قضايا

منطق البذرة والثّمرة

jamal bozyanتَعُجّ السّاحات الفكريّة والفلسفيّة اليوم بِنتاجٍ بشريّ لا يَنضب؛ وحتّى لا أَصف أيًّا منها بوسم مُتداول هُنا أو هناك فذاك يبدو جليًّا على بساط كلّ بحث ونِقاش... حين تَغيب عن العقل روح النّقد ينمو التّقليد والتّأييد؛ ويَنشأ "القحط المعرفيّ"؛ ويَختفي الإبداع والاجتهاد ويَزداد الذّوبان في الآخر؛ وتَزدهر التّبعيّة دون مُقابل في ظِلّ غياب "الإرادة".

سأعرض في هذه العُجالة شذرات بعض مَن أبحروا وأَجادوا فنّ "الاصطياد المعرفيّ"؛ وما أكثرهم حين سجّلهم التّاريخ بحروف من ضوء بارق شارق؛ انطلق من "البذرة" وصولًا إلى "الثّمرة"؛ فأيّ سلاح رفعوا يا تُرى؟.

إنّ المتأمّل في مسارات العلماء والمخترعين والمكتشفين يُدرك النّشاط الذّهنيّ لهم في أكثر مِن محطّة لفهْم الواقع كما حدث بكلّ أبعاده... جدل لا يَتوقّف بين الثّابت والمتغيّر في حياة الأفراد والمجتمعات؛ صراعات محتدمة بطلها "الإنسان الإنسان؛ والإنسان الأسد" في مسرحيّة هزليّة؛ وعبر ركح ثانٍ يَتبختر "القويّ والباحث عن القوّة" وهُما في تَناغم وانسجام؛ وفي مسرح ثالث "الباحث عن الحقيقة يُصارع مالك المعرفة"... يُلاحظ كثيرون عن كثب في ركح رابع استعلاء "فئة" على "شعوب مستضعفة" بقوّة السّلاح والمال والإعلام والسّيطرة على المؤسّسات الدّوليّة دون وجه حقّ؛ إضافة لوهن "حُكّام الواجهة" في البُلدان التّابعة سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا؛ فاجتهدَ أهل الرّأي؛ وبَرزتْ أفكارهم لحماية الإنسان والدّعوة إلى مشروعات مهذّبة لا تَعرف الدّجل والسّفسطة؛ ولا تَسقط في "فِخاخ الظّلم" لكنِ الغابة ازدادتْ أُسودًا ودِببة؛ هذه هي اليوميّات؛ تَضعف فئة وتَقوى أخرى...!.

في عالم الأفكار يجب أن تُحسن عقولنا التّفريق بين المفاهيم كي لا تَتحكّم فينا بوسائل نَجهلها؛ وقدْ تُجاوز مبدأ ميكيافللي "الغاية تُبرّر الوسيلة ولو كانت غير أخلاقيّة" مِثل ما انتُهكتِ "الفكرة الأخطبوط" كلّ دِينٍ وقانون وعُرْفٍ على هذه البسيطة؛ ها هي تَظهر كلّ وقت في ثوب جديد بمخالب أشدّ شراسة؛ حتّى وإنْ تزيّنتْ بمفاتن ووشاح ساحر تبقى معروفة بخِداعها ومكرها.

نَعم؛ إنّ أيّ تجربة إنسانيّة قابلة للنّجاح؛ ومُعرّضة أيضًا للفشل الجزئيّ أو الكلّيّ؛ يجب على الأُمّة ألّا تُقدّس التّراث تقديسًا أعمى أو تُعالج قضايا الواقع بمنظار تاريخيّ صَرِفٍ؛ تَعتزّ بكلّ تراث نبيل؛ وتأخذ من قادم جميل؛ وتُوازن بعين فاحصة لا تَشوبها شائبة؛ تَجتهد كي تَنفع النّاس كلّ النّاس دون إقصاء؛ إنّ أيّ أُمّة لا تُلزم نفسها بقوالب جاهزة من المشرق أو المغرب هي أُمّة تعيش الحرّيّة؛ فلا أروع من حرّيّة تمشي الهوينى بين النّاس؛ يأخذ كلّ ناهل منها ما يشاء حسب ثقافته وهُويّته الحضاريّة دون إكراه من أيّ طرف داخليّ أو خارجيّ. تَفخر الأمم بقيمها الحضاريّة؛ وإنِ اختلفتِ الثّقافات؛ وهذا هو بيت القصيد... التّجارب الإنسانيّة تُفيد البشريّة حالة الابتعاد عن التّعصّب للرّأي؛ لـمّا تَستخدم الأمم والشّعوب ذات الرّأي السّديد مصافي عقل مُشبّعة بـ "المعرفة" تَصل "حقائق واضحة المعالِم"؛ وذاك طريق وسط غير مسدود؛ تَتّسم حركته بالمرونة والهدوء والتّوازن.

إنّ الاختلاف بين البشر طبيعيّ؛ ولا مناص مِن نشر "لقاح معرفيّ" بين الأمم والشّعوب؛ وهو خير مَلجأ فكريّ مُنقذ؛ فتَحرص على إنشاء "توازن" في ضوء "تَعايش سلميّ" بين الثّقافات والحضارات مهْما يكنِ الموقع الجغرافيّ والإرث التّاريخيّ والتّطوّر العلميّ؛ وفي زمن قياسيّ تَتعارف الأفكار وقدْ تتزاوج فتتكامل بـ "عزّة وكرامة" في نِدّيّة بيّنة لطيفة؛ ونَسعد بـ "الأمان"؛ وإنْ تنافرتْ؛ تُحافظ كلّ فئة على "خصائص الـهُويّة"؛ وهو حقّ للنّاس جميعًا؛ حينئذٍ لا يَحدث ذُلّ أو عارٌ من أحد على أحد؛ لكن لا يَحدث تَعارف وتَعاون!.

إنّ سبب إبعاد بُلدان بعينها عن الـمُشارَكة في الحضارة الإنسانيّة هو "منظومات الـحُكُم" نفسها وليس الشّعوب" فعند ما تَتكدّس "الثّرثرة" عن حاكم وتُصنع "جبال الكذب" تَزدهر "همسات الشّعوب الضّعيفة"؛ وتَكثر "نكتة القهر" فيسقط "الوهم" في لمح البصر؛ وهذا وَحده كافٍ مِثل ما صنعتْه حركات التّحرّر في العالَم ذات ربيع بكلّ فخر واعتزاز.

نَسعى بكلّ جهد مع أهل العقول الحكيمة وذوي الآراء القويمة من أجل مشروع "الإنسان في الكون"؛ فنبدأ بـ "العقل"؛ ويُستثمر فيه الذّكاء خير استثمار؛ وتَظهر بعدئذٍ "مُتعة التّفكير الإيجابيّ"؛ وتَنشط البشريّة... نَعلم أنّ الله لا يُرسل أنبياء خارج تفكير العقل البشريّ؛ حقيقة إنّ الإنسان يتأثّر بأيّ فكر سواء أتى به رسل الله أو عبْر النِّتاج العقليّ للإنسان في أيّ زمان ومكان وعلى أيّ حال؛ نتساءل: "هل العقل غير النّشط أسوأ مِن هَوى العاطفة"؟؛ يقينًا أنّ العقل النّشط لا يخاف هَوى العاطفة؛ إنْ تؤدِّ العاطفة إلى الهاوية فإنّ العقل يمارسِ التّفكير؛ ولا يَدرسِ الواقع إلّا العاقل؛ فلا دراسة لواقع دون عقل؛ فمن صُمّ عقله لا يَرى بعينيه؛ العقل الأصمّ أعمى؛ لذلك يَرفعِ العقلاء سلاح الحكمة... إنْ أردنا الحياة؛ علينا بعقل فطن وقلب سليم؛ نَعم هكذا "عقل فطن وقلب سليم".

بعد "نزهات فكريّة" مستفيضة يَهتدي العقل وَيعرف أنّ للإنسان في هذا الكوكب نصفيْن؛ نِصف مادّيّ ونِصف روحيّ... فالإنسان العاقل هو مَن يُجيد "فهْم الحياة الدّنيا" وأيضًا "فهْم الحياة الآخرة"؛ لأنّ حياة أخيرة تنتظر كلّ إنسان بعد موته... الإنسان العاقل يَرى فيما يَرى أن يكون الحاكم من الطّبقة المثقّفة ذات الفكر المتوازن في ظلِّ قِيم المجتمع وخصوصيّاته بعيدًا عن "الأنانيّة والشّوفينيّة والعنصريّة والطّائفيّة والجهويّة..." وهي أمراض قاتلة للشّعوب ومُدمّرة للتّطوّر الحضاريّ المنشود.

الواقع بمرّه وحلوه يُثبت أنّ "الاستعباد الحديث" هو دفاع "المهزوم ماديًّا" عن "المنتصر وهميًّا"؛ ورغم ذلك نَدعو إلى"حُسن ضبْط البوصلة" و"المثابرة أثناء كلّ جهد".

قبْل الختام؛ أقول: إنّ أيّ مجتمع تُضيئه المعرفة لا يَغزوه الظّلام؛ ويجب ألّا تكون المعرفة حِكرًا على أحد؛ بل نَدعو بإلحاح كي تَصير "مصادر المعرفة" كلّها مشاعة بين البشر دون استثناء؛ إنّ أيّ مجد حضاريّ لن يولد دون عقل حكيم؛ فالتغيير الحضاريّ يُبنى بالمعرفة لَبنةً لَبنةً ولا يُصنع في "قوالب الجهل والوهم".

يقول الفيلسوف الألمانيّ كارل ياسبيرس: "إنّ الأسئلة في الفلسفة أهمّ منَ الأجوبة؛ وكلّ جواب يُصبح سؤالًا جديدًا"؛ وذا سؤال يَطرح نفسه بإلحاح: "لو لم يُوجّهِ اللهُ النّاسَ إلى استعمال العقل عبْر الرّسل؛ هل يتّخذِ الإنسانُ العقلَ سبيلًا للتّفكير الاستشرافيّ؛ ولا أقول للهُدى؟" هل تكرار حادثة "قابيل مع أخيه هابيل" وسيلة لإعمار الأرض؟!.

هيَّا نُنشِّطْ عقولنا ونُهذِّبْ عواطفنا نَنجحْ إنِ اليومَ أو غدًا؛ وهيَّا نستفد من تعدّد مصادر المعرفة؛ ونُؤلّفْ معًا كتاب "الإنسان في ميزان العقل"؛ لأنّ المعرفة وحدها فقط مَن تَكشف الحقيقة؛ فلا حقيقة دون معرفة؛ حين لا يتحرّك العقل؛ لا يتحرّك الإنسان؛ البديهيّ إذا تحرّك العقل تحرّك الإنسان.

إنّ مدرسة "المعرفة" مُيسّرة في دروسها الفكريّة؛ وسائرة في طريقها المعتدل المتوازن؛ مشروعها مُضاء بالشّموع لا العتمات؛ مُعبّد بالورود لا الأشواك... لقدْ وهب الله الإنسان مَلكة العقل كي يَتحرّك يَدرس ويَبحث فيَترك إرثًا معرفيًّا؛ يَذكر لنا التّاريخ عباقرة خلّدوا أسماءهم وخدموا البشريّة أيّما خِدمة؛ بداية بالأمريكيّ "توماس ألفا أديسون" مخترع المصباح الكهربائيّ؛ والألمانيّ "يوهان غوتنبرغ" مخترع آلة الطّباعة؛ والإيطاليّ أنطونيو ميوتشي مخترع الهاتف وليس الأمريكيّ "ألكسندر غراهام بل" –كما هو شائع- وغيرهم... الأوّل زيّن كوكب الأرض بمصابيح؛ والثّاني زخرف الأوراق البيضاء في الكتب بحروف من ذهب؛ والثّالث زركش الفضاء بهواتف مِن أرقام؛ هنيئًا لكلّ ذي معرفة أوقد النّور في الظّلام؛ ويستحقّ أن تُضاء له الأنوار كلّ حين.

هذا هو منطق "البذرة" الّتي تَجد الاهتمام منذ الغِراسة فتَصير "الثّمرة" حين النّضج؛ ألا يبدو اليوم أنّ المعرفة هي سلاح الأقوياء؟ أليستِ المعرفة هي أقوى سلاح مهذّب في الكون؟ ألم تَرفع أهلها إلى عِلّيّين مِثل ما رفعوها إلى عِلّيّين؟ هيّا نُنشِّطْ عقولنا؛ ونُعيد قراءة الأوراق لا خلْط الأوراق... نِعْمَ منطق البذرة والثّمرة.

 

في المثقف اليوم