قضايا

واقعة شارلي ايبدو الفرنسية .. تحليل سيكوبولتك

qassim salihyموجز الواقعة: في الساعة الحادية عشرة من صباح الاربعاء (7/1/2015) دخل مسلحان مبنى صحيفة شارلي ايبدو في باريس وناديا بالاسماء على كادرها بدءا بمديرها وقتلوا اثني عشر شخصا بينهم خمسة من رسامي الكاريكتير الذين نشروا فيها رسوما تسخر من النبي محمد .. وبأقل من عشر دقائق انتهى المشهد الاجرامي الذي وصف بأنه الأكثر دموية في فرنسا منذ اربعين عاما، ولاذ المسلحان بالفرار وهما يهتفان (الله أكبر .. انتقمنا للرسول انتقمنا للنبي محمد) .. وانتهى الأمر بقتلهما على ايدي الشرطة الفرنسية في (9/1/2015).

لنبدأ التحليل من حقيقة ان كلّ الأديان فيها مقدسات ومعتقدات تبدو لآخرين .. سخافات.فتقديس البقرة مثلا هو عند المسلم في منتهى السخافة .. ولك ان تسرد قائمة من المعتقدات في كل دين هي عند المنتمين لدين آخر او اللادينيين محض سخافات. وما لا يفهمه العقل الأوربي، او لا يعطيه حق قدره، ان العقل الشرقي يقدّس رموز أديانه، ليس فقط لأن الشرق الأوسط هو مهبط الأديان الثلاثة : اليهودية والمسيحية والأسلام، بل ولأن فيه من هو مستعد ان يقتل نفسه من اجل معتقده الذي يبدو للآخر .. وهما سخيفا.

لا نريد ان نتحدث هنا عن الدين وعلاقته بالثقافة وما اذا كان الدين هو الذي انتج الثقافة ام هي التي انتجته وصنعت التطرف فيه، وهل يختلف دين عن دين آخر بنوعية الثقافة التي يشيعها .. والشيء نفسه فيما يخص الالحاد والايدولوجيات العلمانية، بقدر ما نريد ان نتحدث عن حرية التعبير التي جلبت فاجعة اربعاء باريس وراح ضحيتها اربعة من اذكى والمع رسامي الكاركتير .. هذا الفن العالمي الذي لا يجيده الا من كان موهوبا، حاد الذهن، يمتلك قدرة استثنائية في اختصار اكبر الأحداث بصورة تجعلك تسخر من واقع تعيشه، ومن نفسك ايضا!.

فبرغم التحذيرات التي تلقتها الصحيفة بوجوب التوقف عن التهكم والسخرية من النبي محمد، وبرغم انها هوجمت قبل اربع سنوات بقنابل المولوتوف، فان مديرها اعلن بأنه لن يتوقف، مبررا ذلك بحرية التعبير (وان السخرية من الأسلام أمر عادي مثل السخرية من المسيحية) .. ولم يدرك ان السخرية من قيم وتقاليد تحسب على الاسلام هي غير السخرية من نبي مقدّس عند اكثر من مليار من البشر.

وما حصل ناجم عن حقيقة سيكولوجية أخرى هي ان التطرّف في الدين يزّين لصاحبه زعم انه على حق وينعت من يخالفه الرأي بالكفر والمروق والزندقة والفسوق. وان التطرّف في العلمانية يجعل صاحبه يزعم انه على حق وينعت من يخالفه الرأي بالرجعية والتخلف والسخف والدوغماتية والايمان بوهم. ومع تناقضمها العقائدي فان كليهما يزدريان الغير، وكليهما عدوانيان حاقدان منتقمان يبيحان لنفسيهما حق اخضاع الآخر أواباحة سفك دمه ان رفض.ولك ان تتساءل: اذا كان الدين من الله فهل يعقل ان يأمر بقتل اناس هو خلقهم ليعيشوا؟. واذا كان العلماني، الالحادي تحديدا، يرى ان الله وهم وان العقل هو الحقيقة، فلماذا يرتكب الخطأ نفسه مع انه يعدّ نفسه الأكثر وعيا والأرقى نبلا والمهذّب سلوكا؟!.

وهذه الحقيقة السيكولوجية ناجمة عن حقيقة معرفية هي انك اذا كنت تؤمن بـ"ايديولوجيا " وتتطرف في ايمانك بها فان نوافذ عقلك تنفتح للخارج فقط لتصّدر افكارا ولا تنفتح للداخل لتستقبل افكارا .. وان "جدران غرف" الافكار في عقلك .. اسمنتيه، لا تسمح للقيم بداخلها ان ترشح وتتفاعل فيما بينها، الامر الذي يضطرك الى ان تتصرف بعنف او بتسفيه وتحقير من يختلف معك في الرأي .. بل وتعطي لنفسك الحق في استباحة الآخر جسديا وفكريا.

تأسيسا على ذلك فان الشخصية الدينية المتطرفة والشخصية العلمانية المتطرفة، تكونان متعصبتين، ما يعني انهما عصابيتان بالمفهوم السيكولوجي .. يتملكهما دافع قسري للنيل من الآخر، فكان الذي كان .. احدهما مدفوع بوهم هوسي .. مرضي، والآخر مدفوع بدافع قسري لم تنفع معه التحذيرات ولا نصائح محبيه من العلمانيين بالتوقف عن نشر صور استفزازية مبتذلة .. ومضى .. أسير دافعه القسري اللاعقلاني دون ان يسمح له ان يدرك ان حرية التعبير تهدف الى البناء لا الى التدمير،وان عليه ان يستخدمها بعقلانية من اجل التغيير الذي يأتي بالمحبة والسلام، لا التغيير الذي اذكى من جديد نار الكراهية واشاع الخوف لدى خمس ملايين ونصف مليون مسلم في فرنسا وحدها، وايقظ الحقد في المنظمات الشوفينية واليمين السياسي المتطرف الذي حذّر الفرنسيين من ان فرنسا ستصبح في العام 2025 مسلمة! .. فضلا عن خسارة فادحة لعقول مبدعة في ارقى وامتع فن عرفته الصحافة .. وتداعيات اخرى من بينها،ان يدفع الانفعال بعض مناصري (شارلي) فيرسمون صورها التي تسخر من النبي .. على أرصفة الشوارع، وان يقوم شباب يعانون من فقر وبطالة وتهميش من داخل فرنسا تحديدا .. بعمليات مشابهة لاسيما ان هذه العلمية لم يثبت ارتباطها بمنظمات ارهابية .. بل كانت تلقائية ذاتية.

واللافت في هذه الواقعة المدانة من كل العقلاء باختلاف اعراقهم واديانهم،ان الحكومة الفرنسية حضرت بالسرعة الى مكان الحادث ،واعلنت الحداد، ونكست الاعلام، وخيم على الفرنسيين حزن فاضت فيه الدموع،واشعلوا الشموع .. وان العالم الأوربي، الرسمي والشعبي تضامن كله، بما فيه البرلمان الاوربي الذي دعا الى الوقوف دقيقة صمت .. ولنا ان تتساءل: ان دم الانسان واحد لا هوية له .. فلماذا يكون الدم الاوربي غاليا والدم العراقي رخيصا؟.

ثلاثة اسباب رئيسة،اولها .. ان قيمة الحياة تراجعت لدينا بدءا من الحرب العراقية الايرانية،مهدت الى استسهال قتل الانسان بعد التغيير وحرب المعتقدات والهويات القاتلة (2006-2008).والثاني .. ان الحكومات في الدول الأوربية تعيش هموم شعوبها واحزانها ولا تعزل نفسها باسوار كونكرتية .. وتسكن خلفها بقلوب كونكريتية!تسرق اموال حتى النازحين الذين يموت اطفالهم وشيوخهم في شتاء ثلجي.والثالث ان تلك الدول تتضامن فيما بينها،فيما دولنا العربية يكيد بعضها لبعض.

درسان تقدمهما فاجعة اربعاء باريس،الأول يخص العالم بأن تصدر منظمة الأمم المتحدة نصا صريحا يمنع السخرية من الذين يعدّهم الناس أنبياء أو رموزا مقدسة،والثاني يخصنا نحن حكومة وشعبا .. ان نتعلم كيف تصرفت حكومة فرنسا وشعبها في فاجعة واحدة فيما نحن صرنا غير مكترثين مع اننا في كل يوم لنا فيه اكثر من فاجعة!

 

أ.د.قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

9/1/2015

 

في المثقف اليوم