال لي: علمت أنه لم يبق من أصحاب مصعب وخاصته أحد إلا كتب إليَّ يطلب الأمان، والجوائز والصِّلات والقطاعات؟ قلت: قد علمت يا أمير المؤمنين! أنه لم يبق مِن أصحابك أحد إلا وقد كتب إلى مصعب بمثل ذلك، وهذه كتبهم عندي! قال: فجئني بها! فجئته بإضبارة عظيمة، فلما رآها قال: ما حاجتي أنْ أنظر فيها، فأفسد قلوبهم عليَّ! يا غلام! احرقها بالنَّار، فأُحرقت»(اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي).

قال المؤرخ والفيلسوف أحمد بن محمَّد مسكويه (ت: 412 هج)، في الإجراء الذي اتخذه الوزير عليّ بن محمّد بن الفرات، بعد فشل انقلاب الأمير الشّاعر عبد الله بن المعتز(قُتل: 296هج) على ابن عمّه المقتدر بالله(قُتل: 320هج)، بدل الانتقام والملاحقة: أُحرقت «جميع الجرائد، التي وجد فيها أسماء المتابعين لابن المعتز... وأمر ابن الفرات بتغريق الجرائد في دجلة، ففعل ذلك، وسكن النَّاس، وكثر الشَّاكرون»(مسكويه، تجارب الأُمم وتعاقب الهمم). على ندرتهما تمعنوا في التّجربتين، فالتّاريخ حاضر فينا، للانتقام والصَّفح أيضاً.

أعطى مسكويه ابن الفرات حقه عندما قاله فيه: «ومن محاسن ابن الفرات أنه افتتح أمره بإخراج أمر المقتدر بمكاتبة العمال، في جميع النَّواحي، بإفاضة العدل في الرَّعية، وإزالة الرُّسوم الجائرة عنهم، وإخراج أمره لجماعة بني هاشم بجارٍ، ثم أخرج أمره بزيادة جميعهم، ثم أخرج الإمرة بالصَّفح عن جميع مَنْ كان خرج عن طاعته ووالى ابن المعتز، وإلحاقهم في الصلة بمَنْ لم تكن له جناية»(تجارب الأُمم). فللمصالحة وجوه، عدم الإقرار بالثَّأر أولها، مع دعمه بالتخفيف عن النَّاس، ومحاولة تحسين أحوالهم.

ربَّما يعتبر البعض مقالي هذا، خيال شاعرٍ هائمٍ غارقٍ في الألفاظ والمعاني، ولستُ شاعراً، ولا الألفاظ تعنيني بلا معانٍ، وهذا أحمد شوقيّ(ت: 1932) كان شاعراً، وحكيماً أيضاً، عندما قال في دورات الانتقام: «يا ويحهم! نصبوا مناراً مِن دمِ/تُوحي إلى جبلٍ مِن البغضاءَ/ ما ضرَّ لو جعلوا العلاقةَ في غدٍ/ بين الشُّعوب مودةً وأخاءَ»(قصيدة في إعدام عمر المختار 1931).

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم