قضايا

الدين بين مزدوجين

akeel alabodعند ما يتحول الدين من الانتماء الفطري الى وسيلة للتضليل والابتزاز والتكفير، وعندما ايضا تصبح الفتوى وسيلة، اوطريقا للمساومة والتلفيق، وعندما وعلى نفس المنوال، يمارس من يسمى برجل الدين لغة الكذب والنفاق، وعندما زيفا ورياء يحرص اللصوص والمنافقون على التظاهر بأهمية الزكاة والتبرعات امام أعين الناس، وتلبية فريضة الحج، كل ذلك طمعا بالجاه والوجاهة ، وليس حرصاً او تلبية لما تفرضه حقيقة الالتزام الأخلاقي والديني، هنا من باب المقارنة والاستقراء؛

يوم ابتدأت تجربتي مع الدين حيث بقايا تاريخ ستيني ما زلت اقلب اوراقه.

أنداك كنت بلهفة استمع الى والدتي وهي تقرا ما يسمى بالختمة، والختمة هي مجموعة سور قرآنية تهدى الى أرواح الأموات والقضاء عنهم، حيث مجموعة صلوات، تضاف اليها صلاة النذر، وكذلك صوم الزكريا، وهو عبارة عن صيام نهار واحد، تصلي فيها الام، او صاحبة النذر لعلها المخصوصة بالدعاء ترزق بمولود جديد.

وهنالك في الفضاء المفتوح تسمع صوت المؤذن وهو يدعو الناس الى العبادة والتضرع الى الاله الواحد، عن طريق تلك النبرة التي ترتبط فيها الأحاسيس مع العقل والقلب تلبية للنداء الالهي بفطرة وديعة وسليقة خاشعة.

في قضاء سوق الشيوخ التي تبعد مسافة لا تقل عن الثلاثين كيلومترا عن مدينة الناصرية، المدينة الام، كانت الزيارات تفرض نفسها، حيث تعد زيارة الخوال والأقارب ايام العطلة الصيفية مع ارض يسكنها النخيل وتطوف على بعض مشارفها خطوات الأولياء، وقبور الصالحين أمرا مستحبا كونه يجلب للنفس متعة وسرورا.

(ام العباس)، تلك القبة المطلية باللون الأخضر ما زالت ماثلة في ذاكرتي، كما ذلك الامتداد من الخضرة الوارفة ولون الشفق والاصيل، وكما ضفتي الشاطئ الجميل، وكواصر التمر، مضافا اليها بصمات الحناء، تلك التي كانت تطلى بها أبواب بيوتات بعضهم كونهم اصحاب بخت او حظ او كرامة كما كان يقال لنا، صفات يمتاز بها اصحاب القلوب الطاهرة، وكذلك باعتبار ان البعض منهم ينتمي الى نسب بني هاشم؛ بيت سيد عودة واحدا من هذه البيوت، هذا اضافة الى مظاهر الاستقبال التي تملاها المحبة، حيث استضافة الخالة، والجدة والخال، وتلك الألفة التي تجمع الأهل والاقارب، خاصة عندما يتم تحضير مائدة الطعام ترافقها اصوات الديكة، والطيور والبلابل.

الخال مَجِيد السنيد، أتذكره بتلك العباءة والعقال واليشماغ، هو نفسه بهيبته وبساطته المعهودة وصوته الخاشع، مؤذن احد المساجد في قضاء سوق الشيوخ.

شعور بالاطمئنان يحتويني، وانا استمع اليه من فوق السطح في فصل الصيف وهو يقيم الفجر ويؤم بالمصلين، كان يسألنا بعد الصلاة عن إفطار الصباح الشهي، قبل ان يجلبه لنا، كالكاهي والقيمر والكباب، ذلك فقط لاجل ان يشعرنا بمقام الإكرام والضيافة والاعتزاز. كانت الحياة تجري بهكذا نمط من العذوبة والنقاء.

والدي آنذاك لم يكن ملتزما على نمط رجال الدين الحاليين، كان يحب الاستماع الى اغاني فيروز وداخل حسن وناظم الغزالي ، لكنه يذكر اسم الله لكأنه يصلي دون صلاة، يمنعنا عن تناول الطعام بمفردنا حتى تأتي والدتي، لتصلي على النبي اثناء تجهيزها الطعام قبل تناوله، لاجل البركة بحسب الاعتقاد.

لم يكن يسكن قصرا فخما او يمتلك امتيازا كاصحاب الامتيازات التي يمتلكها المترفون من عمائم السلطة الحاليين، لكنه كان بحكم منصبه الوظيفي كمدير لبلديات اللواء، يسعى دائماً لتوظيف الفقراء ومساعدتهم، حيث شخصيته المؤثرة، متجنبا اي عرض دنيوي او رشوة تعرض عليه، طمعا برضا المعبود، هو هكذا كان يقول بفطرته، مساعدة الفقراء تغني عن الصلاة والزكاة.

اما والدتي فكانت تجيبنا عندما نسألها عن ختمة القران، بان الايات تضيء ظلمة القبر ويفرح الأموات بها فهي تأتي اليهم كالانوار بصحبة الملائكة، لذلك بقيت تلك الطقوس تجمعنا حتى مع أهل القبور وذويهم من الأحياء.

عندما يودعنا احد ويدفن في مقبرة النجف، كان الجيران يذهبون معا للمشاركة في مراسيم العزاء، هكذا على شكل عائلتين أو أكثر يتم استئجار سيارة او يتم الحجز في القطار القديم الذي يسمى الريل، هذا ناهيك عن ارتداء لون الحزن او تطويل الذقن تأسيا وحزنا ومشاركة للعزاء مع أهل الفقيد.

دفان مقبرة سوق الشيوخ، سيد اسماعيل الخرسان وبيتهم الذي كان يأوي الزائرين هو الاخر كان يضفي طقسا من طقوس دين الفطرة والنقاء.

العزاء كان مجموعة سور قرآنية محلاة بأطوار ومقامات القراء، أتذكر الشيخ نامق بصوته العراقي، وعبد الباسط بالطور المصري،

ومع أصواتهم التي كأنها تشاركنا في احزاننا دائماً، بقي طعم القهوة والشاي محاطة بقطع القماش الذي يسكن في جوانحها الحزن وحضور المعزين، هكذا هي طقوس الراحلين الى عالم الفناء، يتم ترتيبها مع جميع اجراءات مراسيم الفاتحة من الأكل والطعام حتى حضور الملة أو مصلي المسجد.

ملة ادريس وحاج عبود السنيد، ما برحت اصواتهم تعوم في مسامعنا وهي ترتقي المنبر في اليوم الثالث بعد الوفاة.

الدين كان كما زي بسيط نرتديه نحمله مع نبضات قلوبنا، النفوس كانت تحمل في بواطنها براءة معهودة.

لم يكن الاسلام مقيدا بفتوى ولا بإمام، كل ما نعرفه هو اننا نكن احتراما وتوقيرا للرجل الكبير ونسميه حاجا.

لم يكن يهمنا تدين شخص ما بقدر ما يهمنا التزامه الاجتماعي والأخلاقي، لذلك، لم نكن نعارض او نوافق اي مبدأ، مهما كانت نوع الافكار، سيد وليد دفن حيا في الستينات وهو شيوعي من أهل الناصرية، الكل ارتدى السواد حزنا لأجله.

بالمقابل كان المتدين يحرص ان يكون النموذج الأسمى، اتذكر احترام مدرس اللغة الانكليزية عادل حمودة الذي تم إعدامه بتهمة الانتماء الى حزب الدعوة في السبعينات الى افكار الماركسيين، كما أتذكر جبار طعين مدرس اللغة العربية في متوسطة سوق الشيوخ، هؤلاء كانوا نماذجا يحتذى بهم في باب التدين والأخلاق.

يوم تعرفت على نظام الحوزة في سوريا، بدأت اشعر بعدم الارتياح، العمامة كانت فاصلة ونقطة فارقة ، لكنها في اصلها بقيت شامخة كما عمامة الرسول، فقد بقيت ثلة يهمها تولي أمور المحتاجين.

ذات يوم شهدت شخصا بعمامة سوداء، وقطعة خضراء يضعها على كتفيه، وعندما تحريت عن الامر، اتضح انه يدعي ذلك، ليحصل على حقوق السادة وهي تختلف عن حقوق العوام،

وشهدت نموذجا اخرا يبتز الزائرين بحجة التميمة والحرز والعوذة، واخرا يسرق قوت المساكين.

اما عن نظام رواتب الحوزة، فقد حرم ذات يوم منتسب عن استلام راتبه لحلاقته ذقنه، باعتبار ان حلاقة الذقن نوع من الفسوق بحسب الفتوى.

وقطع مرتب شخص اخر لعمله في مكان تجاري أو سوق تحت عنوان ان مال الامام الحجة مخصص فقط للمتفرغين للدراسة الحوزوية،

بينما بالمقابل يغض النظر عن اخر يمتلك بيتا، أو يمتلك رصيدا في البنك، باعتبار ان الامر خارج عن نطاق لجنة الصندوق التمويلي لطلاب الحوزة، فيعفى الأغنياء عن المساءلة، ويحاسب الفقراء عن اي عمل إضافي خارج الحوزة، باستثناء المتفرغين للعمل الكتابي مع العلماء والمجتهدين.

اما بالنسبة للعلاج الطبي، فيعفى بعض اولاد السادة من دفع أجور الفحص الطبي في المستوصفات الخيرية بحسب مراتبهم ومواقعهم الاجتماعية والدينية، او تخفض نفقات العلاج عن البعض منهم، بينما لم يشمل العامة بهذا النوع من المساعدات، اقصد التأمين الصحي وان كانوا تحت سطوة العوز مهما كانت النتائج.

ومن المواقف التي شهدتها، انه تم الامتناع عن معالجة طفل أصيب بالجفاف يوم كان بعمر خمس سنوات في مستشفى الخميني الخيري، لعدم تمكن والده من دفع مقدمة نفقات العلاج والمعاينة البالغة نصف ورقة، ما اضطر الاب الى نقل ولده الى مستشفى المواساة العام، لتلقي العلاج مجانا على نفقة المستشفى المذكور، وكذا الامر في مستوصف الصدر الخيري، يوم تم الامتناع عن مداواة طفلة تعرض أصبعها الى رض شديد ما ال الى تورمه وانحباس الدم فيه.

هذا ناهيك عن التدخل في علاقات الانسان الاجتماعية من خلال اتباع لغة التكفير والتسقيط الذي يتم ممارسته من قبل المؤسسات الخاصة بالمرجعيات، حيث يحرم السلام على الشيخ الفلاني لولائه للمرجع الفلاني، او المشاركة حتى في عزاء من يتم التشكيك في ولائه الى المرجع الفلاني.

ما دفع بعض الحوزات والمؤسسات الدينية الى التنافس في ضخ الرواتب لكسب أكثر عدد من الولاءات الى مراجعها واجندتها؛ حيث تدفع الحوزة الفلانية اكثر مالا، لتكسب اكثر عدد من الطلاب اليها.

اليوم صرنا نسمع عن أملاك السيد الفلاني وعقارات الشيخ الفلاني، خاصة بعد اشتراك هذا النمط من الناس في سلطة العراق الحالية.

ذلك بعد ان انكشفت اوراق من كنا نغض الطرف عنهم تحت عنوان ما يسمى "حماية بيضة الاسلام وقدسية المرجعية".

وكما الامر هناك انتقل الى مساجد دول الغرب بعد ان تحول الدين الى وسيلة لطلب الوجاهة والشأن، فبدلا من تقريب صاحب الإيمان الحقيقي، يندفع الجاهلون الى تقريب من يمتلك هذه الوجاهة، وبهذا اذ كما يبدو، تحول تفسير الآية القرانية من "ان أكرمكم عند الله اتقاكم" الى ان أغناكم واكثركم مالا، اقربكم الى الاحترام والاكرام.

لذلك ما ان يمد صاحب المال يده للتبرع بغض النظر عن طريقة حصوله على المال، يندفع الآخرون حوله بسذاجة غريبة خاصة، اذا كان يمتلك ذقنا ومسبحة،

وبما اننا نعيش في عصر الإنترنيت والعولمة، ينبري الجهلة والمتنفذون لانشاء صفحات ومواقع الدعاية الخاصة بهم، ليتم تصديقها، بعد تصفحها من قبل الغافلين، وبهذا نصب فلانا نفسه رأسا للجالية، وآخر صار حجة، وآخر عالما وفقيها، وهكذا.

وبمقتضى الحكاية صار للجاهل رأيا ونفوذا به يحكم الاخرين، وبه يفرض ما يراد ان يخطط له.

يمارسون الكذب والنفاق، يتحدثون عن ضرورة التأكد من لحم الحلال، ويغضون الطرف عن مناقشة موضوع مال الحرام ومصادره.

فيتم تشغيل رؤوس أموال، مقابل ربح لم يتم الإعلان عنه تماشيا مع ما تقتضيه مصلحة الفتوى التي تحرم تحديد اتفاق الارباح، وبهذه الطريقة، وعلى هذه الشاكلة يتم توليف وفبركة عقود وأحكام ومعاملات،

اليوم حيث يتم استخدام الدين كستار لحماية أرصدة السرقات، وبينما يتم تمرير لعبة فلان "دخيل جدة" كونه ينتمي الى البيت الشيعي، وآخر ينتمي الى" المرجعية الفلانية"، الحكاية بقي فيها ما يعد خاتمة للكلام.

هنا أتذكر حديث صاحب الدكان، حيث في الرؤيه، اوعالم المنام تحقق ان يدخل الشيخ فلان في النار، والشقي علان في الجنة، وعندما تم السؤال عن ذلك عرف الجميع ان الشقي علان بفطرته ومحبته استطاع إنقاذ حياة انسان مضحيا بحياته بعد اصطدامه مع عصابة اعترضت الرجل المسكين وأرادت ان تسرق ماله وتقتله في طريق ما، بينما اخل الشيخ فلان الذي كان يحكي للناس عن الحلال والحرام بمكيال الوزن والميزان في تعامله مع البيع لتكون عاقبته كما عاقبة هذا الدين الذي تسافل بفعل من لا خلق له ولا دين.

 

عقيل العبود/ ساندياكو

في المثقف اليوم