تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

واقع ومستقبل الدولة العراقية الراهنة في ضوء فكر ابن خلدون السياسي

raed jabarkhadomيرى الفلاسفة وعلماء السياسة والاجتماع عموماً على مر تاريخ الفكر البشري أنَّ حاجة الإنسان للغذاء والكساء والمأوى والدفاع عن النفس هي التي تدفعه إلى الانتظام في مجتمع إنساني، فالإنسان لا يستطيع أن يسد حاجته للغذاء بمفرده، لأنَّ ذلك يتطلب أعمالاً كثيرة لا يقدر أن يقوم بها بمفرده، فلابد من تعاونه مع الآخرين من بني جنسه لاقامة ضرورات الحياة ومتطلباتها.

والإنسان معرض للخطر ليس من جانب الحيوانات المفترسة فحسب ،بل من جانب أخيه الإنسان، لذا لابد من وجود سلطة تحول دون اعتداء الناس بعضهم على البعض الآخر، ومن وجود سلطة رادعة وقوية يُحتكم اليها في منع الناس من قتل أو إيذاء بعضهم البعض، او ممارسة اي عمل يهدد الوجود الانساني، حيث أنَّ العداء والعنف والشر نزعة سائدة في طبيعة البشر، وهذا ما اشار اليه الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع والدين والاخلاق، وهذه السلطة تكون في يد الحاكم او الرئيس الذي يدير دفة الدولة ويوجه الافراد وفق سياسته وطريقته في الحكم وبرنامجه السياسي المخطط له.

والانسان في اي مجتمع كان وفي اي زمان ومكان لابد ان يكون له قانون يحكمه، وحاكم يقوده، وسلطة تردعه وتحقق له سلامته، وان يعرف في ظلها حقوقه وواجباته، لان غياب ذلك يعني غياب امنه وسلامته ودمار مجتمعه وحياته والعيش في غابة يسيطر فيها القوي على الضعيف وتضيع الحقوق وتنتهك الحرمات.

يرى ابن خلدون (ت808هـ ) أنَّ الدولة لا تقوم إلاَّ على أساسيْن :

1ـ الشوكة والعصبية المعبر عنهما بالجند.

2ـ المال الذي هو قوام أولئك الجند، وإقامة ما يحتاج إليه الملك والحاكم من امور في ادرة وقيادة الدولة ورعاياها.

فالدولة في أولها تكون بدوية، حيث يكون الإنفاق معقولاً، ولذا يكون هناك إمعان في الجباية والإسراف، وإذا عظم المال انتشر الترف الذي يؤدي إلى انهيار الدولة، فإنَّ نفقات السلطان وأصحاب الدولة تتضاعف، وينتشر الإسراف بين الرعايا، وتمتد أيديهم إلى أموال الدولة من جهة، ومن جهة أخرى يبدأ الجند في التجاسر على السلطة، فيضطر السلطان إلى مضاعفة الضرائب، فيختل اقتصاد البلاد، ولكن الجباية مقدارها محدود، كما لا يستطيع رفع الضرائب إلى ما لا نهاية، ولذا يضطر إلى الاستغناء عن عدد من الجند حتى يوفر مرتباتهم، فتضعف حمايته، وتتجاسر عليه الدول المجاورة أو القبائل التي ما تزال محتفظة بعصبيتها.

إنَّ العصبية عند ابن خلدون لا تشمل أبناء الأسرة الواحدة الذين تربطهم بعضهم بالبعض الآخر صلة الرحم فحسب، بل هي تتسع لتشمل أهل الولاء والحزب واالجماعة التي ينتمي لها الحاكم والناس الذين يؤيدون سياسته، فالعصبية هنا تخرج من اطار الانتماء القبلي والنسبي الضيق الى اطار الجماعة المؤيدة لسياسة الحاكم والتي تقف معه وتسانده في ادارة الدولة وتدعم حكمه وبرنامجه السياسي ومؤمنة بان عمله وسياسته تصب في مصلحتها ويقوي وجودها ويحقق لها امنها وسلامتها، وهذا هو ما يقوي الدولة ويطيل في عمرها ويحقق نجاحها، عندما يكون الشعب مع الحاكم يداً بيد من اجل تحقيق الغاية العظمى من السعادة والامان والاستقرار السياسي والاقتصادي والامني.

اكد ابن خلدون في فكره السياسي على ان الدولة شأنها شأن الانسان تولد وتحيا وتموت، ولها عمر يطول ويقصر، وتشقى وتسعد، حسب طبيعتها وطريقة سلوكها، وللدولة اطوار واحوال تمر بها منذ ولادتها ونشؤئها حتى فنائها وسقوطها، واطوار الدولة عند ابن خلدون هي :    

الطور الأول: طور التأسيس، وفيه يكون السلطان جديد العهد بالملك. لذا فهو لا يستغني عن العصبية، وإنَّما يعتمد عليها لإرساء قواعد ملكه، فيكون الحكم في هذه المرحلة مشتركاً نوعاً ما بين الملك وبين قومه وعشيرته، ويتميز هذا الطور ببداوة المعيشة، وبانخفاض مستواها، فلم يعرف الغزاة الجدد بعد الترف.ويشترك الجميع في الدفاع عن الدولة لوجود الشجاعة والقوة البدنية.

الطور الثاني: الانفراد بالملك، ويرى ابن خلدون أنَّ الانفراد بالسلطة ميل طبيعي وفطري لدى البشر، ولذا فإنَّ السلطان عندما يرى ملكه قد استقر يعمل على قمع العصبية، كما يعمل على الانفراد بالحكم، واستبعاد أهل عصبيته من ممارسة الحكم، وعندئذ يتحول من رئيس عصبية إلى ملك. ويضطر السلطان إلى الاستعانة بالموالي للتغلب على أصحاب العصبية، أي أنَّه يبدأ في هذه المرحلة الاعتماد على جيش منظم من أجل المحافظة على المُلك.

الطور الثالث: طور الفراغ والدعة، وفي هذا الطور يتم تحصيل ثمرات الملك وتخليد الآثار وبُعد الصيت، فالدولة في هذا الطور تبلغ قمة قوتها، ويتفرغ السلطان لشؤون الجباية، وإحصاء النفقات والقصد فيها، ولتخليد ملكه بأن يبني المباني العظيمة الشاهدة على عظمته، وفي هذه المرحلة يستمتع الجميع، السلطان بمجده، وحاشيته بما يغدقه عليها السلطان.

الطور الرابع: طور القنوع والمسالمة، وفي هذا الطور يكون صاحب الدولة قانعاً بما بناه أسلافه مقلداً لهم قدر ما يستطيع، والدولة في هذه المرحلة تكون في حالة تجمد وتعطل فلا شيء جديد يحدث، وتغير يطرأ، كأن الدولة تنتظر بداية النهاية.

الطور الخامس : طور الإسراف والتبذير ، ويكون صاحب الدولة في هذا الدور متلفاً لما جمعه أسلافه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته، فيكون مخرباً لما كان سلفه يؤسسون، وهادماً لما كانوا يبنون. وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا برء منه إلى أن تنقرض.

ويرى ابن خلدون أنَّ بداية انحلال الدولة يرجع إلى عنصرين اساسيين هما: انحلال العصبية، والانحلال المالي نتيجة تبذير السلطان، ولهذا تنهار الدولة سياسياً واقتصادياً. فالدول والحكومات في اي زمان ومكان تحتاج الى دعامتين اساسيتين في تحقيق قوتها وديمومتها وهما : 1ـ قوة الحكم. 2ـ قوة الاقتصاد.

فهما عماد نجاح الدولة وبقائها وصلاحها، وهذا الامر لن يكون الا بوجود الحاكم العادل القوي الرحيم الذي ينظر الى شعبه مثلما ينظر الى نفسه. وهو امر قليل تحققه واقرب للمستحيل في ظل غلبة الطابع الشخصي والاناني للحكام والساسة على الطابع العام للشعب والمواطنين.

وعندما نأتي الى الدولة والحكومة العراقية القائمة ما بعد 2003، وبعد سقوط الحكومة السابقة التي سقطت بسبب اعمالها الطالحة وادارتها السيئة، والاسراف والتبذير وسوء الحكم وعدم تحقيق التوازن المجتمعي والدولي، سواء في الداخل مع الشعب او في الخارج مع الدول الآخرى، ولذا سقطت بشر اعمالها ووصلت الى ما وصلت اليه وفق منطق ابن خلدون السياسي الى الطور الخامس.

والحكومة العراقية القائمة اليوم مرت بمراحل واطوار تشبه بما مرت به الحكومات العراقية السابقة، ونخشى ان يكون ذلك بداية نهايتها او نذير بسقوطها، لغياب الوحدة الوطنية ( العصبية ) وانحدار اقتصاد البلد وسوء الخدمات وغياب الجانب الامني وتكالب العدوان من كل جانب، والى ما تشاء من اسباب وعوامل مضعفة للدولة ومحققة لضعفها وسقوطها، ولذلك عليها تدارك الموقف ومعالجة الخلل والنظر في العلل لتقوي نفسها، والا فستحل فئة وجماعة جديدة تسيطر على مقاليد الحكم وتجبر الشعب على قبولها سواء بالمنطق او بالقوة، وعند ذلك تكون النتيجة وخيمة وغير محمودة وقد يتحقق ما لا يحمد عقباه.

فالفساد المستشري في كل مفاصل الدولة والمجتمع، وغياب القانون والقوة الرادعة، واستغلال رجال السلطة والسياسة سلطتهم وتحقيق مآربهم، والطبقية المقيتة بين ابناء المجتمع بين فئة حاكمة مستبدة، وفئة محكومة مستعبدة، واستغلال اهل السياسة لمناصبهم في استغلال المال والبلاد والعباد بصورة بشعة اوصلت البلاد الى هذا الحال، وهي نذير بسقوط العملية السياسية والحكومة العراقية وادخال البلد في حروب طاحنة تأكل الاخضر واليابس، معدة وفق برامج خارجية وبتنفيذ ايادي داخلية.

حفظ الله البلاد والعباد من شر هذا المآل وسوء الحال، والاخذ بما يسعف امرنا وواقعنا من النصح والارشاد، والاعتبار بما مررنا به من سالف الازمان لتحقيق التغيير والاصلاح والتنوير والنهضة والعيش بسلام وفق منظومة سياسية تاخذ بالاعتبار تعددية المجتمع العراقي المذهبية والدينية والقومية، وتعمل على غرس الهوية الوطنية وايلائها الاهتمام الاول، فترسيخها هو الاساس في حماية البلد من مخاطر العنف والارهاب، وهذا لن يكون الا بالعدل اولاُ وآخراً، فالعدل اساس الملك.  

 

     د. رائد جبار كاظم

 

في المثقف اليوم