آراء

علاء اللامي: بغداد ليست جادة في إخراج القوات الأميركية لهذه الأسباب!

نُشر يوم الجمعة 5 كانون الأول / يناير تقرير إخباري يتضمن خبرا منسوبا إلى رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مفاده تشكيل لجنة ثنائية عراقية أميركية لجدولة انسحاب ما تبقى من قوات الاحتلال الأميركية وما يسمى "قوات التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب" من العراق. وبالعودة إلى تسجيل فيديو خطاب السوداني الذي ألقاه يوم أمس في الذكرى الرابعة لجريمة اغتيال قادة النصر على داعش من قبل سلاح الطيران الأميركي، نجد أن التقرير الإخباري الذي تكلم عن تشكيل تلك اللجنة لم يكن دقيقا. فقد ذُكر موضوع اللجنة الثنائية فعلا ولكنها ليست لجنة ثنائية أميركية عراقية شُكلت مؤخرا.

فما حقيقة هذه اللجنة وهل كانت الحكومات العراقية ومنها حكومة السوداني جادة فعلا في إخراج القوات العراقية واستعادة سيادة العراق واستقلاله وبناء جيشه ومؤسساته الوطنية أم أن الوضع سيبقى على ما هو عليه؟ يتبين لنا بعد التدقيق ومقارنة التقرير الإخباري الذي نشر حول الخطاب بتسجيل فيديو الخطاب نفسه ما يلي:

إنَّ عبارة "اللجنة الثنائية" وردت مرتين في التقرير الإخباري الذي نشر عن الخطاب في بعض المواقع الإخبارية العربية ثم حذف (ولدينا صورته كما نشر في موقع بحراني معارض قبل أن يحذفه لاحقا)، والملفت أن هذا الخبر لم ينشر في غالبية المواقع العراقية؛ وقد ورد مرة بصيغة غامضة وبالفعل المضارع في بداية الخطاب، وتقول الفقرة: "إن الحكومة تحدد موعداً لبدء عمل اللجنة الثنائية بما يتماشی مع الترتيبات النهائية المتعلقة بإنهاء تواجد قوات الاحتلال الدولية في العراق، وفي كل ما يتماشی مع توسيع التواجد العسكري في العراق". ويُفهم من هذه العبارة أنها مشروطة بحال استثنائية توجب حدوثها وفي اتجاهين أي باتجاه الإنهاء أوالتوسعة، وربما تكون هذه العبارة قد وردت في أوراق ما سمي جولات الحوار الاستراتيجي في عهد حكومة مصطفى الكاظمي. أي إنها ليست مخصصة لجدولة انسحاب القوات فقط، بل بترتيبات "إنهاء التواجد العسكري الأميركي أو توسعته في العراق".  وربما تكون هذه الفقرة قد وردت في الخطاب سهواً أو نقلاً حرفياً عن وثيقة، ثم حذفت لاحقا، أو أنها لم ترد في الأصل ولكن محرر التقرير قد أضافها وهذا احتمال مستبعد. وفي المناسبة فهذه ليست المرة الأخرى التي يُمَنْتَجُ فيها خطابٌ للسوداني لحذف عبارات منه، فقد سبق وأن حدث ذلك بعد الأزمة التي أثارتها تسمية السوادني للخليج العربي باسمه الصحيح "العربي" خلال افتتاحه دورة البصرة لكأس الخليج العربي لكرة القدم في تشرين الثاني - نوفمبر 2019، ما أدى إلى صدور احتجاجات رسمية من الجهات الإيرانية القومية ضده فتراجع وتمت مَنْتَجَةُ خطابه!

كما وردت عبارة "اللجنة الثنائية" في الفقرة الأخيرة من الخطاب، وفق التقرير والفيديو معا، ولكن بصيغة الماضي حيث قال السوداني: "ونؤكد موقفنا الثابت والمبدئي بإنهاء تواجد التحالف الدولي بعد انتهاء مبررات هذا الوجود. ومن خلال اللجنة الثنائية التي تم تشكيلها لتحديد الاستعدادات لإنهاء هذا الحضور، فإننا نحدد موعد بدء الحوار". ومن المرجح هنا أيضا، أن السوداني يتكلم عن لجنة "تم تشكيلها" خلال فترة ما سُمِّي الحوار الاستراتيجي مع الجانب الأميركي لسحب القوات في عهد مصطفى الكاظمي كما قلنا، ولا يتكلم عن لجنة جديدة تم تشكيلها بطلب من حكومته بعد الجريمة الأميركية الجديدة، ولكنه يضيف إليها مطلب "تحديد موعد بدء الحوار".

يمكن القول، أن هذه العبارة، بل والخطاب كله ليس إلا محاولة من السوداني لاحتواء الغضب الشعبي الذي تسببت به جريمة القوات الأميركية الجديدة باغتيال أحد قادة الحشد الشعبي ومرافقه وإصابة ستة آخرين بجراح في مقر للحشد الشعبي بقلب بغداد بعد استهدافات أخرى قوبلت ببيانات شجب واستنكار حكومية وحزبية كالمعتاد!  والسؤال الذي نطرحه هنا: إذا كانت هذه اللجنة الثنائية قائمة فعلاً في الواقع، أو كإمكانية مشروطة على الورق كما نرجح، فلماذا سكتَ السوداني وإطاره التنسيقي وحكومته عن هذه اللجنة الثنائية - إن كان لها وجود فعلي حقا- كل هذا الوقت، ولماذا لم تُفَعَّل هذه اللجنة وتقوم بواجبها لوضع جدول زمني لإخراج القوات الأميركية والأجنبية كافة من العراق حتى الآن؟.

يأتينا الجواب على هذا السؤال في شكل تصريح لخالد اليعقوبي مستشار السوداني السياسي قال فيه إن واشنطن "أوقفت مفاوضات إنهاء وجود التحالف الدولي في العراق إثر أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي (طوفان الأقصى)، أي قبل ثلاثة أيام من الموعد المقرر لبدء المفاوضات بين الجانبين". وحتى في هذا التصريح فالمستشار يتحدث عن لجنتين مستقلتين جديدتين أحداهما عراقية والأخرى أميركية "لدراسة الخيارات التي تؤدي إلى إخلاء الأراضي العراقية من أي تواجد للقوات الأجنبية" وليس عن لجنة ثنائية لوضع جدول انسحابات. ولكن أحداث السابع من تشرين ومشاركة فصائل عراقية في ضرب المواقع الأميركية تضامنا مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للإبادة الصهيونية الجماعية، مثلت "مبررات أمريكية" لتأجيل محادثات إجلاء قوات التحالف، كما قال المستشار، مبيناً أنّ هذه "المبررات ليست مقنعة بالنسبة للحكومة العراقية".

إنَّ الأهم من عدد القوات الموجودة والتي يجب أن تنسحب كلها هي "اتفاقية الإطار الاستراتيجي" التي وقعها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي مع حكومة أوباما سنة 2011 لتنظم علاقات الهيمنة الأميركية على العراق بعد انسحاب جُلِّ قوات الاحتلال. ولكن جميع الحكومات العراقية وأحزابها والمرجعية التي دعمتها وساندتها تسكت على هذه الاتفاقية سكوتا مريبا، بل وتطالب أحيانا بتطبيق ما تعلق منها بالمساعدات الأميركية للعراق! ولهذا وبناء عليه، سيكون السوداني والإطار التنسيقي الذي شكل حكومته، وجميع أحزاب المنظومة الحاكمة داخل وخارج الحكومة أمام تحدٍ صريح وواضح وهو أن يجرؤوا على مطالبة واشنطن بالانسحاب ووضع جدول سريع لسحب قواتها وإلغاء "اتفاقية الإطار الاستراتيجي" معها، وإلا فهي تساوى في السوء مع الحكومات السابقة التي فرطت بسيادة العراق واستقلاله وتركت العدو المحتل يسفك دماء العراقيين!.

-ولكن لماذا لم ينجح حكام العراق حتى اليوم بإخراج القوات الأجنبية وفي مقدمتها القوات الأميركية حتى الآن، ولم يراجعوا تلك الاتفاقية ويلغوها بعد أن خرقها الطرف الأميركي مرارا وتكرارا، وخصوصا حين امتنع عن تقديم الدعم العسكري للحكومة العراقية بموجبها حين راحت جحافل جماعات داعش المسلحة تتقدم نحو بغداد وقد سيطرت على ثلث أراضي البلاد تقريبا، وبعض تلك الأسلحة والطائرات الحربية كان العراق قد دفع ثمنها؟.

-الجواب لأن حكام العراق منذ سنة 2005 وحتى اليوم، صنفان؛ صنف يأتمر بأمر واشنطن المباشر فيرفض سحب القوات لأن واشنطن ترفضه. وصنف آخر انطلت عليه الحيلة الأميركية وصدق تهديدات واشنطن بإعادة العراق الى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالعقوبات وفرض الحصار، إذا تجرأ وطالب بانسحاب القوات والخروج من الهيمنة الأجنبية. إنهم يجهلون أو ربما يتجاهلون أن العالم قد تغير، ولم يعد اللاعب الأميركي هو الوحيد في الميدان العالمي كما كان في أيام آل بوش، بل هم في عصر الانحدار وفقدان الهيمنة القطبية الواحدة تدريجيا. وثانياً لا يوجد أي مبرر يسوغ فرض الحصار جديد ومعاقبة العراق إذا طالب برحيل قوات الاحتلال، بل أن بحوزة العراق أطنانا من الوثائق والأدلة التي تسمح له بمقاضاة أميركا وحلفائها في الهيئات الدولية على حرب التدمير التي شنّوها على العراق وما يزال الشعب يعاني منها الى اليوم. بين الصنف الأول والثاني هناك من يخشون من أن يؤدي انسحاب القوات الأميركية إلى سقوط العراق تحت الهيمنة الإيرانية المباشرة، والحقيقة هي أن مواجهة الهيمنة والنفوذ الإيراني المتنامي ستكون أسهل كثيراً على الوطنيين الاستقلاليين العراقيين بعد إخراج القوات وكسر الهيمنة السياسية والاقتصادية والأمنية الأميركية فإيران - حين ذاك- لم تعد مهددة من قبل الوجود الأميركي المعادي لها في العراق، وبالتالي يمكن تنظيم العلاقات بين البلدين الجارين وفق مبادئ القانون الدولي وحسن الجوار ومناهضة الكيان الصهيوني وإنهاء التدخلات الإيرانية في الشأن العراقي الداخلي وخصوصا حماية الفاسدين من الساسة الطائفيين في المنظومة الحاكمة واتخاذ مواقف حازمة بهذا الصدد.

*أما التهديد الأميركي ببعبع إضعاف الدينار العراقي وقطع الدولارات عن الخزينة العراقية فهو أمر سيفتح الباب أمام العراق ليتحرر من التبعية السوداء للاقتصاد الدولاري في زمن تخلت فيه ثلث دول العالم عن الدولار كعملة تداول وتبادل وحيدة. فثلث دول العالم بدأت تتخلى عن الدولار وتسعى لإيجاد وسائل دفع وطنية بعد عقوبات الغرب ضد روسيا، التي حمت اقتصادها بفضل منظومتها المحلية "مير" للدفع الإلكتروني كما قالت وكالة تاس الروسية في تقرير لها واستعرضت فيه تصريحات مسؤولي 193 دولة في وسائل الإعلام الروسية والدولية، انتهت إلى نتائج أفادت بأن 68 دولة تؤيد التخلي عن الدولار وتتخذ إجراءات ملموسة في هذا الاتجاه.

وذكرت الوكالة أن الدول الأكثر شجاعة تدعو علنا لمواجهة الدولار، وبينها قبل كل شيء الدول المشاركة منذ فترة طويلة في منظمات دولية بينها "آسيان" و"بريكس".

وأشارت إلى أن الرئيس البرازيلي اليساري لولا دا سيلفا يطالب بشكل مستمر بإطلاق عملة لاتينية بديلة للدولار، ويؤيده في ذلك وزير مالية جنوب إفريقيا غودونغوانا الذي يدعو إلى تعزيز الإقراض بالعملات الوطنية. وأخيرا فالعراق ليس بلدا فقيرا منعزلا بل هو صاحب رابع أكبر مخزون للنفط الخام في العام، والثاني عربيا باحتياط يفوق 140 مليار برميل وذو موقع استراتيجي خطير يضعه في قلب العالم القديم، ولكن مصيبة العراق الكبرى هي أنه يتفقد إلى قيادات وطنية جريئة، وتهيمن على زعامته مجموعات من السياسيين المنفيين الذين جاء بهم الاحتلال الأميركي ليمثلوا الطوائف الدينية والمجموعات العرقية ويحكموه تحت الإشراف والهيمنة الأميركية.

يبقى ثمة تهديد أميركي ضمني وخطر بدأ بعض المحللين السياسيين والساسة الأميركيين أو العرب والعراقيين المشتغلين في خدمتهم بترويجه ومفاده أن واشنطن قد تلجأ إلى تمزيق العراق أثنيا وضرب وحدته أرضا وشعبا إذا أصرَّ ممثلو "الغالبية الشيعية" على مطلب إخراج قواتهم بأن تدعم - واشنطن- الانفصال الكردي الذي تدعو إليه زعامات الاقطاع السياسي الكردي، وقد يتمادون فيُفَعِّلون حركة دعاة الإقليم السني أيضا ويدفعونهم إلى طلب الحماية الأميركية، وهذا تهديد جدي وخطر ينبغي التعامل معه وفق منظور وطني جدي مناهض للهيمنة الأميركية  يصل إلى حدود فتح تحالفات العراق الدولية والاتجاه شرقا للتحالف والانضمام إلى المجموعات الجديدة الخارجة على الهيمنة الأميركية الإنكلوسكسونية  كمجموعة بريكس وغيرها، ثم أن دعاة الإقليم السني وحتى دعاة الانفصال الكردي ليسوا بالقوة والتماسك الذي يخشى منه وهم أضعف من العراق وقدراته الاقتصادية الكبيرة خصوصا وأن  الاقطاع السياسي الكردي وكذلك الساسة من دعاة الإقليم السني يعتاشون على الاقتصاد العراقي ونفط الجنوب العراقي بدرجة رئيسة وسيدخلون مناطقهم في أزمة معيشية طاحنة إذا تجرأوا فعلا على المساهمة في المخطط الأميركي الغربي الصهيوني لتمزيق وحدة العراق أرضا وشعبا!

إن السيد محمد شياع السوداني، والقوى التي شكلت حكومته ودعمتها يواجهون اليوم تحديا تأريخياً وخطراً يمس سيادة العراق واستقلاله وكرامة شعبه وأي تفريط بحقوق العراق واستقلاله وسيادته وكرامته سيجلل المفرطين بالعار، وأي وقفة أحرار يقفونها ستتوجهم بالمجد والفخار على مر العصور، ولكن وقفة من هذا النوع لا يقفها إلا أحرار استقلاليون يرفعون هويتهم الوطنية العراقية الرئيسة راية لهم، وينكسون الرايات الطائفية والعشائرية والعِرقية؛ ومن دون تفكيك منظومة المحاصصة الطائفية والعِرقية التي جاء بها الاحتلال الأميركي ودعمتها وباركتها المرجعية النجفية والتي وصفت هؤلاء المحتلين بـ "ضيوف العراق" كما نقل عنها علنا مستشار الأمن القومي آنذاك موفق الربيعي وما يزال كلامه منشورا ومسجلا بالصوت والصورة على منصة يوتيب، ووجوب إعادة كتابة الدستور العراقي النافذ، من دون القيام بهذه الإجراءات والتغييرات يغدو كل كلام عن الإصلاح و استعادة الاستقلال الوطني العراقي أضغاث أحلام وهواء في شِباك!

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

.........................

* رابط يحيل إلى فيديو خطاب السوداني:                

https://www.youtube.com/watch?v=mBulJPlbIQM&ab_channel=%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%AA%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B2%D8%B1%D8%A7%D8%A1

 * فيديو موفق الربيعي: حين اعتبرت الأمم المتحدة الوجود الأميركي احتلالا سنة 2003 واجهتنا مشكلة حقيقية "شرعية" فذهبنا إلى المراجع الذين نقلدهم لنسألهم ما العمل فهذا محتل من دولة أجنبية لأرض المسلمين، فما العمل؟ فقال لنا المراجع؛ هؤلاء ضيوف ويخرجون بالمقاومة السلمية!

https://youtu.be/GcUIO1LKzn8?t=37

في المثقف اليوم