آراء

معاذ محمد رمضان: العراق في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم

نظرة سريعة للواقع السياسي

قامت ثورة 14 تموز 1958 في العراق، فأطاحت بنظام الحكم الملكي الذي أسّسه البريطانيون في عام 1921، واستبدلته بنظام جمهوري استمر في الحكم الى عام 2003، عندما أطاحت القوات الأمريكية بنظام  صدام حسين.

برزت عدة قوى سياسية بعد الإطاحة بالنظام الملكي:

1- الجيش "الذي قام بالتغيير بالقوة".

2-الشيوعيون واليساريون، فالحزب الشيوعي حزبٌ عريقٌ ومنظّم مارس الكفاح بشكل متواصل ضد النظام الملكي الذي عامله بقسوة شديدة. أما الثاني فيتمثّل بحزب المعارض الوطني العراقي كامل الجادرجي، والذي كان يسارياً معتدلاً.

3-القوميون، من بعثيين وناصريين، إضافة الى حزب الإستقلال بزعامة الشيخ محمد مهدي كبة، وهو من الأحزاب المعارضة المرخصة في العهد الملكي.

اجمالاً هذه هي القوى الرئيسة التي برزت الى السطح بعد سقوط النظام الملكي، وكان هدفها الأوحد الذي يجمعها هو محاربة هذا النظام واسقاطه، فعندما تمت هذه الخطوة وزال هذا الهدف، ظهرت التناقضات بينها، وهو أمر طبيعي بكل تأكيد، وطبعاً نقصد القوتين الثانية والثالثة، فالقوة الأولى بيدها الأمر بحكم الواقع.

لم يُشَكّل "مجلس قيادة الثورة"، وهذا ما أثار "الضباط الأحرار" الذين كافحوا وتحَمّلوا ما تحملوه في الماضي القريب. فقد تم حصر السلطة بين الزعيم عبد الكريم قاسم ونائبه عبد السلام عارف "فاتح بغداد"، وهذا ما أدى لنتائج خطيرة أثرت على مسيرة الثورة واضعفتها بكل تأكيد. ثم تغير الوضع بعد عزل عارف وتجريده من سلطاته كافة، فأدى ذلك الى انفراد عبد الكريم قاسم بالسلطة.

كان عارف يدعو الى الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر، وكان مدعوماً من القوى القومية، فطاف في بعض المدن العراقية والتقى بالجماهير في خُطبٍ غير مسؤولة أثارت الزعيم قاسم، وأدى ذلك الى عزله في النهاية في تفاصيل مذكورة في المصادر.

لم يُعطَ الزعيم قاسم فرصة ولو بسيطة لقيادة البلد، فقد أعلنها القوميون حرباً بلا هوادة عليه، وحجتهم في ذلك أن قاسم لم يقبل بتحقيق الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة. وقد أثبتت الأيام أنهم لم يكونوا صادقين فيها، فعندما قتلوا قاسم واستلموا الحكم، لم يحققوا هذا الهدف الذي أحرقوا البلد لأجله!.

قام العقيد عبد الوهاب الشواف بحركته المعروفة في الموصل في آذار 1959، وكان مدعوماً من الجمهورية العربية المتحدة. والشواف من الضباط الأحرار، ويذهب المؤرخون الى أن مبعث الحركة هو نقمة الشواف على الوضع بعد قيام الجمهورية، إذ لم يُقدّر ويُعطى المنصب الذي يريده. وكان النزاع شديداً في هذه المدينة بين الشيوعيين والقوميين، وانتهت الحركة بمقتل العقيد الشواف كما هو معروف، فقد كان رد حكومة قاسم سريعاً كما ذكر الدكتور أوريل دان في كتابه "العراق في عهد قاسم" والذي ترجمه الى العربية الأستاذ جرجيس فتح الله المحامي.

وقد ارتكب الزعيم قاسم خطأً كبيراً ـ بل بشعاً كما ذهب إسماعيل العارف صاحب كتاب أسرار ثورة تموز ـ باعدامه العقيد رفعت الحاج سري والزعيم ناظم الطبقجلي، وهما من الضباط الأحرار، بل ان سري هو مؤسس هذا التنظيم. فكان على الزعيم قاسم ضبط نفسه في هذه النقطة كما نرى، وان لا ينجر وراء الدعاية الناصرية ليفتك بهما أخيراً، ثم يتخذ القوميون من هذه الحادثة حجة ويجعلوها كقميص عثمان للثأر من قاسم وحكمه.

قام الشيوعيون ـ أو بالأحرى هذا ما تعلّمناه سابقاً ـ بمجازر كثيرة في الموصل بعد حركة الشواف، وبعدها بكركوك كما هو معلوم. وطبعاً نحن لا نريد أن نُبَرّىء أحداً على حساب الحقيقة والتاريخ، فالمنهجية التي نتبناها تأبى هذه الطريقة بكل تأكيد، ولكن "حرب القوى القومية" لم تكن نظيفة هنا، فقد تجنّوا على التاريخ كثيراً، وما على القارىء إلا الرجوع لمصدر ثمين جداً كُتِبَ حديثاً وهو "تاريخ الحزب الشيوعي العراقي في لواء الموصل 1934 ـ 1970" للدكتور عبد الفتاح البوتاني. فقد كشف البوتاني هنا عن الحقيقة المخفية من خلال مصادر طازجة لا يرقى اليها الشك، إذ التقى بالفاعلين الإجتماعيين آنذاك من الطرف القومي والإسلامي، مبيناً أن المؤامرة كانت محبوكة من جانب القوميين والإسلاميين في الموصل، ويدعمهم رجال الإقطاع والملاّكين الذين تضرروا من ثورة تموز، وأن الكثير من الأعمال البشعة المنسوبة للشيوعيين في الموصل لم تكن حقيقة، وان الطرف القومي قد تَعَمّد التحرّش بالشيوعيين لإثارتهم.

أما ما حدث في كركوك، فما على القارىء الا مراجعة ما كتبه كُلٌ من:

1ـ المؤرخ القدير حنّا بطاطو في كتابه الضخم "العراق".

2ـ الدكتور أوريل دان في كتابه "العراق في عهد قاسم".

3ـ الدكتور عبد الفتاح البوتاني في كتابه "العراق ـ دراسة في التطورات السياسية الداخلية 14 تموز 1958 ـ 8 شباط 1963".

4ـ جرجيس فتح الله في كتابه "العراق في عهد قاسم ـ آراء وخواطر ج2".

بالإضافة الى مذكرات القيادي الشيوعي عزيز محمد والموسومة "عزيز محمد يتحدث ـ حوار وتعليق الدكتور سيف عدنان القيسي". وغيرها كثير بكل تأكيد، وعند مراجعة هذه المصادر سيثبت:

تصرّف الشيوعيون آنذاك كَكُرد قبل أن يتصرفوا كشيوعيين، وان عزيز محمد الشيوعي الكردي كان على رأس الحزب الشيوعي في كركوك، وكانت الأحداث "بنت ساعتها"، ولا يوجد دليل رسمي يثبت صدور أمر من مكتب الحزب الشيوعي في بغداد أو كركوك لتنفيذ مذبحة في الخصوم. وهذا ما عالجناه في مقال مستقل لنا في أحد المواقع الألكترونية.

تغيرت سياسة الزعيم قاسم بعد هذه الأحداث، فقام بالتنكيل بالحزب الشيوعي، وأرخى الحبل للقوميين في محاولة منه لمسك العصا من الوسط، وهذه هي السياسة القاسمية المعروفة، والتي كانت سبباً في نهايته الحزينة بكل تأكيد. فقد أعلن أنه فوق الميول والاتجاهات، وهي سياسة حسنة من حيث المبدأ، ولكنها غير مجدية في بلد متفجر كالعراق.

ضعفت شعبية الزعيم قاسم بمرور الأيام، نَكّل بالشيوعيين، ولم تُجدِ سياسته المتحولة مع القوميين نفعاً، اذ أصرّوا على محاربته واسقاطه. أما الكورد، فقد قامت الحرب العبثية التي شنها قاسم ضد قيادة الملا مصطفى البارزاني والتي بقيت مستمرة الى نهاية عهده. أما خارجياً، فقد عزل قاسم نفسه عربياً وعالمياً بمطالبته بالكويت.

كل هذا أدى الى ضعف قيادته شيئاً فشيئاً، ثم الى سقوطه في نهاية الأمر على يد البعثيين الذين وصلوا الى الحكم ب"القطار الأمريكي" كما ذكر القيادي البعثي علي صالح السعدي، وهذا ما أكّدته الوثائق البريطانية أيضاً، وما على القارىء الا الرجوع لكتاب "الأيام الأخيرة من حكم عبد الكريم قاسم في الوثائق البريطانية"، بإعداد وتقديم الدكتور نوري عبد الحميد العاني. (قررت الولايات المتحدة الأمريكية تعزيز الروابط مع معارضي عبد الكريم قاسم لاسقاطه) كما ذكر العميد المتقاعد خليل الزوبعي في مقدمة الكتاب المذكور.

تُثار دائماً مقولة أن "عبد الكريم قاسم لم يكن سياسياً ناجحاً بل كان فاشلاً"، ونحن مع هذه المقولة من حيث المبدأ، فقاسم كان عسكرياً محترفاً ولم يشتغل بالسياسة. لكن اطلاق هذه المقولة والوقوف عندها هو خطأ كبير كما نرى، وما علينا الآن الا الرجوع الى الأستاذ مير بصري، فقد وصف الزعيم قاسم في كتابه "اعلام السياسة في العراق الحديث ج1":

رجلٌ فذٌ حكم العراق أربع سنوات ونصف السنة، تجاذبته التيارات ذات اليمين وذات اليسار، فحافظ على توازنه بصعوبة بالغة ومهارة عجيبة.

ثم يتساءل: هل كان قاسم رجل دولة؟ فيجيب: لا شك أنه بتجرده وشخصيته القوية وشعوره بموقع العراق بالشرق الأوسط ورغبته في استقلال بلاده ورفاهية أهلها، كان يحمل في ذاته بذور رجل الدولة في مقدرته واخلاصه، لكنه قضى السنوات القلائل في قيادة سفينة الدولة وسط العواصف الداخلية والخارجية، ولم يتسنَ له اظهار مواهبه الحقة، فلو طال الزمان به واستتب له الأمر لبرزت مزاياه الكامنة واصبح رجل دولة لا سياسياً مغامراً شأن مناوئيه وخلفائه.

ولا سبيل لنا الا الأخذ بكلام الأستاذ مير بصري، فقد نطق صدقاً وعدلاً.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

في المثقف اليوم