قضايا

من الحقائق المسكوت عنها في صباح 14 تموز 1958 (2)

alaa allamiنواصل رصدنا وتسجيلنا لوقائع ذاك الصباح الدامي في 14 من تموز 1958 وما حدث في قصر الرحاب وتحليله:

11- في الساعة السادسة والربع بدأ القصف المدفعي على قصر الرحاب الملكي بأمر من العقيد عبد الرحمن عارف "وهو أخو عبد السلام" والذي كان آمر فوج " فيصل" المدرع، والذي تقدم بقواته من معسكر الوشاش لدعم الهجوم الرئيس بناء على أوامر من أخيه كما يبدو، ولم نسجل أي إشارة إلى كون عبد الرحمن كان عضوا في تنظيم الضباط الأحرار أو لم يكن، والأرجح أنه كان عضوا فيه، تأكد لي لاحقا صحة هذا الترجيح.

12- بعد مفاوضات ومحادثة قصيرة بين قيادة الحرس الملكي وقيادة القوات المهاجمة قرر المحاصَرون الاستسلام، وبدأت الأسرة الملكية بالخروج وفجأة حدثت المجزرة الرهيبة. وهنا أقتبس ما ذكره المصدر التاريخي الذي اعتمدته في كتابة هذه المقالة بشكل رئيس الى جانب مصادر أخرى (ثلاثية العراق / تأليف حنا بطاطو: قبل الساعة الثامنة بقليل خرج الملك والأمير - عبد الإله الوصي على العرش – وبقية أعضاء العائلة من الباب الخلفي للقصر مرتبكين، إلى الفناء ليواجهوا نصف دائرة من الضباط. وبعد لحظات، ظهر آتيا عدوا من الباب الرئيسي، وبيده رشاش عبد الستار العبوسي، (ترد رتبته في بعض الكتابات بصفة " رئيس" وهي رتبة عسكرية عراقية قديمة استبدلت لاحقا برتبة النقيب بحسب بعض الترجمات، وبرتبة ملازم ثاني في مصادر أخرى شانها شأن رتب ضباط آخرين)، ولكننا نجد المعني قد وقع إفادته أو تقريره الرسمي عن أحداث قصر الرحاب برتبة م أول، أي ملازم أول) وكان أحد المبعوثين المفاوضين – ولم يكن عضوا في العصيان في الأساس ولم يكن عضوا في تنظيم الضباط الأحرار - وأطلق النار فجأة ومن وراء ظهر العائلة الملكية. وأدى عمله هذا إلى تفجر سيل من الرصاص الذي جاء من كل ناحية ومن كل من كان يحمل سلاحا. ولم يسقط الملك وجمعه فقط بل سقط أيضا ثلاثة من الضباط الذين كانوا يشكلون نصف دائرة / ص111 الكتاب الثالث).

13- هناك رواية أخرى تقول إن من بادر إلى إطلاق النار أولا هو الضابط في الحرس الملكي ثابت يونس – جرح خلال المواجهة المسلحة ثم توفي لاحقا في المشفى- فهو الذي بادر أولا إلى إطلاق النار على القوة العسكرية التي كانت تراقب استسلام الأسرة الملكية وخروج أفرادها إلى حدائق القصر، ولكن رواية ثالثة للضابط في الحرس الملكي آنذاك فالح حنظل، صاحب الرواية الثانية نفسه، في كتابه (أسرار مقتل العائلة المالكة في العراق) تقدم وقائع أخرى بعضها يتسق مع، وآخر يناقض هذه الرواية ولكنها من جهة أخرى تقدم عناصر مهمة تثبت عدم وجود خطة مسبقة لقتل أفراد الأسرة المالكة. ويبدو أن هذا التناقض ناتج عن تغييرات وتعديلات أجراها حنظل على نص كتابه فالمؤرخ حامد الحمداني في كتابه عن الثورة يقتبس عن كتاب حنظل الفقرة بالغة الأهمية التالية والتي تحمل مسؤولية البدء بالاشتباك للملازم المرافق الشخصي للملك ثابت يونس لنقرأ الفقرة كما اقتبسها الحمداني (وعندها ظهرت راية بيضاء علامة الاستسلام، وعندها خرج الملك فيصل الثاني وولي العهد عبد الإله والملكة نفيسة، أم عبد الإله، والأميرة عابدية، شقيقة عبد الإله، والأميرة هيام زوجة عبد الإله وابنة أمير ربيعة بلاسم الياسين، أكبر إقطاعيي العراق، وبمعييتهم الخادمة رازقية، والطباخ التركي، حاملين الرايات البيضاء ومعلنين الاستسلام وكان يتقدمهم الملازم الأول "يونس ثابت" وهو رافع المنديل الأبيض، وعند اقترابهم من الثوار، وعلى بعد عشرون متراً أو أقل نهض الجنود وهم بوضع التهيؤ للرمي لغرض استلام الخارجين، وفي لحظة مفاجئة سحب الملازم الأول يونس ثابت مسدسه وأطلق عدة عيارات منه فأصاب بها الملازم مصطفى عبد الله وعدد آخر من الجنود كما فتح بعض الجنود النار من شرفة القصر في الطابق الثاني ، وعلى الأثر بادر عبد الستار السبع "العبوسي" ورافقه الثوار إلى إطلاق النار على جميع أفراد العائلة المالكة وأرداهم قتلى في الحال، ما عدا الأميرة هيام زوجة عبد الإله التي أُصيبت بجروح، لكنها استطاعت أن تزحف إلى داخل القصر، ثم نُقلت فيما بعد إلى المستشفى، وهكذا كانت نهاية العائلة المالكة في العراق . ص 95 / أسرار مقتل العائلة المالكة في العراق) وبالعودة إلى هذه الصفحة في الكتاب في طبعته الثانية 1992، والتي أصدرها وهو يقيم في دولة خليجية، لم نجد هذه الفقرة بل وجدنا فقرة مختلفة وقد وضعت نقاط بدلا من بعض العبارات المهمة، وخاصة تلك التي تؤكد مسؤولية مرافق الملك، إضافة إلى العديد من الفقرات التي تدين القوة المهاجمة وقادة الانقلاب الثوري ومصائرهم لاحقا بشكل لا يخلو من الشماتة وسوء الظن حتى أنه لفق قصة عن دفن عبد الكريم قاسم بشكل سري وكيف جاءت الكلاب ونبشت القبر ...الخ!. ومن اللافت والذي يؤكد عدم نزاهة حنظل في الطبعة الثانية لكتابه أن الحمداني ينسب تلك الفقرة الى الكتاب بالعنوان السابق نفسه ولكن اسم المؤلف هو فالح زكي في حين اختار المؤلف أن يوقع الطبعة الثانية باسم " الدكتور فالح حنظل" ولا يتعلق الأمر بشخصين كما تأكد لنا من مراجعة تقرير البامرني في الكتاب بل بشخص واحد هو (فالح زكي حنظل) ويبدو أن أسبابا سياسية وغير سياسية هي التي حدت بحنظل للتلاعب بنص كتابه.

14- وقد يقول قائل لِـمَ لا يكون التلاعب قد صدر عن المؤرخ حامد الحمداني في الفقرة السابقة من تقرير العبوسي وليس فالح حنظل؟ يمكن نفي هذا الاحتمال بسهولة فأولا يعتبر الحمداني ممن يعتقدون بوجود خطة مسبقة للقضاء على الأسرة المالكة في كتابة سالف الذكر وليس من مصلحته التلاعب هنا، وإضافة فقرة تنفي أو تضعف اعتقاده هذا، وثانيا فثمة أكثر من دليل على تلاعب حنظل بنص كتابه وخصوصا حين زج باسمه في فقرة نص تقرير الملازم عبد الستار العبوسي ليبرئ نفسه من التعاطف مع الثورة (علما أن الطبعة الأولى من كتاب حنظل صدرت في العراق سنة 1971 والثانية سنة 1991 في دولة خليجية كان يقيم فيها) في حين لم ترد هذه الفقرة في نسخة الزبيدي من هذا التقرير ولا في أية نسخة أخرى. مضاف إلى ما تقدم فالحمداني مؤرخ مشهود له بالموضوعية والحياد العلمي فهو وإن كان منحازا للثورة كباحث وطني ويساري ولكنه كما تقدم لا يتردد في طرح قناعاته الشخصية المعاكسة لمواقف نظرائه السياسيين والفكريين فهو بعد أن ناقش محور قصدية أو عدم قصدية مقتل أفراد العائلة الملكية يخلص إلى القول (وأغلب الظن أن التخلص من العائلة المالكة كان قد تقرر سلفاً بغية منع أي محاولة لإجهاض الثورة سواء كان ذلك من قبل القطعات العسكرية الموالية للملك، أو من عدوان خارجي يدبره حلف بغداد) وقد وضحنا في ما سبق أن هذا الظن يبقى ظنا وترجيحا قويا ولكنه يفتقر إلى أدلة ملموسة وثمة الكثير من الأدلة على عكسه تماما كما تقدم معنا.

15- أما بخصوص الدور الشخصي لعبد الكريم قاسم في موضوع مقتل العائلة المالكة فيمكن الخلوص بثقة إلى أنه لم يأمر أو يشترك مباشرة أو بشكل غير مباشر في هذه المجزرة، التي يتحمل المسؤولية المباشرة والتنفيذية عنها شخصان: الأول هو العقيد في الحرس الملكي ثابت يونس – جرح خلال المواجهة المسلحة ثم توفي لاحقا في المشفى- فهو الذي بادر أولا إلى إطلاق النار على القوة العسكرية التي كانت تراقب استسلام الأسرة الملكية وخروج أفرادها إلى حدائق القصر، والشخص الثاني هو الملازم الأول عبد الستار العبوسي والذي كان ضابط تدريب في مدرسة عسكرية، وبعض الباحثين يضيف إليه الضابط مصطفى عبد الله (من أسرة كردية) والذي كان أكثر الموجودين من العسكريين الانقلابيين تحمساً وعنفاً ضد الوصي والملكية وكان أول من بادر إلى شتم الوصي والتهجم عليه لفظيا وبألفاظ نابية وقاسية لحظة استسلامه وخروجه مع العائلة وأرجح أن هذا السلوك هو ما دفع مرافق الملك إلى إطلاق النار عليه وإصابته وبدء الاشتباك والمجزرة الدموية، وقد انتحر العبوسي بعد اثني عشر عاما تحت وطأة الشعور بالندم والذنب وبعد أن صار – كما يروى لنا حنظل الذي ارتبط به بعلاقة صداقة طويلة- ضحية لظهور أشباح الملك الشهيد خصوصا ولكوابيس في منامه حتى أنه اقترح عليه أن يعالج نفسه نفسيا وعصبيا، وكان العبوسي قد حظي برعاية خاصة من قبل حكومة البعث برئاسة أحمد حسن البكر وأرسل في دورات دراسية إلى موسكو ثم عين رئيسا لأركان القوات البحرية، وهو الذي بادر إلى الرد على رصاص يونس وأطلق النار باتجاه الأسرة المالكة. غير أن المسؤولية غير المباشرة ليست محصورة بهذين الشخصين من الناحية السياسية والأخلاقية على الأقل، وأعتقد أن قائد الثورة عبد الكريم وزميله عبد السلام وقائدي القوات التي طوقت واقتحمت القصر الملكي يتحملون المسؤولية عنها، وخصوصا عبد الكريم بصفته هذه – قائد الثورة الأول ومؤسس تنظيم الضباط الأحرار ورئيس الوزراء لاحقا - ولأنه لم يأمر لاحقا بتقديم المسؤولين عنها إلى القضاء ومعاقبتهم بل وأهمل هو وعبد السلام نتائج لجنة التحقيق التي شكلت للتحقيق في تفاصيل المجزرة ومعروف أن القوميين والبعثيين أهملوا بدورهم التحقيق في هذه المجزرة بعد أن قتلوا عبد الكريم وعدد من رفاقه بل وكرَّموا القاتل المباشر كما أسلفنا.

16- دخل عبد الكريم وقواته بغداد بعد ظهر ذلك اليوم، وبعد أن استتبت السيطرة لزملائه الثائرين على النظام الملكي، وأذاع عبد السلام البيان الأول للثورة من الإذاعة العراقية صباحا، وباشر عبد الكريم فورا مع عدد من قيادة تنظيم الضباط الأحرار باتخاذ سلسلة من الإجراءات اللازمة لترسيخ الوضع والسيطرة على الحشود الهادرة من المدنيين والعسكريين في شوارع بغداد.

للحديث صلة في الجزء الثالث والأخير من هذه المقالة.

 

في المثقف اليوم